إيلزه كرينتز وهاينريش هاينه: منحته الحدب والحب فمنحها السبيل إلى الخلود

المرأة اللغز التي تفتحت كزهرة أخيرة في خريف الشاعر العاطفي

هاينه
هاينه
TT

إيلزه كرينتز وهاينريش هاينه: منحته الحدب والحب فمنحها السبيل إلى الخلود

هاينه
هاينه

لم يكن الشاعر الألماني هاينريش هاينه تفصيلاً عابراً على خريطة الشعر في بلاده التي كانت قبل قرنين من الزمن، تغلي على صفيح ساخن من الزلازل السياسية والاجتماعية والفكرية. وإذا كان هذا الغليان بالذات هو الذي سمح للعبقرية الألمانية بالوصول إلى ذروة تجلياتها الفلسفية والإبداعية، على مفترقي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فسمح بظهور قامات فريدة من طراز بيتهوفن وكانط وغوته وشيلر وكيركغارد وشوبنهاور وكارل ماركس، فإن هاينه من جهته كان جزءاً لا يتجزأ من تلك العبقرية، وهو الذي شكّل جسر العبور الأهم من الزمنين الكلاسيكي والرومانسي، باتجاه الأزمنة الحديثة التي قادها كل من إدغار ألان بو وبودلير ولوتريامون وغيرهم نحو مناطق وكشوف غير مسبوقة.

ومع أن معظم الشعراء والمبدعين لا ينالون ما يستحقونه في أثناء حياتهم من تقدير، فإن هاينه استطاع أن يلفت إليه الكثير من نقاد عصره ومفكريه، وفي طليعة هؤلاء كارل ماركس الذي ربطته به صداقة وطيدة وعده «أعظم الشعراء الألمان بعد غوته». لا بل إن إعجاب ماركس بكتاب هاينه «الأغاني» دفعه إلى أن ينسج على منواله في ديوانه «كتاب الحب»، قبل أن ينصرف عن الشعر بشكل نهائي. وفيما رأى فريدريك هيبل أن هاينه «استطاع أن يحوّل أكثر النبرات يأساً إلى همسات موسيقية مؤثرة»، لم ينظر غوته إليه بعين التبجيل، واصفاً إياه بالزقاقي وابن الشوارع، رغم أن هاينريش رأى صاحب «فاوست» بوصفه «الشخصية المطابقة لفكرة العبقرية».

على أن هاينه لا يَدين بما حققه من مكانة عالية لموهبته وحدها، بل لمكابداته الشخصية المؤلمة، كما لإصغائه العميق إلى روح عصره وأسئلته الشائكة، وانحيازه إلى قوى التغيير، رغم ما رتّبته عليه مواقفه الصلبة من أعباء وتبعات. ففي المستوى الأول كابد هاينه، المولود باسم هاري عام 1797 لأسرة يهودية متوسطة الحال، الكثير من عَنَت أعمامه وأقربائه الذين استغلوا ضعف أبيه وإصابته بالصرع للاستيلاء على حصته من ثروة العائلة، فيما لم يكن اعتناقه البروتستانتية وتعميد نفسه باسم كريستيان، ليحل مشكلته مع محيطه الاجتماعي. ذلك أن مواقفه المتسمة بالسخرية اللاذعة من المؤسسة الدينية المتزمتة، كما من الإمبراطورية البروسية المسرفة في رجعيتها واستبدادها، قد حدت بالأولى إلى منع كتبه ومصادرتها، فيما دفعت الثانية إلى تضييق الخناق عليه، ففر إلى فرنسا متخذاً من باريس مقر إقامة له، وهو الذي شكلت الثورة الفرنسية مصدراً لإعجابه وإلهامه.

