أشهر مترجم للأدب العربي الحديث يفتح خزانة الذكريات

دينيس ديفيز يروي لقاءاته بمحفوظ وإدريس والسَّياب والطيب صالح

دينيس جونسون ديفيز
دينيس جونسون ديفيز
TT

أشهر مترجم للأدب العربي الحديث يفتح خزانة الذكريات

دينيس جونسون ديفيز
دينيس جونسون ديفيز

يعدّ دينيس جونسون ديفيز (1922 - 2017) أكثر المترجمين الذين قدموا خدمات جليلة للأدب العربي، فعلى مدار 70 عاماً سعى لنقل نماذج من هذا الأدب إلى قراء الإنجليزية حول العالم بأمانة وبراعة، وأثمرت تلك الجهود عن أكثر من 30 مجلداً في الرواية والقصة القصيرة والمسرح والشعر، كما مهّدت ترجماته المبكرة لنجيب محفوظ الطريق لنيله جائزة نوبل.

أسس ديفيز في الستينات مجلة «أصوات» للأدب العربي المترجم، ووصفه إدوارد سعيد بأنه «أهم مترجمي العربية إلى الإنجليزية في هذا الزمان»، وحصل على جائزة «الشيخ زايد لشخصية العام الثقافية 2007».

غلاف الكتاب

يروى ديفيز ذكرياته وكواليس تجربته مهنياً وإنسانياً في كتابه «ذكريات في الترجمة – حياة بين خطوط الأدب العربي» الصادر أخيراً عن المجلس القومي للترجمة بالقاهرة، بترجمة د. عفاف عبد المعطي، ومراجعة د. محمود محمد مكي. وكان نجيب محفوظ قد قدّم للكتاب بنسخته الإنجليزية، واصفاً إياه بأنه «عمل شائق»، مشيراً إلى أنه تعرف على المؤلف منذ 1945 وأعجب به وهو أول من ترجم له نصاً، قصة قصيرة، ومنذ ذلك الحين ترجم عدداً من كتبه. وذكر محفوظ أن ديفيز فعل أكثر مما فعله أي مترجم في ترجمة الأدب العربي الحديث للإنجليزية والترويج له، ولطالما بحث عن كُتاب جدد مثيرين للاهتمام، كما عمل جاهداً، لا ليترجم رواياتهم ومسرحياتهم وقصصهم القصيرة وشعرهم فحسب، بل سعى لإيجاد ناشرين لهذه الترجمات أيضاً.

يروى ديفيز كيف بدأت صداقته بعدد من الأدباء الرواد. منهم طه حسين، وتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، ويوسف إدريس. كما يحكي عن علاقته بالأجيال التالية، مثل صنع الله إبراهيم، ويحيى الطاهر عبد الله، ومحمد البساطي، ومحمد برادة، وزكريا تامر، وسلوى بكر.

وهو يعترف بأن ترجمة الأدب العربي لا تلقى اهتماماً من الناشر الإنجليزي الذي لم يبدِ حماساً لنجيب محفوظ نفسه إلا بعد حصوله على «نوبل»، «فالناشرون هم بشكل رئيسي رجال أعمال يكرهون خوض المجازفات، وخصوصاً بكتاب مترجم عن العربية، ومن المعروف أن القراء الإنجليز لا يسعون وراء أي كتاب مترجم، حتى لو كان مترجماً عن اللغة الفرنسية. ويدلل على ذلك بالكاتب اللبناني أمين معلوف، الذي يكتب بالفرنسية، «فقد اشترت (اللجنة الرباعية) في لندن حقوق رواية له، باع منها أكثر من مليون نسخة في فرنسا، ولم يبع من الطبعة الإنجليزية سوى 2000 نسخة فقط».

