القصة القصيرة تستعيد عافيتها في «زمن الرواية»

كتاب وناشرون مصريون يتحدثون عنها بعد تعدد إصداراتها وجوائزها

الكاتبة عزة سلطان
الكاتبة عزة سلطان
TT

القصة القصيرة تستعيد عافيتها في «زمن الرواية»

الكاتبة عزة سلطان
الكاتبة عزة سلطان

تشهد الساحة الأدبية المصرية عودة قوية لفن القصة القصيرة، الذي استعاد الكثير من وهجه القديم بعد سنوات طويلة من التهميش بدعوى أن مؤلفاته لم تعد «تبيع»، مثلها مثل دواوين الشعر. تمثلت هذه العودة في توالي إصدارات المجموعات القصصية بكثافة بعد أن كان يمر عام كامل ولا نسمع فيه عن كتاب قصصي واحد، كما استحدثت جوائز جديدة للقصة. وكان لافتاً إقامة العديد من الفعاليات والمنصات الخاصة بهذا الفن، كان آخرها «ملتقى القصة القصيرة»، الذي عقد الشهر الماضي بالقاهرة، و«ذاكرة القصة القصيرة»، التي تعد أول منصة إلكترونية تتخصص في توثيق هذا النوع الأدبي مصرياً وعربياً.

في هذا التحقيق، تستطلع «الشرق الأوسط» آراء كتاب وناشرين حول آفاق هذه العودة، وإلى أي حد أثرت مقولة «زمن الرواية» سلباً على فنون أخرى.

فن صعب شديد الدقة

في البداية، تشير الناشرة أميرة أبو المجد - العضو المنتدب بدار «الشروق» - إلى وجود قفزة حقيقية في إصدارات الدار من القصة القصيرة، مشيرة إلى أنها أصدرت ما يقرب من عشر مجموعات قصصية في الآونة الأخيرة، وهو عدد غير مسبوق بالنسبة لـ«الشروق».

وتوضح أميرة أبو المجد أن «القصة بطبيعتها فن صعب قائم على الدقة ولا يحتمل وجود أخطاء فنية بسبب طبيعتها المكثفة للغاية على عكس الرواية التي يمكن أن تحتمل بعض الأخطاء أو الهنَّات بسبب حجمها الكبير».

الناشرة أميرة أبو المجد

وتضيف: «القصة القصيرة شهدت نوعاً من الانتعاش مؤخراً حيث وردتنا نصوص تتميز بسلاسة وجمال اللغة التي تعد الأداة الأهم في يد المؤلف، فضلاً عن براعة اختيار الموضوعات المشوقة للقارئ، وهكذا لم يكن بوسعنا رفض نشر تلك الأعمال. وانتعاش القصة مؤخراً لا يأتي على حساب الرواية التي ستبقى الفن الأكثر إشباعاً للقارئ بسبب تعدد مناخاته وشخصياته وأجوائه».

الكاتب محمد مستجاب صدرت له مؤخراً مجموعة قصصية بعنوان «هشاشة عظام» ضمن سلسلة «إبداعات عربية»، التي تصدر في «الشارقة».

الكاتب محمد مستجاب

يعبر عن رفضه لمقولة «زمن الرواية» بوصفها تعبر عن رؤية قصيرة وغير حقيقية. ويقول: «ستظل القصة هي النهر الخصب الذي ينهل منه جميع الفروع مثل الخواطر والرواية والقصة القصيرة جداً، ونحن هنا لا نريد أن نرفع لواء الحرب أمام الرواية أو الشعر مثلاً، لكن القصة بمواصفاتها ستظل مساحة حميمة لجميع الكتّاب. ومن الملاحظ أن تعدد الجوائز مؤخراً، لا سيما (جائزة الملتقى للقصة القصيرة)، التي تنطلق من الكويت للعالم العربي كله جعلت الكثيرين في مصر وغيرها يعودون لكتابة القصة، وطرحت أسماء من جهات عدة سواء من سوريا أو المغرب أو مصر والسودان».

مساحة حرة للإبداع

وللكاتبة عزة سلطان سهم وافر في الإنتاج القصصي، حيث صدرت لها مجموعات عديدة منها «أحمد رجل عادي جداً» و«امرأة تلد رجلاً يشبهك» و«تماماً كما يحدث في السينما» و«جسد باتساع الوطن».

