الذكاء الاصطناعي... شبح يحوم في سماء صناعة النشر

يرجّح أن تكون انعكاساته على الكتاب أكثر اتساعاً وعمقاً

إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
TT

الذكاء الاصطناعي... شبح يحوم في سماء صناعة النشر

إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ
إضراب العاملين في صناعة الأفلام بهوليوود مطالبين بحمايتهم من تغوّل الذكاء الاصطناعيّ

لمس التطور المتسارع للتكنولوجيات الحديثة في الأتمتة والاتصالات معظم مجالات الإنتاج البشري، بما فيها صناعة النشر وتجارة الكتب التي شهدت خلال ربع القرن الأخير تحولات ثوريّة، لم يقل تأثيرها عمّا فعلته مطبعة غوتنبرغ بالكتب والقراءة والمعرفة في عالم الغرب بعد 1447.

فمن انطلاق متجر «أمازون» الإلكتروني في 1995 الذي أعاد تشكيل مشهد تجارة بيع الكتب بالتجزئة على نحو حاسم، إلى ظهور الكتب الإلكترونية، المقروءة منها والمسموعة، والتي هددت بشكل وجودي الجيوب التقليديّة لصناعة النشر برمتها، من لحظة الكتابة إلى طريقة وصول النصّ إلى يد القارئ -أو أذنيه- مروراً بإنتاج المادة موضوع التبادل؛ لا سيما مع توسّع إمكانات النشر الذاتي من قبل المؤلفين أنفسهم. وفي كل نقلة نوعيّة من هذه التطورات، اضطرت الصناعة إلى التكيّف، أو مواجهة اندثار محتّم.

واليوم، ثمة شبح اضطراب جديد يرجّح أن تكون انعكاساته على الكتاب أكثر اتساعاً وعمقاً في الوقت ذاته: إنّه صعود الذكاء الاصطناعي.

كانت لهذه التكنولوجيا الأحدث اختراقات مبكرة في بعض جوانب صناعة النشر، مثل التسويق والإعلان وإنتاج الكتب الإلكترونية والمسموعة، واستعان بها بعض المؤلفين لتوسيع مروحة إنتاجهم وإثراء مصادرهم؛ لكنها -وعلى نحو متسارع- تخلّق إمكانات قادرة على تغيير العمليّة برمتها، بما فيها فعل الكتابة نفسه، لدرجة أن الذكاء الاصطناعي يمكنه عمليّاً تأليف النصوص، وإعدادها للنشر، وطباعتها، أو إنتاجها إلكترونياً، والترويج لها، لا بل ورصد ردود أفعال النقاد والقراء عليها في الصحف والمواقع وعلى منصات التواصل الاجتماعيّ. ويمكن أن يقتصر دور البشر في هذه الوظائف كلّها على وضع المواصفات العامة المطلوبة للنص: طبيعته، ومحتواه، ومنهجيته، وأشكال إنتاجه وصيغها، والقنوات التوزيعية التي يراد عرض المنتج عليها. وحتى هذا الدّور يمكن –على الأقل على الصعيد النظري– أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة المبادرة بها كانعكاس لأمر آخر، مثل توفير أدوات لتغيير الرأي العام حول مسألة معينة، فيقرر الذكاء الاصطناعي تالياً أن كتاباً قد يكون من تلك الأدوات، فينتجه في برهة من الوقت قد لا تتجاوز ثواني قليلة.

ويمكن للجيل الحالي من أجهزة الذكاء الاصطناعي توليد أعمال فنيّة، وتصميمات ونصوص ومقاطع بصريّة مثيرة للدهشة في قدرتها على محاكاة أساليب فنانين ومصممين وكتاب مشهورين، حتى مجالات كنا إلى وقت قريب نظنّ أنها رهينة إلهام شيطان الإبداع، مثل كتابة الروايات الأدبيّة مثلاً. وتتوفر حالياً برامج للعموم، بعضها مجاني أو قليل التكلفة لتصميم أغلفة الكتب دون مصممين، ومعالجات تكتب قصصاً للأطفال، وأخرى لتدريب المؤلفين المبتدئين على التوسع في تطوير شخصيات رواياتهم، إضافة إلى برامج تدّعي أنها تحاكي نثر كتاب كلاسيكيين، مثل جين أوستن وإدغار آلان بو. ولا شكّ في أن الجيل التالي الذي لن يطيل المكوث في المستقبل سيمتلك قدرات أعظم بما لا يقاس.

في الغرب، تسببت هذه التطورات فيما يشبه موجة من الهلع، وانضم الناشرون والكتاب إلى الفنانين والمبرمجين ومنشئي المحتوى في الجأر بالشكوى ومقاضاة شركات الذكاء الاصطناعيّ، متهمين إيّاها بالاستخدام المجاني لأعمالهم وإبداعاتهم في تأهيل هذا الشبح، وتدريبه على إنتاج أعمال يمكن تدريجياً أن تستغني عن وجودهم كليّاً.

ويُضرب الآن كتاب السيناريو والممثلون ومختلف فئات العاملين بصناعة الأفلام في هوليوود، عاصمة صناعة السينما الأميركيّة، مطالبين بحمايتهم من تغوّل محتمل على مواهبهم من قبل الذكاء الاصطناعيّ. كما نظمت نقابة المؤلفين مؤخراً عريضة وقعها آلاف الكتاب، تطالب مجموعات التكنولوجيا بالحصول على موافقتهم قبل استخدام إبداعاتهم لتدريب برامج الذكاء الاصطناعي.