إدريس ومحفوظ

يرى ديفيز أن يوسف إدريس شخصية كاريزمية وكاتب ذو موهبة عظيمة. وكان طبيعياً أن يأمل إدريس أن يكون المرشح العربي لـ«نوبل»، لكن كثيراً من العوامل كانت في صالح محفوظ، وليس أقلها إنتاجه الضخم غير العادي، بل إن عمله باعتباره روائياً في الأساس كان متاحاً بسهولة في عدد من الترجمات الإنجليزية والفرنسية.

ويذكر أن يوسف إدريس أخبره بأن روايته «الحرام» تُرجمت إلى الروسية في أكثر من مليون نسخة، لذا ظل يتساءل؛ لماذا لم تبع كتاباته كثيراً في الترجمة الإنجليزية، كما أعرب عن خيبة أمله لأنها باللغة العربية أيضاً لم تحظَ بذلك النوع من المبيعات التي كان يتطلع إلى تحقيقها.

دينيس ديفيز مع نجيب محوظ

ويكشف المؤلف عن ملابسات حصول «محفوظ» على نوبل. ويذكر أنه التقى زوجة السفير الفرنسي في تونس، وهي سيدة سويدية على علاقة مباشرة بلجنة التحكيم في «نوبل»، وسألته إذا ما كان هناك كاتب عربي غير نجيب محفوظ يستحق الترشيح وقد تجاوزته القائمة؟ تناقشا بإسهاب عن المزايا والعيوب للمرشحين المحتملين، ومنهم الشاعر السوري «أدونيس»، لكنه ليس شاعراً شعبياً، كما أن إدريس لم يحظَ بقدر كافٍ من ترجمة نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية، اللغتين المعروفتين لدى أعضاء لجنة التحكيم. وفى تلك الأثناء، لم يكن قد صدر للطيب صالح سوى روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، وروايته القصيرة «عُرس الزين»، وبعض القصص القصيرة المتاحة في الإنجليزية والفرنسية، وهذا العدد القليل حال دون ترشيحه للجائزة.

اللقاء بالسياب وكنفاني

حين أسس دنيس جونسون ديفيز المجلة الفصلية «أصوات» المتخصصة في الأدب العربي، تحول مكتب المجلة في لندن إلى محطة أساسية للأدباء العرب، ومنهم الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في أواخر أيامه. ففي صباح أحد الأيام، تلقى جونسون مكالمة هاتفية من «السياب» يخبره فيها أنه وصل إلى لندن ويقيم في فندق «كامبرلاند» القريب منه. ذهب إليه جونسون، وشرح له السياب المرض الذي كان يعاني منه، وكان قد استشار بشأنه كثيراً من الأطباء في بيروت وأماكن أخرى.

أخذه «ديفيز» إلى طبيبه الخاص، لكن الرأي كان نفس ما سمعه من أطباء آخرين. تم حجز «السياب» في فندق «ميدلسكس» حيث خضع لسلسلة من الاختبارات المؤلمة على عموده الفقري، وأخبره الطبيب أنه يعاني شللاً لا شفاء منه يؤثر على عموده الفقري، وأنه لا ينبغي أن يهدر الوقت والمال في جولات على مزيد من الأطباء. وكان «السياب» قادراً على قبول الحقيقة القاسية بدلاً من أن يتعلق بآمال كاذبة.

كان غسان كنفاني كاتباً آخر نشر له المؤلف في مجلة «أصوات» فصارا صديقين من خلال تبادل الرسائل. بعد عدّة سنوات، تقابلا للمرة الأولى في فندق «كليوباترا» بالقاهرة. كان جونسون بصحبة أحد الأصدقاء وكانا يدردشان باللغة العربية، وفيما كانا في ردهة الفندق، اتجه نحوه شاب وسيم قائلاً: «لابد أنك دينيس، أنا غسّان».

يعترف ديفيز بأن ترجمة الأدب العربي لا تلقى اهتماماً من الناشر الإنجليزي الذي لم يبدِ حماساً لنجيب محفوظ نفسه إلا بعد حصوله على «نوبل»

ترجمة «موسم الهجرة...»