أما على المستوى العاطفي فيشير معظم المصادر التي أرّخت لحياته، وبينها كتاب ماجد الخطيب «هاينريش هاينه... روح الشعر الألماني». إلى أن هاينه دفع غالياً ثمن خياراته النسائية السيئة وغير الموفقة. ففي الخامسة عشرة من عمره شُغف الفتى المراهق بجوزيفا ذات الشعر الأحمر، وابنة جلاد دوسلدورف الرهيب، وسليلة عائلة عريقة من الجلادين. ومع أن عالم الأشباح والدم والسحر الأسود، قد رفد مخيلته الشعرية بالكثير من المفردات والصور غير المألوفة، فإنه أسهم بالمقابل في تسميم روحه وجعله فريسة سائغة لمختلف أنواع الوساوس والكوابيس. ولعل الحادثة الأكثر غرابة التي وقعت له مع جوزيفا هي التي تمثلت في دعوتها له إلى تقبيل نصل سيف صقيل كانت تُشهره في وجهه، فيما استغل من جهته انشغالها بحمل السيف ليخطف قبلته الأولى من شفتيها الكرزيتين، بما يذكّرنا إلى حد بعيد بالمشهد المؤثر الذي عكسه بيت عنترة العبسي، المنشطر نصفياً بين لمعان السيوف ولمعان الشفاه، أو بين السطوتين المتداخلتين للحب والموت.

ولم تكن خيبة هاينه من حبه الثاني لأماليا، ابنة عمّه الثري التي التقاها عام 1816، لتقلّ إيلاماً عن خيبته الأولى، بعد أن انتقل إلى هامبورغ بطلب من عمه سولومون، ليتعلم مهنة التجارة في هامبورغ. إلا أن غرام هاينريش بالفتاة كان من طرف واحد، إذ لم يكد يكتب لصديقه كريستيان زيته: «افرح يا قلبي واخفقْ بقوة، فسأشاهد آلهتي التي لم أرها منذ سنتين»، حتى عاد بعدها بقليل ليعترف للصديق إياه: «إنها لا تحبني»، وليكتب في مذكراته: «ما أفظع مرض حب النساء الذي لا ينفع معه النأي ولا التلقيح». ولأن الإبداع يربح حيث تخسر الحياة، فقد استطاعت الفتاة الصَّدُود أن تُلهم الشاعر كتابَي «الأغاني» و«المنصور» اللذين وضعاه على طريق الشهرة والمجد.

أما خيبة هاينه الثالثة فقد تمثلت في زواجه المتسرع من أوغستينه كريسنس ميرات، الفلاحة الفظة التي التقاها في باريس وأطلق عليها اسم ماتيلدا الذي عُرفت به. وعبثاً حاول هاينه ترويض المرأة التي تنتمي -وفق الفرنسيين- إلى فئة الغريسيت، أو أنصاف العاهرات المتحدرات من طبقة البؤساء وحثالة المهمشين. وقد أجمع معاصرو الشاعر، الذي انضم في باريس إلى الصالونات الأدبية النسائية والتقى جورج صاند وكارول جوبير، على أن زوجته ماتيلدا كانت «ذات عواطف جياشة ووجه وحشيّ جميل ومكورات جسدية تدير رؤوس الرجال»، فيما نفر فاغنر ولاسال من سلوكها الأرعن، واتهمها ماركس بالتسبب بشقاء صديقه الأثير، وصولاً «إلى تعذيبه حتى الموت». أما هاينه نفسه فقد وصفها بالمرأة العصبية والشرهة التي «تحب الموتى والتماثيل»، كما سمّاها طائر الشؤم و«فيزوف البيت»، نسبةً إلى البركان الإيطالي الشهير. ورغم أن ماتيلدا لم تتورع عن القيام بضرب زوجها غير مرة، فإن زواجها من الشاعر استمر لسنوات طويلة من النكد والخيانة والمساكنة البائسة، دون أن يجرؤ بأي حال على الانفصال عنها.

وسط هذه الخيبات العاطفية المتلاحقة، تسللت إيلزه كرينتز بشكل مفاجئ إلى حياة هاينه الذي كان يعيش حالة عراك قاسية مع مرض الزهري الذي أودى بحياته في نهاية الأمر. ومع أن الشابة الحسناء ابنة الثلاثين عاماً لم تقتحم بشكل مباشر حياة الكاتب المحتضر إلا قبل أسبوعين من رحيله، مقدمةً نفسها له باسم مرغريتا، فإنها كانت قد بدأت بمراسلته قبل ذلك بثمانية عشر شهراً، حين أبدت استعدادها للعمل مع الشاعر، الذي نشر في الصحف إعلاناً يُعرب فيه عن حاجته إلى سكرتيرة ذات خبرة تساعده في تدوين وتنسيق مذكراته وقصائده ومقالاته.