واعتبرت «بنجوين راندوم هاوس» أكبر دار للنشر في العالم، أن «ابتلاع» المواد المنشورة من قبل كومبيوترات فائقة التطور دون إذن مسبق، اعتداء صريح على حقوق الملكيّة الفكريّة. وسارعت عدة وكالات تمثل الرسامين بمراجعة قانونية شاملة لنماذج عقودها، لتتضمن منعاً صريحاً لاستخدام عملهم لتغذية خبرات برامج الذكاء الاصطناعي.

في بريطانيا التي يضيف ناشرو الكتب والمجلات فيها أكثر من 7 مليارات دولار سنوياً للاقتصاد القومي، التجأ كبار رجالات الصناعة إلى رئيس الوزراء، ريشي سوناك، كي يقود عمليّة حماية حقوق الملكيّة الفكريّة للمنتجات الإبداعيّة من شبح الذكاء الاصطناعيّ، وذلك على هامش قمّة عالميّة تعتزم المملكة المتحدة تنظيمها قريباً (نوفمبر «تشرين الثاني» المقبل) للبحث في توافق دولي حول تنظيم هذا الذكاء «من أجل استعمالات آمنة ومسؤولة» حسب تعبير أدبيات القمّة. وتحاول بريطانيا من خلال هذه القمّة فرض نفسها لاعباً رئيسياً على جهود يقوم بها الأميركيّون فعلاً بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي لهذه الغاية. وحثت جمعيّة الناشرين -في رسالة مكتوبة وجهت لسوناك- على فرض احترام حقوق الملكية الفكريّة عند استعمال المحتوى لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعيّ، وفرض ديناميّة للحصول على ترخيص مسبّق مقابل بدل مادي عادل.

وليس سرّاً أن مجموعات التكنولوجيا توظّف بالفعل المحتوى «الإبداعي»، مثل التصميمات والنصوص والصور والأصوات والألحان، من الصحف والكتب والفن والموسيقى، لتدريب نسخهم من أنظمة الذكاء الاصطناعي على إنتاج مواد على النسق ذاته، بتكلفة زهيدة للغاية، وبوقت قياسي. ويقول الناشرون إن هذا يعد بمثابة استخدام غير عادل لأصولهم من حيث المبدأ، ناهيك بالطبع عن إمكان الاستغناء عنهم مستقبلاً، وإنتاج مواد مثل سلاسل الروايات والمقالات الصحافية والأفلام والصور التي تستلهم روح الأعمال الأصلية دون المرور بهم. وحذر الناشرون من أن التخلي عن أساس الصناعة المتمثل في الحماية الفكريّة، من شأنه إلحاق الضرر بالإبداع الإنساني، فضلاً عن القضاء على سبل عيش أعداد هائلة من الفنانين، والباحثين، والمؤلفين، والناشرين.

وتشير تجربة استقصائية أجرتها شركة ألمانيّة معنية بصناعة النشر الإلكتروني، إلى أن 8 في المائة فقط من عينة واسعة من الأشخاص تمكنوا من اختيار صورة وجه بشري حقيقي، عندما وضعت إلى جوار 3 صور أخرى تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي. وقس بالطبع على ذلك في مقاطع أفلام الفيديو، والرسوم، والتصاميم، وربما النصوص أيضاً.

طالبت جمعيّة الناشرين في بريطانيا رئيس الوزراء بفرض احترام حقوق الملكية الفكريّة عند استعمال أي محتوى لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعيّ

ومع ذلك، فإن مجموعات التكنولوجيا تقول بأن شركات النشر تستفيد بالفعل من ثمار تطور الذكاء الاصطناعي، وإن دون الاحتفاء بذلك علناً. وهناك مؤلفون استعانوا بالفعل ببرامج متقدمة ساعدتهم في كتابة نصوصهم، وإعدادها في كتب جاهزة للنشر والتوزيع، بما في ذلك تصميم الصفحات والغلاف، وإعداد المواد الترويجية، وإنشاء أوصاف أفعل للمحتوى كي تتسع دائرة انتشار الكتاب عبر محركات البحث والتطبيقات المتخصصة. وحسب خبراء، فإن ثمة برامج تساعد المؤلفين على تلخيص المصادر الممكنة، وأخرى يمكنها إرشادهم في إدارة حبكة أعمالهم، وثالثة تقدم لهم بدائل حول لهجة وأسلوب الكتابة، وذلك سوى البرامج الذكية لرفع مستوى استخدام اللغة في الجمل الفرديّة وتحرير الفقرات، وتلاوة النصوص لإنتاج نسخ مسموعة. كما تتوفر لبقية المبدعين، سواء كانوا مصورين أو منتجي مقاطع فيديو أو رسامين أو حتى موسيقيين، أدوات جبارة موازية يسهل الوصول إليها عبر أجهزة الكومبيوتر الخاصة بهم، لمساعدتهم في مختلف مراحل عمليّة إنتاجهم الإبداعيّ.

وتأخذ الأمور طابعاً سوريالياً، إذ تطالب الشركات التي تنتج مواد «إبداعية» من خلال الذكاء الاصطناعي بدورها بإجراء تعديلات على التشريعات العالمية المعمول بها لحماية الملكية الفكريّة وحقوق المؤلفين والمبدعين، بحيث تمتد مظلتها لتشمل النصوص والأعمال المنتجة آلياً.

إن صناعة النشر تعيش الآن في خضم لحظة ثورة جامحة. وكما كل تغيير ثوري النزعة، سيسقط ضحايا كثيرون أبرياء على الجوانب؛ لكن لا شيء يمكنه أن يوقف تتابع موجات التقدم التكنولوجي أو تنظيمها -لا سيما مع تنافس الدّول الكبرى في هذا المجال- ولذا سيكون شكل العالم بعدها -وطرائق الإبداع، والكتب أيضاً- غيره قبلها.


مقالات ذات صلة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

ثقافة وفنون المؤرخة أود دو كيروس

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن».

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون عباس محمود العقاد

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».