حول ملابسات ترجمة الرواية الأشهر للطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، يروى ديفيز أنه قابل مؤلفها عندما كان يعيش في لندن في الفترة من 1954 حتى 1969. ورغم أن كليهما عمل في القسم العربي من الـ«بي بي سي»، فإنهما لم يتصادقا من قبل. وبعد نشر وترجمة عدة قصص، جاء اليوم الذي أخبره فيه «الطيب» أنه سيبدأ رواية جديدة أكثر طموحاً. وكان ديفيز في فترة إجازة، ما أتاح له أن يتلقى كل بضعة أيام حزمة من الأوراق من مسودة العمل، حلقة تلو أخرى. وسرعان ما انتهت الرواية بعنوان «موسم الهجرة إلى الشمال». يقول ديفيز: «ترجمتها في الوقت نفسه تقريباً. كان الطيب يسأل عن بعض المقاطع المثيرة الواردة في الرواية، وقرر حذفها في نهاية المطاف. ولفترة من الوقت فكرا في إصدار تلك المقاطع في الترجمة الإنجليزية، لكنهما قررا في النهاية عدم فعل ذلك. ويؤكد المؤلف أنه في مكان ما بين أوراقه يمتلك هذه المقاطع المحذوفة الخاصة مكتوبة بيد الطيب على عدة صفحات. وربما تجد المشاهد المحذوفة يوماً ما طريقها إلى غرفة مزاد ويشتريها بمبلغ كبير مليونير يرغب في امتلاك مثل هذه الفصول».

دينيس ديفيز مع الطيب صالح

نشِرت «موسم الهجرة إلى الشمال» في ترجمتها الإنجليزية 1969، وقد امتدحها كثير من النقاد البريطانيين، واختارتها صحيفة «صنداي تايمز» لتكون رواية العام، وتصادف أن كان «ديفيز» في لندن في ذلك الوقت، ويتذكر أنه ذهب إلى مكتبة في «بيكاديللي» لطلب الكتاب، وكان يتوقع أن يجد نسخاً منه في إحدى نوافذ العرض. وعندما سأل البائع حول الكتاب، أجابه قائلاً: «أوه سيدي... حسناً ستجد الكتاب في الأسفل... في السرداب». وهنا يعلق ديفيز: «استغرق الأمر حوالي 4 عقود لرواية الطيب صالح كي تشق طريقها من الطابق الأسفل في (بيكاديللي) حتى تضاف إلى الكلاسيكيات الحديثة لدى دار (بنغوين) العريقة».


مقالات ذات صلة

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

ثقافة وفنون رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

رحيل الشاعر والصحافي العراقي مخلص خليل في غربته

أصدر مخلص خليل عدداً من المجموعات الشعرية، وكان من الأصوات البارزة في فترة السبعينات.

يوميات الشرق صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق مَنْح هبة القواس درع مئوية الجامعة تقديراً لعطاءاتها (الجهة المنظّمة)

مئوية «اللبنانية – الأميركية» تُحييها الموسيقى والشعر

قرنٌ على ولادة إحدى أعرق المؤسّسات الأكاديمية في لبنان، والتي حملت شعار تعليم المرأة اللبنانية والعربية والارتقاء بها اجتماعياً واقتصادياً.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق قضى الأمير بدر بن عبد المحسن خمسة عقود في إغناء الوسط الثقافي وكتابة الشعر وتدبيج القصائد وتزيين خرائط الوجدان (حساب الأمير على «إكس»)

«المختبر السعودي للنقد» يبدأ باكورة أعماله بقراءة جديدة لأعمال الأمير بدر بن عبد المحسن

يبدأ «المختبر السعودي للنقد» باكورة أعماله بتقديم قراءة نقدية جديدة لأعمال وإنتاج الأمير الراحل بدر بن عبد المحسن.