تقول عزة سلطان: «عودة الروح للقصة القصيرة مؤخراً من خلال عدد من الجوائز والأنشطة والفعاليات شيء مبهج للغاية، لكني أتعامل مع فن القصة بوصفه مساحتي الحرة في الإبداع، ويأتي شكل العمل وفق الموضوع والمعالجة، وكون أن أعمالي القصصية أكثر عدداً من الرواية، فهذا يعود لطبيعة ما أطرحه من أفكار، الأمر بالنسبة لي مرتبط إذن بالأفكار والقضايا التي أرغب في مناقشتها، ولا أهتم بموضات الكتابة والرائج منها في الأسواق».

الكاتبة عزة سلطان

وتتحفظ عزة سلطان على الحديث عن تهميش القصة «أو أي نوع أدبي» باعتبار أن ذلك أمر غير دقيق، لأن الوسط الثقافي تحكمه غالباً مصالح ومجاملات، فيظهر الاهتمام بعمل ما لأن صاحبه شخص محبوب أو ذو نفوذ أو يمكن أن يمرر بعض المنافع سواء الأدبية أو المادية، وعلى سبيل المثال نجد عملاً ما ملء السمع والبصر، فهل هذا يعني أنه أفضل ما نُشر في نوعه؟ هل يعني أنه لا توجد أعمال أخرى في مستواه أو ربما تفوقه؟

وبدأ الكاتب مصطفى الشيمي رحلته مع الأدب بكتابة القصة القصيرة، وحصل فيها على عدة جوائز أدبية من بينها جائزة «دبي الثقافية» عن مجموعته القصصية «بنت حلوة وعود»، لكنه يعترف أنه مثل كثيرين فضلّ أن يكون عمله المنشور الأول في جنس الرواية.

الكاتب مصطفى الشيمي

يقول: «كنتُ أخشى من النظرة السائدة بشأن كتاب القصة القصيرة أو إلى جنسهم الأدبي الذي يراه البعض بوصفه أقل منزلة من الرواية. البعض ينظر للقصة القصيرة بوصفها استراحة قصيرة، على مستوى القراءة أو الكتابة وفي هذا ظلم لها، فهي أكثر تكثيفاً وتنقل لمحة من العالم شديدة الشاعرية. ومع إدراكي الكامل بنفوذ الرواية، ما زلت أرى أن هذا العصر، عصر السرعة، عصر السوشيال ميديا والتويتات القصيرة والفيديوهات التي لا تتجاوز الثلاثين ثانية، هو عصر يتسع للقصة القصيرة أيضاً، بل هو عصر تستطيع القصة القصيرة أن تعيش فيه أكثر من أي وقت آخر».

ويضيف الشيمي، الذي صدرت له مؤخراً المجموعة القصصية «هكذا تكلم الذئب»: «أعتقدُ أن الجوائز الأدبية ورعاية القصة القصيرة يدفع هذا الجنس الأدبي للبقاء أكثر، ومقاومة هيمنة الرواية، مع ذلك، يجب أن نرى رعاية هذه المؤسسات للقصة القصيرة في ضوء مفهوم الفيلسوف الإيطالي غرامشي، الذي يرى هذه المؤسسات بوصفها حراساً للبوابات، ودورها في الرعاية يقوم على اختيار وتعزيز نمط ما من الكتابة، يتوافق بالضرورة مع آيديولوجيتها وقيمها الخاصة، وهو ما يعني بصورة ما أن هذه المؤسسات ستبحث في القصة القصيرة عن الرواية، أي على ترويج خطاب آيديولوجي ما. وهو خطر يجب التنبه إليه لأن هذا التطور لا يغير من حركة السوق فقط، لكنه قد يغير من ملامح القصة أيضاً».

العودة للحب الأول

الكاتب محمد البرمي يستعد لصدور مجموعته القصصية الثانية «يجذب المعادن ويحب الكلاب» قريباً عن دار «الكتب خان» بالقاهرة. وهو يرى أنه خلال الفترة الأخيرة استعادت القصة بريقها بشكل كبير، خاصة مع ظهور أجيال جديدة من الأدباء والقراء على حدٍ سواء تؤمن بأهمية هذا اللون الأدبي وتهرب من النمطية أو ضرورة كتابة الرواية كفرض عين كي يتحمس الناشر، وهو ما ساهم أيضاً في تغير فكر العديد من الناشرين الذين بدأوا ينظرون لهذا النوع الأدبي على أنه ضرورة تلائم ذوق الكثير من القراء.

