إيلزه كرينتز وهاينريش هاينه: منحته الحدب والحب فمنحها السبيل إلى الخلود

المرأة اللغز التي تفتحت كزهرة أخيرة في خريف الشاعر العاطفي

هاينه
هاينه
TT

إيلزه كرينتز وهاينريش هاينه: منحته الحدب والحب فمنحها السبيل إلى الخلود

هاينه
هاينه

لم يكن الشاعر الألماني هاينريش هاينه تفصيلاً عابراً على خريطة الشعر في بلاده التي كانت قبل قرنين من الزمن، تغلي على صفيح ساخن من الزلازل السياسية والاجتماعية والفكرية. وإذا كان هذا الغليان بالذات هو الذي سمح للعبقرية الألمانية بالوصول إلى ذروة تجلياتها الفلسفية والإبداعية، على مفترقي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فسمح بظهور قامات فريدة من طراز بيتهوفن وكانط وغوته وشيلر وكيركغارد وشوبنهاور وكارل ماركس، فإن هاينه من جهته كان جزءاً لا يتجزأ من تلك العبقرية، وهو الذي شكّل جسر العبور الأهم من الزمنين الكلاسيكي والرومانسي، باتجاه الأزمنة الحديثة التي قادها كل من إدغار ألان بو وبودلير ولوتريامون وغيرهم نحو مناطق وكشوف غير مسبوقة.

ومع أن معظم الشعراء والمبدعين لا ينالون ما يستحقونه في أثناء حياتهم من تقدير، فإن هاينه استطاع أن يلفت إليه الكثير من نقاد عصره ومفكريه، وفي طليعة هؤلاء كارل ماركس الذي ربطته به صداقة وطيدة وعده «أعظم الشعراء الألمان بعد غوته». لا بل إن إعجاب ماركس بكتاب هاينه «الأغاني» دفعه إلى أن ينسج على منواله في ديوانه «كتاب الحب»، قبل أن ينصرف عن الشعر بشكل نهائي. وفيما رأى فريدريك هيبل أن هاينه «استطاع أن يحوّل أكثر النبرات يأساً إلى همسات موسيقية مؤثرة»، لم ينظر غوته إليه بعين التبجيل، واصفاً إياه بالزقاقي وابن الشوارع، رغم أن هاينريش رأى صاحب «فاوست» بوصفه «الشخصية المطابقة لفكرة العبقرية».

على أن هاينه لا يَدين بما حققه من مكانة عالية لموهبته وحدها، بل لمكابداته الشخصية المؤلمة، كما لإصغائه العميق إلى روح عصره وأسئلته الشائكة، وانحيازه إلى قوى التغيير، رغم ما رتّبته عليه مواقفه الصلبة من أعباء وتبعات. ففي المستوى الأول كابد هاينه، المولود باسم هاري عام 1797 لأسرة يهودية متوسطة الحال، الكثير من عَنَت أعمامه وأقربائه الذين استغلوا ضعف أبيه وإصابته بالصرع للاستيلاء على حصته من ثروة العائلة، فيما لم يكن اعتناقه البروتستانتية وتعميد نفسه باسم كريستيان، ليحل مشكلته مع محيطه الاجتماعي. ذلك أن مواقفه المتسمة بالسخرية اللاذعة من المؤسسة الدينية المتزمتة، كما من الإمبراطورية البروسية المسرفة في رجعيتها واستبدادها، قد حدت بالأولى إلى منع كتبه ومصادرتها، فيما دفعت الثانية إلى تضييق الخناق عليه، ففر إلى فرنسا متخذاً من باريس مقر إقامة له، وهو الذي شكلت الثورة الفرنسية مصدراً لإعجابه وإلهامه.