عمر البدوي (الرياض)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد المحسن خلال مشاركته أمسية شعرية في باريس (الشرق الأوسط)

فنانون وشعراء يودعون أيقونة الشعر بعد خمسة عقود من العطاء

نعى شعراء وفنانون الأمير البدر، وتجربته التي امتدت لـ5عقود، غنى له خلالها نخبة من فناني العالم العربي، وتعاقبت الأجيال على الاستماع والاستمتاع ببراعته الشعرية.

عمر البدوي (الرياض)

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية
TT

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر»... تحولات المجتمع المصري من منظور قرية

«طباطيب العِبَر» (أو «حكايات أدبية من الدراكسة») للصحافي والكاتب المصري، أسامة الرحيمي، ليس مما يُقرأ ويُنسى، بل يعيش في الذاكرة طويلاً، كما عاشت شخوصه وأحداثه في ذاكرة الكاتب طويلاً تُلحُّ عليه أن يخرجها إلى النور. هو كتاب في حب البشر، خاصة أولئك المستثنين من حب بقية البشر. يبحث الرحيمي عن قاع المجتمع، فإذا ما وجده راح ينبش فيه عن قاع القاع. عن تلك الطبقة الدنيا التي ليس هناك ما هو أدنى منها. عن الطبقة التي أقصاها المجتمع عنه، حتى لم يعد يراها وإن رآها فلا يراها بشراً ولا يعدّها من جنسه، حتى نسيتْ هي أيضاً بشريتها. يلتقط الكاتب تلك الطبقة ويكتشف إنسانيتها ويكشف لنا عنها، يلتقط أفراداً منها، ويكشف لنا أنهم مثلنا تماماً وإنما طحنتهم قوى تاريخية ومجتمعية قاهرة حتى حجبت إنسانيتهم عمن حولهم، بل وعن ذواتهم. ينتشلهم الكاتب من قاع القاع ويغدق عليهم من فيض روحٍ مُحِبَّة للبشر ترفض أن تنسى من نسيهم المجتمع والتاريخ.

يكتب الرحيمي عن الريف المصري في شيء كثير من العاطفية والنوستالجيا. يكتب عن الريف الذي نشأ فيه قبل أن ينزح إلى المدينة ويكتب عن التحولات الهائلة التي ألمت به منذ الخمسينات من القرن العشرين إلى يومنا هذا. يكتب عما عاصره في نشأته ولكن أيضاً عما سمعه صغيراً من الأجيال الأسبق. يكتب عن بؤس الفلاح المصري في العصر الإقطاعي وخاصة عمّال «التملية»، المعروفين أيضاً بعمال التراحيل، والذين كتب عنهم يوسف إدريس في قصته الأشهر «الحرام» (1959)، وعن مجيء ثورة 1952 والإصلاح الزراعي الذي طال الكثيرين، لكنه أغفل «التملية» أو هم غفلوا عن الانتفاع منه لأنهم كانوا مسحوقين إلى حدٍ لا يمكنهم معه إدراك أن ثمة تغيرات كبرى تحدث في المجتمع وأنه يمكن لهم الانتفاع منها. يكتب أيضاً عن سائر التحولات التي جرت في الريف المصري بعد انتهاء الدور الإصلاحي لثورة 1952 والنكوص عن إنجازاتها المجتمعية في عصري السادات ومبارك، حتى لم يعد الريف ريفاً وتقلصت الزراعة واختفت المحاصيل ومواسمها التي من حولها نشأت تقاليد الريف المصري الحياتية وقيمه الأخلاقية التي دامت قروناً طويلة حتى اندثرت تدريجياً في العقود القليلة الماضية. يكتب على حد قوله «فيما جرى لبلدنا وقرانا».