لم يكن غريباً بالطبع أن يقع هاينه في غرام المرأة المثقفة التي عاملته بحنان بالغ ورقة غير مسبوقة، وهو الذي لقي من زوجته ونساء حياته المختلفات، كل أشكال القهر والعنت والصدود. ورغم الرسائل العاطفية الكثيرة التي تَبادلها العاشقان الافتراضيان طيلة عام ونصف، فقد آثرت إيلزه، التي سماها الشاعر «موش» أو الذبابة لأن توقيعها على رسائلها كان يأخذ ذلك الشكل، أن تتوارى خلف غلالة من الغموض، مقدمةً نفسها له بوصفها ناشرة وكاتبة ألمانية، مشيرةً إلى أنها كانت متزوجة من ثري فرنسي فقد عقله بالتدريج وتم إيداعه إحدى المصحات.

وإذ يشير جميع الدارسين إلى أن شخصية إيلزه ظلت مبهمة ومحفوفة بالألغاز حتى عام 1999، نجح الباحث الألماني مينزو فولكرت في إماطة اللثام عن الهوية الحقيقية للمرأة التي رافقت هاينه في أيام محنته القاسية، مشيراً إلى أن اسمها الأصلي كان يوهانا كريستينا مولر، حتى إذا توفي والداها في وقت مبكر تبناها زوجان ميسوران وأطلقا عليها اسم إيلزه، ثم اصطحباها إلى باريس للسكن حيث خاضت تجربة زواج فاشلة، قبل أن تشرع في كتابة القصص والمقالات وتتعرف إلى هاينه. وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن «موش» التي طرقت باب الشاعر بعد طول تردد، كانت تعلم تمام العلم أنه يعيش أيامه الأخيرة، وأن لا سبيل لإنقاذ اسمها الزائل من النسيان، سوى أن تعقد مع هاينه الصفقة التالية: سأمنحك الحب مقابل الحصول على الخلود.

وأياً يكن شأن تلك العلاقة الأفلاطونية التي لم يكن التواصل الجسدي طرفاً فيها، فقد حوّلت إيلزه الأيام القليلة التي قضتها إلى جانب هاينه المحتضر، إلى فرصة ثمينة لاستنطاقه ومحاورته والوقوف على مكنونات نفسه، حتى إذا فارق الشاعر الحياة عام 1856 بدأت تحقق شهرة واسعة وتحظى بتقدير الكثيرين، بوصفها المرأة الوحيدة التي قدّرت الرجل حق قدره وشاركته آلامه وعذاباته. وإذا كانت زوجته ماتيلدا قد هرعت بعد وفاته إلى أحضان رجل آخر، مطالبةً بنصيبها من الميراث، فقد عوَّلت إيلزه من جهتها على ميراث هاينه الأثمن، فجمعت حواراتها معه وانطباعاتها عنه في كتاب قيّم أصدرته عام 1884 تحت عنوان «أيام هاينه الأخيرة».

كما أصدرت بعده كتاباً آخر سمّته «مذكرات الذبابة»، وخصصته للحديث عن الشاعر الذي وصفها في إحدى قصائده بـ«زهرة الآلام الصفراء التي كانت تسهر على قبره متخذة صورة امرأة»، ليضيف قائلاً:

كنتِ أنت الزهرة يا صغيرتي

وعرفتك من قُبلاتك

إذ لا زهرة أخرى لها مثل هذه الشفاه الناعمة

وبمثل هذه الحرارة لا تحترق أي زهرة بالدموع


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص «حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز تتحدّث إلى إنعام الصغير في محطة الشرق الأدنى نهاية 1951 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية

فيما يأتي الحلقة الثانية من أضوائنا على المرحلة الأولى من صعود فيروز الفني، لمناسبة الاحتفال بعامها التسعين.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

عشية عيدها الـ90 تلقي «الشرق الأوسط» بعض الأضواء غير المعروفة على تلك الصبية الخجولة والمجهولة التي كانت تدعى نهاد وديع حداد قبل أن يعرفها الناس باسم فيروز.

محمود الزيباوي (بيروت)
يوميات الشرق تمتدّ احتفاليّة منصة «أنغامي» الموسيقية بعيد ميلاد فيروز أسبوعاً كاملاً (أنغامي)

عمرٌ من ذهب... «أنغامي» تحتفي بفيروز

فيروز مكرّمةً على منصة «أنغامي» من خلال الإضاءة على محطات أساسية في مسيرتها الفنية، وأغنيات نادرة التداول.

كريستين حبيب (بيروت)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!