لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة

درويش مع عرفات
درويش مع عرفات
TT

لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة

درويش مع عرفات
درويش مع عرفات

لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة كان ياسر عرفات يتعامل مع محمود درويش كصديق شخصي، أبوابه مفتوحة أمامه، وكل الوقت له، وكان يدرك مغزى أن يكون الشاعر الأكبر في واجهة القيادة، وحين كانت القوى السياسية تتزاحم على المواقع من «المجلس الوطني إلى المركزي إلى التنفيذية» كان محمود درويش مرشح عرفات الدائم، وكان نجم الثقافة يعتذر.

إلحاح عرفات على ضم سيد الثقافة إلى منظومة القيادة نابع من حاجته لتعزيز قيادته للحالة الفلسطينية، بحضورٍ لشاعر إجماع يتوازى معه في الجماهيرية، ويُنتج صدقية لا جدال عليها، في البعد الإنساني والإبداعي والحضاري، لثورة شعب، كان خصومها الأقوياء والنافذون يصوّرونها على أنها مجموعات قطّاع طرق.

وفي إطلالات عرفات على العالم عبر الشاشات وسائر وسائل الإعلام، كان محمود درويش حاضراً كبرهان ساطع على أن ثورة الشعب الفلسطيني، إنسانية إبداعية ثقافية عادلة.

أدرك محمود درويش أن مكانته عند شعبه وأمته والعالم، تنبثق من التربة الفلسطينية، وأن شعره ونثره نتاج معادلة الألم والأمل، فهو يجسد الألم الفلسطيني الذي كابده منذ طفولته، ويفتح أبواب الأمل على غد سيأتي.

لم يكن يعرف ياسر عرفات حين نظم شعراً غزيراً وعميقاً عن وعود العاصفة، ولم يكن عرفات يعرفه حين كان يعدّ العدة مع رفاقه لإطلاق ثورة العاصفة، إلى أن التقيا، ذلك حين شاءت أقدار الاثنين أن يعملا معاً كلٌّ من على قمته.

بيروت محلة الفاكهاني:

= محمود فين، زمان ما شفته... يا ريت لو ييجي يتغدى معايا. =

سألنا عنه... هو خارج البلد.

= هاتوه على التليفون.

ينطلق جيش للبحث عن الشاعر، فيجده.

= انت فين سايبني لوحدي، تعال احميني من جماعتك.

«يقصد الشعراء والمثقفين الذين يُحرجونه بجذريتهم التي لا تتناسب مع مناوراته السياسية».

=والله يا أبو عمار ما أنا عارف، مين يحمي مين، أظن أنهم بحاجة إلى حماية منك وليس العكس.

= الله يسامحك يا خويا. كانت المكالمة تطول وتتشعب، وكان الشاعر وَبِوحيٍ من إدراكه لمكانته يفصح عمّا يجول في خاطره من أفكار فلا حواجز بينه وبين صديقه «كان خطأ يا أبو عمار أن تفعل كذا وكذا والأصح كذا وكذا». = تعال انت بس، وأنا بوضحلك كل حاجة. أكثر الأمكنة التي اجتمع فيها الاثنان كانت بيروت، ثم تونس، وأخيراً الوطن.

= والله يا محمود لولا إني يا خويا بعرف إنك بتتأخر في النوم لأفطرنا معاً.

= يا سيدي بنتعشى... ورايح أجيبلك «كتيبة الإبداع» بس بدّك تطوّل بالك عليهم. «كتيبة الإبداع تتشكل من أقرب أصدقاء محمود... لبنانيين ومصريين وعراقيين وسوريين، صحافيين وشعراء وأكاديميين». عرفات يتناول عشاءه عند منتصف الليل، وحين يلتقي كتيبة الإبداع يسأل عن الغائبين ممن يعرفهم، وعلى المائدة التي تخلو مما يحب المبدعون يتواصل حوار كله انتقاد يشارف حدود الإدانة، فالمثقفون جذريون في اعتراضهم على السلوك البراغماتي لياسر عرفات، أما هو فجذريٌّ فقط في اعتناق الهدف. كان عرفات وكلما ضيّق المبدعون الخناق عليه يلوذ بمحمود.

= مش أنا دائماً بقولّك احميني، مش كده برضو يا معين، ويا طلال ويا نهاد... كان يعرف أسماء جميع الجالسين. مع أول خيط لفجر يوم جديد ينفضّ العشاء بعد أن يكون المبدعون قد قالوا كل ما يجول في خاطرهم، أما ياسر عرفات فكان يعمل بكل ما تمليه البراغماتية والحسابات. شاعر على رأس الهرم التنفيذي ملاحظات درويش الانتقادية في الشأن السياسي لفتت نظر عرفات إلى أن محمود ليس مجرد شاعر عظيم، بل هو سياسي من طراز فريد، لذا زاد إلحاحه على أن يضع الرجل إلى جانبه على رأس الهرم القيادي.