الكاتب محمد البرمي

ويتوقع البرمي أن تشهد الفترة المقبلة عودة كتاب وروائيين كبار ممن هجروا القصة لصالح الرواية لمزاولة هذا الفن الذي يقوم على التكثيف، وهو ما يعكس حالة من التشبع أصابت الوسط الثقافي بسبب كثرة الروايات وقلة الجودة... في النهاية أعتقد أن القصة القصيرة مثل الحب الأول، ودائماً سيفضل الكتاب العودة إليها.

ومن جانبه، يرى الناقد والروائي الأكاديمي د. محمد سليم شوشة أن انتشار الرواية مقابل تراجع القصة في السنوات الماضية لا يعود إلى مقولة «زمن الرواية»، التي أطلقها د. جابر عصفور بقدر ما يعود إلى عوامل أخرى تتصل بفن الرواية من حيث جوهرها وسماتها كنوع أدبي جعلتها أكثر شيوعاً وازدهاراً دون غيرها من الأنواع الأدبية الأخرى، وجعلها تمثل حالة اتصالية جمالية فريدة ومختلفة عن القصة القصيرة التي تظل نخبوية وذات طابع تكثيفي في نمطها السردي وتمثيلها للحياة أو تمثيل قيمها.

الناقد محمد سليم شوشة

يضيف شوشة: «الرواية قادرة عبر شموليتها ومرونتها على أن تستوعب بداخلها فن الشعر أو القصة القصيرة وتهضمهما بالضبط بقدر ما تستطيع الاستحواذ على الفنون التشكيلية والفنون البصرية مثل السينما أو الدراما التليفزيونية، كما أن الرواية قادرة على التجاوب مع احتياجات ومتطلبات ونوازع قرائية مركبة ومختلفة بما يفوق قدرة الأنواع الأدبية الأخرى».


مقالات ذات صلة

صاحب «باب الشمس»... رحيل الروائي اللبناني إلياس خوري

ثقافة وفنون إلياس خوري في صورة من عام 2007 (أ.ب)

صاحب «باب الشمس»... رحيل الروائي اللبناني إلياس خوري

نعت الأوساط الثقافية الروائي والكاتب اللبناني إلياس خوري الذي رحل، صباح الأحد، عن 76 عاماً، مخلّفاً عدداً كبيراً من الروايات، خصوصاً حول مأساة فلسطين.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

الحب والجمال والحزن... تحت مظلة الشعر

الحب والجمال والحزن... تحت مظلة الشعر
TT

الحب والجمال والحزن... تحت مظلة الشعر

الحب والجمال والحزن... تحت مظلة الشعر

تشكل مفارقات الحزن والجمال، الغيب والرؤية، الثورة والوطن، مرتكزاً فنياً في ديوان «يد بيضاء في آخر الوقت» للشاعر والناقد الأدبي محمد السيد إسماعيل، ولا تأتي هذه المفارقات في إطار فكرة محددة، إنما تتوالد من نسيج حالة شعرية مفتوحة على تداعيات الواقع والحياة، فيما تشكل اليد البيضاء محوراً للرؤية، حيث تتناثر رمزيتها وتتنوع دلالاتها في معظم القصائد، فتارة هي اليد البيضاء التي لم يمسسها سوء، حسب الميثولوجي الديني، وتارة هي اليد التي تربِّت على الحديقة: «الحديقة الصغيرة التي تشبه سرَّاً مطارداً»، كما أنها المذنبة الشريرة، وهي اليد الخاطفة للذات بنعومتها الطافرة في الجمال، التي تنعكس عليها همومها الشاعرة، بخاصة في النظر إلى الأنثى عاطفياً، ثم هي اليد المنقذة التي تنتشل الذات في اللحظة الأخيرة، «في آخر الوقت» من الغرق في الحزن والسأم والضجر، إنها رمز للنقاء والخلاص في عالم أصبح موحشاً ومشوهاً وكارثياً.