يتجول الكتاب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة» في شرق الدلتا. تصبح القرية بؤرة لمصر كلها. تصبح رمزاً للثابت والمتحول، أو بالأحرى للثابت الذي تحوَّل إلى غير عودة بعد قرون وقرون من الثبات، ولا يساعدك النص أن تقرر ما إذا كان تَحَوَّلَ إلى الأفضل أو الأسوأ. فالأمران ممتزجان، وليس النص إلا محاولة لاسترجاع الأنماط الجميلة للحياة البشرية والبيئية التي ضاعت إلى الأبد ضمن التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القاهرة التي تُصنع في العاصمة لتطال موجاتها العاتية قرى مصر ونجوعها في كل مكان من حيث لم تكن تحتسب.

ما نراه في هذا الكتاب هو نماذج عديدة لآلام التحول ولكن أيضاً لأفراحه. نماذج للعامّ حين يقتحم حياة الأفراد فيرفع من يرفع ويخفض من يخفض ويعيد تشكيل ما يُسمى بالمجتمع. يخبرنا التاريخ المعاصر بحرب اليمن الفاشلة ضمن مشروع القومية العربية التوسعي لجمال عبد الناصر في ستينات القرن الماضي، لكن هذا النص يشعرنا بمأساة مجندي القرية مثل «المسكين» وآلاف أمثاله الذين ذهبوا ولم يرجعوا ليحاربوا حرباً لا يفهمون لها سبباً في بلد لم يسمعوا به قبلاً. يحدثنا التاريخ الذي عاصرناه أيضاً عن تهجير أهل مدن القناة حماية لهم من القصف الإسرائيلي عبر قناة السويس عقب هزيمة 1967. لكن الكتاب الذي بين أيدينا في الفصل المعنون «المهاجرون» هو الذي يرينا مذلة أولئك المهاجرين (أو المُهجَّرين كما عُرفوا وقتها في تسمية أصحّ) لدى وصول بعضهم للعيش في قرية «الدراكسة» بعيداً عن الخطر. لكنه أيضاً هو الذي يرينا قدرة المهاجرين على التأقلم مع الظرف الجديد، ويرينا الروح المصرية الأصيلة وقت الأزمة حيث يكرم أهل القرية ضيوفهم طويلي المكث خير إكرام. لكنه فوق هذا وذاك يحكي لنا من واعية الطفل الذي كأنه الكاتب في ذلك الوقت عن الأثر التمديني العميق الذي مارسه هؤلاء الضيوف الآتون من مدينة بورسعيد الساحلية ذات التاريخ الكوزموبوليتاني على القرية النائية المعزولة عن الحضارة، فلم يتركوها بعد سنوات إلا وقد تغيرت عاداتها العريقة في المأكل والملبس والمشرب والسلوك الاجتماعي. هكذا تختلط المآسي والمنافع في الحياة كما في كثير مما يصوره الكتاب.

يصعُب تصنيف «طباطيب العبر». هل هو تسجيل لتاريخ شفهي؟ هل هو مجموعة تحقيقات صحافية متأدِّبة؟ هل هو دراسة أنثروبولوجية عفوية تخففت من المناهج والتقعر الأكاديمي؟ هل هو رصد واقعي أم خيال قصصي؟ هل فصوله وحدات منفصلة أم أن ثمة شيئاً يصهرها معاً في كلٍّ؟ الأرجح أن الكتاب فيه من كل هذه الصفات وأن مرونته السردية جاءت نتاجاً للعاطفة الاسترجاعية الكامنة وراءه والتي كان من الصعب أن تُصبَّ في قالب جامد أو تسلسل زمني، وكان لا بد أن تكتب في هيئة زخات شعورية متباعدة. مرونة السرد هذه هي نفسها التي تجعل الكتاب في بعض المواضع يلتحق برومانسية محمد حسين هيكل في روايته الشهيرة عن الريف المصري «زينب» (1912؟ 1914؟)، بينما في مواضع أخرى نراه يلتحق بواقعية «نائب في الأرياف» (1937) لتوفيق الحكيم وبالتصويرات الواقعية لكتّاب الريف الآخرين، أمثال عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف القعيد وغيرهما، وعلى الأخص يوسف إدريس الذي لا أشك أنه كان له أثر كبير أسلوبياً وفكرياً على الرحيمي.