= إحنا يا محمود وبعد ما طلّعونا من بيروت، عايزينك في اللجنة التنفيذية، والمرة حسمّيك رضيت أو لم ترضَ والمجلس الوطني على الأبواب.

= يا أبو عمار أنا معك سواء كنت في تونس أو باريس أو أي مكان، بلاش حكاية اللجنة التنفيذية، أراها قيداً ضررها أكثر من نفعها، «خليكم في حالكم وخلوني في حالي».

= يا خويا استحملني... لازم يعني لازم، والله بيعينّا على ما بعد بيروت.

= طيب أعطيني كام يوم أقلّب الأمر في ذهني.

= فكّر وخذ وقتك، لكن قراري اتُّخذ. خلال أيام قليلة واجه محمود حملة سيَّرها عليه عرفات، وجد الشاعر نفسه محاصراً بنفوذ القائد.

= يا سيدي أنت تأمر. = بارك الله فيك وحيكون معك صديقك أبو هادر «شفيق الحوت». وقال ضاحكاً: «كدة حتكون اللجنة التنفيذية لجنة مثقفين»! حين سُمي محمود درويش عضواً رسمياً في اللجنة التنفيذية لم يقبل بأن يكون وردة تُعلَّق على صدر القيادة للتجميل، فتوغل في العمل السياسي وأدى دوراً بارزاً في مهمات حساسة، كان من ضمن المجموعة الضيقة التي تم تشكيلها للإشراف المباشر والتفصيلي على المحادثات السرية التي جرت في أوسلو، وقبل ذلك، كان قد عمل على متابعة مسألة الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير مع الوسطاء الأوروبيين. غير أن الأدوار التي لعبها من موقعه الرسمي، لم تكن لتؤثر في العمق على قناعاته الخاصة، كان يدرك أهمية الاعتراف الأميركي بمنظمة التحرير فعمل على ذلك، إلا أنه كان متحفظاً على الكثير من الصيغ السياسية التي كان يجري تداولها بعد نشوء علاقات رسمية علنية وإن بمستوى منخفض مع الأميركيين، لم يكن مطمئناً إلى أن الأميركيين والإسرائيليين سيكونون أوفياء بما يتعهدون به، لذا لم يكن ممكناً للشاعر المثقف أن يواصل المواءمة بين قناعاته الجذرية، والتكتيكات التي تمليها حاجة السياسيين، فقرر الخروج من القيادة. = هذه استقالتي أيها القائد العام. أرسل عرفات مبعوثين من أصدقائهما المشتركين لإقناع الشاعر بالعدول. كان ذلك بعد التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات أوسلو. كان عرفات يدرك كم سيكون صعباً عليه إقناع الجمهور الفلسطيني بصوابية مخرجات أوسلو، إذا ما اتخذ الشاعر الأكبر موقفاً سلبياً منها أو مُديناً لها. إن خصوم أوسلو لا بد أن يستخدموا موقف الشاعر ورصيده الجماهيري الضخم، للنيَل مما أقدم عليه عرفات ومَن معه من منظمة التحرير. ولكي يجنّب درويش نفسه وضعاً كهذا، تعهد بألا يعلن أن سبب استقالته هو اتفاق أوسلو، فقرر التعايش مع أهم ما أتى به دون تبنيه، وهو إتاحة الفرصة له كي يعود إلى بعض الوطن.

= محمود أقبل استقالتك بشرط...

= أنا موافق على شرطك قبل أن تقوله.

= أن تتفرغ للشعر. محمود الذكي واللماح فهم ما بين الكلمات القليلة التي قالها عرفات.

= مع أن لي تحفظات كثيرة على أوسلو، وسبق أن أوضحتها لك، سأعمل على الاستفادة منها، سأعيش في رام الله لأكون قريباً من أمي في الجليل.