في النص الأول الذي وسم عنوان هذا الديوان الصادر عن «دار أروقة» بالقاهرة في 80 صفحة، تومض ماهية هذه اليد من خلال علاقتها بنثريات الحياة والوجود؛ بالهواء والوقت والضوء والبحر، ويتنقل النص بسلاسة لغوية ما بين المشهد وخلفيته، في مونولوج داخلي حار، يصنع خيطاً شفيفاً من الذبذبة البصرية الموحية على العين، كأنها تشاهد لوحة فاتنة الجمال، تشكل خلاصة كينونة الأنثى المشتهاة... يعزز ذلك أن الشاعر يستهل النص بتساؤل حائر موجهاً الخطاب إلى الأنثى قائلاً:

«كيف تمشين على الأرض

هكذا

كأنها محرابك الأخير؟

لا أودُّ الإجابة

بل أودُّ المزيد من الوقت

كي أتأمل أناملك الرهيفة

وهي تدفع الهواء - بهدوئها المعتاد - إلى البحر

لا أريد الرؤية

بل أودُّ المشاهدة الأولى

المشاهدات التي تتيح لي حساب مساحات الضوء

التي تشكل خلفية المشهد

وأنت تقفين أو تحلقين - لا فرق - في منتصف المسافة،

لا أتحدث عن اقترابها الحميم من السِّر

لا أتحدث عن خروجها من سيرة الوقت

بيضاءَ من غير سوء

بل أتحدث عنها:

اليد ذو الأصابع الجميلة والخاتم الفضي

لا لأنها تختصر المسافة بين باريس والقاهرة

أو لأنها تبحث - ببراعة - عن شرعية الحياة ومصائر الخلق

بل لأنها تحترف - دونما قصد - تدريب العين على رؤية الجمال»

عبر هذه اليد البيضاء لا يقترن الحلم بالمرأة فحسب، إنما يقترن في الوقت نفسه بالسؤال عن معنى الحياة والجمال، وهو سؤال يتواتر في معظم القصائد بتراوحات مختلفة، فهو ابن اليقين والشك معاً، ابن الحيرة والطمأنينة، لكنه مع ذلك يمتلك القدرة على العبور والتحليق فيما وراء الأشياء والعناصر، بحثاً عن حقيقة بسيطة لكنها مغوية في بساطتها، تظل قابلة للتكشف، والتعبير عن نفسها بشكل جديد ومفاجئ.

يساعد على هذا براح قصيدة النثر والخروج من أسر المضمون الجاهز والمعيار الضيق للشعر، حيث يتراءى هذا الحلم، في كثير من نصوص الديوان، كرحلة في الزمن دائمة التساؤل عن كُنه الأشياء والوجود، عن البدايات والنهايات، عن الوقت، والمسافة الرخوة بين الكلام والصوت... وسط كل هذا ثمة نزوع للتمرد يبدو كملاذ أخير للذات، تتأمله، ليس كمحض رغبة في التجاوز والتخطي، إنما كسلاح لفكك شفرة الوجود والخلاص بالشعر من تطوحات الرؤى وشرنقة الظنون.

يبلور الشاعر هذا المعنى في الجزء الأخير من نص بعنوان «في منتصف الليل»، يشكل ثنائية شعرية مع نص تال له بعنون «هكذا بعد منتصف الليل» يجمعهما قاسم مشترك هو البحث عن الأنثى المشتهاة ويدها البيضاء الساحرة الشاردة، يقول:

«أودُّ الآن أن أخرج من الإيقاع

أن أفك شفرته

أن أتخفف قليلاً من كونشرتو نقابة الممثلين

وهي تغسل قدميها قريباً من قاع النهر

أو تصطاد سمك القيلولة

فساعديني إذن

أن أرى عينيك دائماً

لعلني أكتشف كيف يصبح الحزن - دون معجزة كبيرة - المدخل

الحديث للجمال

وكيف يصبح الجمال الهدية الأخيرة التي وهبها الله للحياة

الهدية الأخيرة التي اكتشفت أنني أسير نحوها

طوال هذه السنين».

لا يبحث النص عن الجمال بقوة الأنثى، إنما بقوة الرغبة في الخروج عن الإيقاع، إيقاع الحياة الرتيبة المملة، التي تعيد استنساخ نفسها في أدوار ومشاهد مكرورة، لذلك يريد أن يرى حبيبته في مشهد آخر وهي تتطهر من كل هذا المسخ، تشي بذلك رمزية غسل القدمين في النهر، وصيد السمك، في لمحة لا تخلو من رذاذ طقسي، ومن ثم يبرز السعي إلى اكتشاف الجمال في بساطته وتلقائيته دون معجزة كبيرة كما يقول النص.