أما على المستوى العاطفي فيشير معظم المصادر التي أرّخت لحياته، وبينها كتاب ماجد الخطيب «هاينريش هاينه... روح الشعر الألماني». إلى أن هاينه دفع غالياً ثمن خياراته النسائية السيئة وغير الموفقة. ففي الخامسة عشرة من عمره شُغف الفتى المراهق بجوزيفا ذات الشعر الأحمر، وابنة جلاد دوسلدورف الرهيب، وسليلة عائلة عريقة من الجلادين. ومع أن عالم الأشباح والدم والسحر الأسود، قد رفد مخيلته الشعرية بالكثير من المفردات والصور غير المألوفة، فإنه أسهم بالمقابل في تسميم روحه وجعله فريسة سائغة لمختلف أنواع الوساوس والكوابيس. ولعل الحادثة الأكثر غرابة التي وقعت له مع جوزيفا هي التي تمثلت في دعوتها له إلى تقبيل نصل سيف صقيل كانت تُشهره في وجهه، فيما استغل من جهته انشغالها بحمل السيف ليخطف قبلته الأولى من شفتيها الكرزيتين، بما يذكّرنا إلى حد بعيد بالمشهد المؤثر الذي عكسه بيت عنترة العبسي، المنشطر نصفياً بين لمعان السيوف ولمعان الشفاه، أو بين السطوتين المتداخلتين للحب والموت.

ولم تكن خيبة هاينه من حبه الثاني لأماليا، ابنة عمّه الثري التي التقاها عام 1816، لتقلّ إيلاماً عن خيبته الأولى، بعد أن انتقل إلى هامبورغ بطلب من عمه سولومون، ليتعلم مهنة التجارة في هامبورغ. إلا أن غرام هاينريش بالفتاة كان من طرف واحد، إذ لم يكد يكتب لصديقه كريستيان زيته: «افرح يا قلبي واخفقْ بقوة، فسأشاهد آلهتي التي لم أرها منذ سنتين»، حتى عاد بعدها بقليل ليعترف للصديق إياه: «إنها لا تحبني»، وليكتب في مذكراته: «ما أفظع مرض حب النساء الذي لا ينفع معه النأي ولا التلقيح». ولأن الإبداع يربح حيث تخسر الحياة، فقد استطاعت الفتاة الصَّدُود أن تُلهم الشاعر كتابَي «الأغاني» و«المنصور» اللذين وضعاه على طريق الشهرة والمجد.

أما خيبة هاينه الثالثة فقد تمثلت في زواجه المتسرع من أوغستينه كريسنس ميرات، الفلاحة الفظة التي التقاها في باريس وأطلق عليها اسم ماتيلدا الذي عُرفت به. وعبثاً حاول هاينه ترويض المرأة التي تنتمي -وفق الفرنسيين- إلى فئة الغريسيت، أو أنصاف العاهرات المتحدرات من طبقة البؤساء وحثالة المهمشين. وقد أجمع معاصرو الشاعر، الذي انضم في باريس إلى الصالونات الأدبية النسائية والتقى جورج صاند وكارول جوبير، على أن زوجته ماتيلدا كانت «ذات عواطف جياشة ووجه وحشيّ جميل ومكورات جسدية تدير رؤوس الرجال»، فيما نفر فاغنر ولاسال من سلوكها الأرعن، واتهمها ماركس بالتسبب بشقاء صديقه الأثير، وصولاً «إلى تعذيبه حتى الموت». أما هاينه نفسه فقد وصفها بالمرأة العصبية والشرهة التي «تحب الموتى والتماثيل»، كما سمّاها طائر الشؤم و«فيزوف البيت»، نسبةً إلى البركان الإيطالي الشهير. ورغم أن ماتيلدا لم تتورع عن القيام بضرب زوجها غير مرة، فإن زواجها من الشاعر استمر لسنوات طويلة من النكد والخيانة والمساكنة البائسة، دون أن يجرؤ بأي حال على الانفصال عنها.

وسط هذه الخيبات العاطفية المتلاحقة، تسللت إيلزه كرينتز بشكل مفاجئ إلى حياة هاينه الذي كان يعيش حالة عراك قاسية مع مرض الزهري الذي أودى بحياته في نهاية الأمر. ومع أن الشابة الحسناء ابنة الثلاثين عاماً لم تقتحم بشكل مباشر حياة الكاتب المحتضر إلا قبل أسبوعين من رحيله، مقدمةً نفسها له باسم مرغريتا، فإنها كانت قد بدأت بمراسلته قبل ذلك بثمانية عشر شهراً، حين أبدت استعدادها للعمل مع الشاعر، الذي نشر في الصحف إعلاناً يُعرب فيه عن حاجته إلى سكرتيرة ذات خبرة تساعده في تدوين وتنسيق مذكراته وقصائده ومقالاته.