على أنني لا أظن أني قرأت عن الريف المصري كتابة تغرق مثل هذا الإغراق في فنون المدرسة الطبيعية «الناتورالية» التي تجاوز تقنياتها تقنيات المدرسة الواقعية، فلا تترك تفصيلاً من تفاصيل البيئة إلا ذكرته ووصفته مهما بلغ من قذارة ومهما كان مقززاً ومهما كان خادشاً للحياء ومهما كان فاضحاً للنفس البشرية وللجسد البشري ومخرجاته. كل شيء هنا باسمه القح وقبحه الصادم ورائحته العطنة الفائحة وأصواته الناشزة (انظر على سبيل المثال لا الحصر الفصل المعنون «روائح القيظ القديمة»). هذه كتابة غير مُراقَبة، غير مهذبة ولا منمقة، لا تحاول أن تحمي القارئ ولا تراعي نعومته وترفه المديني أو الطبقي ولا يعنيها أن تمزق تغليفه السيلوفاني شر تمزيق. ذلك أنها كتابة تريد صدم الحس المُرفَّه وتحريك الضمير المٌخدَّر وتوليد الإحساس بالذنب لدى المجتمع الغافل عن أبنائه وعن الثمن الفادح الذي يدفعه جنود الريف المجهولون من أجل رفاهتهم. هي كتابة لريفي تمدَّن ولكن بقي على حبه وولائه للريف.

يتجول الكاتب بين الأماكن والأجيال والأزمنة والموضوعات، لكن نقطة البدء ونقطة العودة هي دائماً قريته «الدراكسة»

غير أنني أيضاً لا أظنني قرأت منذ يوسف إدريس كتابة عن الريف المصري تتسم بهذا الفهم المُشرَّب بالعطف الإنساني. إلا أن ثمة فارقاً. كان إدريس يكتب عن ريف موجود فلم يكن في كتابته حنين، أما هنا فنحن أمام كتابة استرجاعية، كتابة عن ريف وناس وعادات وقيم ما زالت في الذاكرة لكنها لم تعد في الواقع المعاش، وربما من هنا تنبع الرغبة في اقتناصها في كتاب قبل أن تزول من الذاكرة أيضاً بغياب الجيل الذي عاصرها، وهذا ما يفعله أسامة الرحيمي الذي يصحب حواسَّنا الخمس في رحلة نلمس فيها أشجار الريف وحقوله ونشم روائحه، الطيب منها والخبيث، ونسمع أصوات بشره وحيوانه ونرى جماله وقبحه ونذوق طعومه، كما في فصل «أكل التوت» مثلاً وفي سائر الكتاب.

يكتب الرحيمي في لغة عذبة سلسة، لا يعنيها التأنق المصطنع لأن فيها رشاقة طبيعية تتنقل بك في خفة بين الفصحى والعامية، ومن لغة القرية إلى لغة المدينة، ومن لغة الطفل في لحظة الحدث إلى لغة الكاتب الناضج المتأمل لطفولة الماضي، ويحلّق بك عند الطلب من سهول النثر إلى مرتفعات الشعر.
في هذا الكتاب السهل الممتنع في أسلوبه، الثري في شخصياته وحكاياته، المتأمل في الريف وتحولاته، والملآن بالعطف على الإنسان وسائر الكائنات، على الترع والحقول والأشجار، تنضح الصفحات بالحزن على الحيوات التي ذهبت بدداً، والأجيال التي لم تجرؤ على الأمل. إن كانت أتراحها وآلامها - وأحياناً أفراحها - ما زالت تتردد في الفضاء، فهذا الكتاب قد التقط أصداءها.