= طبعاً أنت لسا بتحنّ لخبزها وقهوتها. مرثية درويش لعرفات شاء القدر أن يموت عرفات قبل محمود درويش، رثاه بنثرية رائعة، وهذا بعض منها: «لم يزاول مهنة الهندسة لتعبيد الطرق، بل لشقِّها في حقول الألغام»... «صارت كوفية عرفات المعقودة بعنايةٍ رمزية وفلكلورية معاً هي الدليل المعنوي والسياسي إلى فلسطين»... «صار ضرورياً في حياتنا إلى درجة الخطر»... «لم يعد أمام ياسر عرفات إلا الرهان على قدر لا يستجيب وعلى معجزة لا تطيع هذا الزمن، المقاطعة مقره ومنزله الوحيد ينهار عليه غرفة غرفة وهو يردد في نبرة نبويّة شهيداً شهيداً شهيداً»... «هكذا صار حصار عرفات أمراً مألوفاً، ثلاث سنوات من تسميم الحياة، ثلاث سنوات من الكد الإسرائيلي لتجريد عرفات من صلاحياته وصلاحية رمزيته، بيد أن الفلسطينيين قادرون دائماً على الترميز؛ حصار الرئيس رمز لحصارنا، ومعاناته رمز لمعاناتنا، فهو معنا وفينا ومثلنا، نحبه لأننا نحبه، ونحبه لأننا لا نحب أعداءه»... «خرج المحاصَر من حصاره ليزور الموت في المنفى، وليزوّد الأسطورة بما تحتاج إليه من مكر النهاية، لقد منحنا الوقت ليتدرب الحزن فينا على أدوات التعبير اللائقة، ففي كل واحد منّا شيء منه، هو الأب والابن». وفي مرثيته لم يتخلَّ عن انتقاده البليغ والمهذب، حيث قال: «لكن المفاجآت كانت تعمل في مكان آخر، فهذا الكائن الرمزيّ العائد من تأويلات إغريقية، كان في حاجة إلى التخفيف من عبء أسطورته، لأن البلد بحاجة إلى بناء وإدارة، وإلى التخلص من الاحتلال بوسائل جديدة، وهو الآن مكشوف أمام الجميع عُرضة للمسّ والهمس والمساءلة، ومن سوء حظ البطل أن عليه أن ينتصر على الأعداء في معارك غير متكافئة من جهة، وأن يصون صورته في المخيلة العامة من نتوءاتها الداخلية». مات الصديقان. لم يريا انكسار الحلم مع أنهما أحسّا به: القائد في حصاره، والشاعر في خيبات أمله. مات عرفات بعد احتضار طويل في المنفى البعيد، ومات محمود بعد دقائق من شق صدره لمعالجة قلبه في المنفى الأبعد. دُفنا في جوف الأرض الفلسطينية. على بُعد قبلة من القدس، حظي عرفات بضريح بدا كما لو أنه جزء من حياته اليومية، كان يحب أن يعمل ويأكل وينام في مكان واحد، وها هو الضريح أُقيم تحت شرفة مكتبه، وإلى جوار مهبط المروحية التي حملته مريضاً إلى باريس، وأعادته شهيداً شهيداً شهيداً. أمّا صديقه محمود... فقد وضع ضريحه على قمة جبل في رام الله تطل على البحر الفلسطيني. هي ملحمة صاغها شعب أنتج ظاهرتين قريبتين من المعجزة؛ قائداً اسمه ياسر عرفات، وشاعراً اسمه محمود درويش الذي وصف حالتهما منذ بداية الطريق إلى ما لا نهاية. «هذا هو العرس الذي لا ينتهي... في ليلة لا تنتهي... في ساحة لا تنتهي... لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلا شهيداً أو شريداً».

* كاتب فلسطيني


مقالات ذات صلة

جاهدة وهبة «تعيش مع الضوء» وتجول العواصم بصوتها دعماً للبنان

يوميات الشرق الفنانة اللبنانية جاهدة وهبة (صور الفنانة)

جاهدة وهبة «تعيش مع الضوء» وتجول العواصم بصوتها دعماً للبنان

كان لا بد أن تعود الأغنية لتنبض في حنجرة جاهدة وهبة بعد صمت صدمة الحرب. وها هي الفنانة اللبنانية تحمل أغنيتها وتجول العواصم الأوروبية والعربية رافعةً صوت وطنها.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
ثقافة وفنون قصيدتان

قصيدتان

متحف العائلة رغم رحيلها لم تخسر الفتاة غرفتها في بيت العائلة المزدحم لم تسمح الأم أن يتوارث الباقون مكانها، حولت غرفتها إلى متحف: احتفظت بالبوسترات…

ثقافة وفنون رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

أصدر مخلص خليل عدداً من المجموعات الشعرية، وكان من الأصوات البارزة في فترة السبعينات.

يوميات الشرق صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام.

فاطمة عبد الله (بيروت)

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك

عاجل «إف.بي.آي» يحبط خطة إيرانية لاستئجار قاتل لاغتيال ترمب (أسوشييتد برس)