بهذه الروح ابنة الفطرة يضع الشاعر حياته وشعره وحبيبته دائماً على مشارف يقين ما، يقف خلفه كطفل يراقب الأشياء في سطوعها وخفوتها، في نأيها وقربها، وكأنها ظل يبحث عن نقطة ثبات في مرآة رحلة مراوغة. يطالعنا ذلك في نص بعنوان «خلف ذلك اليقين» تعلو فيه نبرة الرجاء وتكتسي بمسحة صوفية، والرغبة في إعادة اختبار الأشياء من نقطة الوجد بالحبيبة ومكاشفتها، وهي نقطة تتأرجح دائماً ما بين الثقل والخفة، فالذات الشعرية لا تمتلك اليقين، ولا تدعيه، إنما تكتفي بالوقوف خلفه كعتبة أبعد للحلم والرؤية.

«دعينا إذن نختبر ما سوف يحدث

كأن أمضي - مثلاً بلا إرادة ـ خلف ذلك اليقين

وأنا ممسك بأثوابه الصافية

وبعد أن نصل إلى منتصف الطريق

أقول له كعاشق لا يرى عتبة البيت:

لقد اقتربنا

اقتربنا كثيراً

أليس كذلك؟

فيرد بلا اكتراث:

استفت قلبك أنت

واستشعر النور القريب».

من السمات اللغوية اللافتة في الديوان استخدام أدوات التشبيه بشكل مغاير أسلوبياً ومجازياً أحياناً، على نحو مباشر، من قبيل «مثل صخرة كبيرة»، «مثل شاعر قديم»، «مثل نقطة سوداء»، وأحياناً على نحو غير مباشر من قبيل «هكذا في طريق عام»، «هكذا بعد منتصف الليل». اللافت أيضاً أن هذه السمة الأسلوبية لا تركز على استجلاء طبيعة العلاقة النمطية بين المشبه والمشبه به في هذه النصوص، بقدر ما توفر فضاءً خاصاً لحضور الذات الشاعرة بتمثلاتها اللاعجة المتأرجحة دائماً ما بين المرئي واللامرئي، ما بين المشهد في عيانه المادي المباشر، وما يضمره في الظلال الرمادية الداكنة التي تكمن في الخلف:

«أنا رجل سيئ الحظ

أجيء - دائماً - بعد فوات الوقت

بعد أن تكون الوردة قد مضت لمصبها الأخير

فأقف متحسراً

تعتصرني اللوعة

وأنا أتذكر كيف مضت الساعات كلها

دون أن تمر بهجة واحدة

لا يهمني الآن اسم الوردة

ولا عبيرها الذي اختفى بين أصابعي

يهمني فقط أن أقف على أطلالها

مثل شاعر قديم»

لا يخلو النص من نبرة تشي بالسخرية من الذات نفسها، ومن العالم الكائن حولها، لكنها مع ذلك تدرك أن الأسماء دون فعل تظل محض صورة ذابلة بلا معنى، فاقدة لدبيب الحياة في شرايينها، مهما اشتدت نوازع الحنين إلى هذه الصورة... «الحنين إلى شجرة/ لا يعني - فقط - الحنين إلى ظلها الذي افتقدناه منذ سنوات بعيدة/ لا يعني أننا نحلم بالحب/ فكل شيء يذهب ويأتي في غفلة منا». إنها إذن شعرية الفكرة التي ينميها الديوان ويوظفها كنافذة حية ومتجددة في النظر إلى الواقع والحياة، وأصدقاء شكلوا رافداً حياً في تجربة الشاعر. إنها الصورة الحية التي لن تذبل في طوايا الروح والجسد، مثل صورة الميدان، مفجر الغضب، في إشارة لثورة 25 يناير2011:

«سأتوقف كثيراً أمام هذا الميدان

مستعيداً ما رأيته على مدى ثمانية عشر يوماً

حين توحدت كل هذه الأجساد

كي تتحول - بلحظة واحدة - إلى كائن لم نره من قبل

رغم أنه كان يسير أمامنا كل يوم

باحثاً عن طعام أبنائه

تقدح الشمس جبينه

ويلسع الشتاء ظهره العاري».

في الختام، هذا ديوان مهم في سياق الشعرية الجديدة، ومن المؤسف حقاً أنه لم يلق الاهتمام اللائق به، رغم أن صاحبه يتابع بدأب أكاديمي وبصيرة نقدية كاشفة معظم التجارب الشعرية وغيرها التي تصب في هذا المجرى.