لم يكن غريباً بالطبع أن يقع هاينه في غرام المرأة المثقفة التي عاملته بحنان بالغ ورقة غير مسبوقة، وهو الذي لقي من زوجته ونساء حياته المختلفات، كل أشكال القهر والعنت والصدود. ورغم الرسائل العاطفية الكثيرة التي تَبادلها العاشقان الافتراضيان طيلة عام ونصف، فقد آثرت إيلزه، التي سماها الشاعر «موش» أو الذبابة لأن توقيعها على رسائلها كان يأخذ ذلك الشكل، أن تتوارى خلف غلالة من الغموض، مقدمةً نفسها له بوصفها ناشرة وكاتبة ألمانية، مشيرةً إلى أنها كانت متزوجة من ثري فرنسي فقد عقله بالتدريج وتم إيداعه إحدى المصحات.

وإذ يشير جميع الدارسين إلى أن شخصية إيلزه ظلت مبهمة ومحفوفة بالألغاز حتى عام 1999، نجح الباحث الألماني مينزو فولكرت في إماطة اللثام عن الهوية الحقيقية للمرأة التي رافقت هاينه في أيام محنته القاسية، مشيراً إلى أن اسمها الأصلي كان يوهانا كريستينا مولر، حتى إذا توفي والداها في وقت مبكر تبناها زوجان ميسوران وأطلقا عليها اسم إيلزه، ثم اصطحباها إلى باريس للسكن حيث خاضت تجربة زواج فاشلة، قبل أن تشرع في كتابة القصص والمقالات وتتعرف إلى هاينه. وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن «موش» التي طرقت باب الشاعر بعد طول تردد، كانت تعلم تمام العلم أنه يعيش أيامه الأخيرة، وأن لا سبيل لإنقاذ اسمها الزائل من النسيان، سوى أن تعقد مع هاينه الصفقة التالية: سأمنحك الحب مقابل الحصول على الخلود.

وأياً يكن شأن تلك العلاقة الأفلاطونية التي لم يكن التواصل الجسدي طرفاً فيها، فقد حوّلت إيلزه الأيام القليلة التي قضتها إلى جانب هاينه المحتضر، إلى فرصة ثمينة لاستنطاقه ومحاورته والوقوف على مكنونات نفسه، حتى إذا فارق الشاعر الحياة عام 1856 بدأت تحقق شهرة واسعة وتحظى بتقدير الكثيرين، بوصفها المرأة الوحيدة التي قدّرت الرجل حق قدره وشاركته آلامه وعذاباته. وإذا كانت زوجته ماتيلدا قد هرعت بعد وفاته إلى أحضان رجل آخر، مطالبةً بنصيبها من الميراث، فقد عوَّلت إيلزه من جهتها على ميراث هاينه الأثمن، فجمعت حواراتها معه وانطباعاتها عنه في كتاب قيّم أصدرته عام 1884 تحت عنوان «أيام هاينه الأخيرة».

كما أصدرت بعده كتاباً آخر سمّته «مذكرات الذبابة»، وخصصته للحديث عن الشاعر الذي وصفها في إحدى قصائده بـ«زهرة الآلام الصفراء التي كانت تسهر على قبره متخذة صورة امرأة»، ليضيف قائلاً:

كنتِ أنت الزهرة يا صغيرتي

وعرفتك من قُبلاتك

إذ لا زهرة أخرى لها مثل هذه الشفاه الناعمة

وبمثل هذه الحرارة لا تحترق أي زهرة بالدموع


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص «حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز تتحدّث إلى إنعام الصغير في محطة الشرق الأدنى نهاية 1951 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية

فيما يأتي الحلقة الثانية من أضوائنا على المرحلة الأولى من صعود فيروز الفني، لمناسبة الاحتفال بعامها التسعين.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

عشية عيدها الـ90 تلقي «الشرق الأوسط» بعض الأضواء غير المعروفة على تلك الصبية الخجولة والمجهولة التي كانت تدعى نهاد وديع حداد قبل أن يعرفها الناس باسم فيروز.

محمود الزيباوي (بيروت)
يوميات الشرق تمتدّ احتفاليّة منصة «أنغامي» الموسيقية بعيد ميلاد فيروز أسبوعاً كاملاً (أنغامي)

عمرٌ من ذهب... «أنغامي» تحتفي بفيروز

فيروز مكرّمةً على منصة «أنغامي» من خلال الإضاءة على محطات أساسية في مسيرتها الفنية، وأغنيات نادرة التداول.

كريستين حبيب (بيروت)

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.