لطالما أرهقت المتلقي نصوص لودفيغ فتغنشتاين عن الفلسفة والمنطق واللغة، ولم يخطر ببالي قط أن أجد شراحاً في الشرق الأقصى يفسرون ما قاله أكاديمي نمساوي يقيم في بريطانيا، قبل زمانه بألفي سنة. لقد كان فتغنشتاين يكتب للفلاسفة أساتذته، مثل جورج مور وبرتراند راسل، لهذا خرجت نصوصه وكأنها طلاسم، ولا زلت تجد في شهادات تلاميذه اليوم أن محاضراته كانت نوعاً من التعذيب الفكري. أما الطاوية، شارحته، فقد كانت تخاطب العموم بلغة سهلة واضحة. الطاوية لا تخلو من روح التبشير، ولذلك كان من المتعين عليها أن تكون بعيدة عن التعقيد. رغم أنها لا تبشر بشيء سوى طريق الخلاص، ذلك المفهوم المشهور في الشرق، الذي لا يمكن أن نصفه ونحن مرتاحون بأنه فلسفة بالمعنى الاحترافي أو علم، هو فقط طريق الخلاص.
برغم نزاع الإغريق والهنود على الأسبقية في التأسيس للفلسفة، فإننا نجد الصين بدورها قد تقدمت بحكيم قديم تطرق لقضايا الوجود والحقيقة والحياة وسعادة الإنسان، ألا وهو لاو تزو مؤسس الطاوية الفلسفية. يقول المؤرخون الطاويون إنه عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وهذا يجعله معاصراً للسفسطائيين الإغريق، أو سابقاً لهم. وفي رأي آخر، هو شخصية خرافية اخترعتها الثقافة الصينية لمعارضة الكونفوشية وصرامتها المبالغ فيها.
الشيء المؤكد هو أن الصينيين لم يكونوا في البدايات يسألون؛ من أين جاء هذا العالم؟ وإنما كانوا يكتفون بالسؤال؛ كيف يعمل؟ بمعنى أن فلسفاتهم جاءت عملية للغاية، والعملية لا تنشغل كثيراً بالبحث عن الحقيقة، ولا بالبحث عما غيّب عن الإنسان وعجزت عنه قدراته. هذا بذاته كافٍ لكي نلمح العنصر الشكوكي في اليأس من الوصول إلى الحقيقة المعرفية اليقينية. ومن هنا انطلق الصينيون صوب العمل في دائرة الإمكان الإنسانية.
الطاوية ابتدأت في الصين كدين وانتهت فلسفة، ومنذ أن نهضت الطاوية الفلسفية على يد التنين العظيم لاو تزو وهي تعلن وتصرخ بأن لديها مشكلة شكوكية مع المواضعات، فما هي هذه المواضعات التي تبدو شريرة لهذا الحد؟ وماذا تعني؟ المواضعة هي الاتفاق الاجتماعي، أو هي كل ما اعتمدنا صدقه بقرار نتخذه من قِبل أنفسنا. ويشير المصطلح إلى اشتراك الأفراد في الآراء أو الميول أو الأهداف أو الأعمال، ويُطلق هذا الاسم على المسلمات الهندسية، لأن صدق هذه المسلمات ليس نتيجة لعملية استنتاج قبلية، ولا هي بديهية بذاتها، ولا هي حقائق يتوصل إليها بتعميم نتائج التجربة، ولا هي فرضيات قابلة للتحقق الدقيق، وإنما هي اصطلاحات يسلم بها العقل، لأنه قد جرت مطابقتها مع الأشياء الخارجية.
في الفكر الطاوي، المعرفة ليست مجرد شيء مشكوك فيه أو ينبغي دحضه، بل هي تفتقر إلى القيمة أيضاً. وبالتالي هي شيء يجب التخلص منه. في كتاب «داو دي تشينغ» أو «الطريق» المنسوب إلى لاو تزو لا يُنكر إمكانية أن تقوم عندنا معرفة، لكنه يقرر أننا سنكون أفضل حالاً من دونها. وفي هذا شبه بمذهب البيرونية الإغريقية من وجه، حين يقرر البيروني أن السعادة تأتي بعد نفي القدرة على المعرفة. فبيرون قد تجنب إلزام نفسه بأي آراء حول ما كان يحدث بالفعل، ولم يتصرف إلا وفقاً للمظاهر الخارجية. بهذه الطريقة سعى إلى السعادة أو على الأقل السلام العقلي، الذي نشده الرواقيون وأبيقور، لكن بطريقته الخاصة. ومرة أخرى هناك شبه بين الطاوي والبيروني يكمن في التشكك في قدرة العقل على الولوج إلى طبيعة الأشياء وعمقها الذي يختفي خلف المظاهر، ذلك السر الذي تاقت له نفوس الفلاسفة والعلماء على الدوام. بالنسبة لبيرون، الأشياء هي مظاهرها فحسب، لأننا لا نستطيع أن نتجاوز هذه المعرفة، وهذا هو موقف الطاويين أيضاً.
كل المعارف الإنسانية من مختلف الأنواع، هي بالنسبة الطاوية تدخل تحت مسمّى «معرفة المواضعة والاتفاق»، كل معرفة نضعها في هيئة كلمات، أو رموز رياضية أو موسيقية، هي معرفة جرى التواضع عليها بشكل عشوائي. هناك فقط اتفاق اجتماعي على ما تعنيه رموز التواصل هذه. مثل من يتحدثون لغة واحدة تتمتع باتفاقات ضمنية فيما يتعلق بالجوهر الذي تشير إليه الكلمات وما هي الأشياء التي ترمز إليها. وهكذا يصير أعضاء كل مجتمع وكل ثقافة متحدون بسبب روابط التواصل التي تستند إلى أنواع من الاتفاقيات على تصنيف وتقييم الأفعال والأشياء.
لكن هذه المواضعات تصبح تدريجياً سجناً للعقل، ومن هنا يمكن أن نستكشف ألاعيب اللغة التي تحدث عنها المفكر الكبير لودفيغ فتغنشتاين، عبارات الطاويين تبدو أوضح في تصوير المقصود، عندما يتساءلون عن خنازير البحر وثعابين البحر، هل هي خنازير أم ثعابين أم مجرد أسماك؟! أم هو العقل ينصب الفخاخ اللغوية لنفسه فيقع فيها؟ هل اللغة أداة للفكر، أم أنها هي من تتحكم في الفكر وتصبغه بألوانها؟
الطاوية تقدم نفسها على أنها تحرر داخلي من قيود أنماط المواضعة في الفكر والسلوك. وقد ربطت نفسها بمعرفة غير معرفة المواضعات، ربطت نفسها بفهم للحياة مباشر، بدلاً من التجريدية القائمة على مصطلحات الخط المتتابع للتفكير القائم على التصور. ومع هذا، هي لا تؤمن بإمكان تحصيل المعرفة، ولذا ترشد إلى ما تراه أجدى وأقرب، ألا وهي الحياة السعيدة البسيطة المتناغمة مع الطبيعة، البعيدة عن تحكم الانفعالات.
* كاتب سعودي