الزبيدي... نقل الفوتوغراف من مهنة حرفية إلى مفهوم فني

كان حاضراً في كل المناطق الملتهبة في الستينات

الزبيدي...  نقل الفوتوغراف من مهنة حرفية إلى مفهوم فني
TT

الزبيدي... نقل الفوتوغراف من مهنة حرفية إلى مفهوم فني

الزبيدي...  نقل الفوتوغراف من مهنة حرفية إلى مفهوم فني

في الوقت الذي ينشغل فيه المصورون العراقيون في توثيق عالمهم، طبقاً لما يراه كل واحد منهم أو يحب أن يراه، فيبتدعون أسلوبهم الذي سيعرّفون به بين أجيالهم: لطيف العامي، فؤاد شاكر، أرشاك، حازم باك، وآخرون... يبرز اسم جاسم الزبيدي الذي سيمنح الفوتوغراف هويته الخاصة بأسلوبه الخاص.

الزبيدي هذا الـ(ستيني) بامتياز ليس فيما أبدع من منجز فوتوغرافي، بل بالانتماء إلى مجموعة تميزت بليبراليتها ورومانسيتها في الوقت نفسه، وقد وجدت تعبيرات حية في الموسيقى والفنون البصرية، وهي مجموعة ضمت رموزاً من فترة الستينات، خصوصاً الفنانين التشكيليين منهم. وهو ما دفعه تماشياً مع ظاهرة الستينيين أن يؤسس مجموعة فنية أطلق عليها (مجموعة تموز للفن الحديث)، التي زرع فيها نواة تنظيم الفوتوغرافيين كجزء من الحركة التشكيلية العراقية، ناقلاً بذلك فن الفوتوغراف من مهنة حرفية بحتة إلى مفهوم إبداعي فني يحمل أفكاراً ورسالة تثقيفية بصرية مباشرة.

وبذلك، انفرد الزبيدي عن جيله، والجيل الذي سبقه من الفوتوغرافيين، بميزة أنه منح الكاميرا وظيفة أخرى، وظيفة لا تجعل منها أسيرة الاستوديوهات الرطبة، بل تطلقها لتجعل منها أداة باحثة عن الحقيقة، وظيفة تجمع بين العناصر الجمالية التي تميز الصورة الفوتوغرافية، والوثيقة البصرية المتجلية عنها. ليس هذا حسب، فإن دخوله مجال التصوير الصحافي، جعله يلتقط صوراً اتسمت بتعبيريتها العالية، التي شدت له الانتباه، لحظة بداية عمله.

حياة البؤس التي عاشها جعلته يتعرف جيداً على البيئة الاجتماعية للمدينة، وعلى مئات الأزقة، ووجوه الأطفال وألعابهم، ومهن آبائهم البسيطة. لقد هضم حسه البصري آلاف الصور، وأدرك مبكراً أن هذه الصور ستغني عن آلاف من الكلمات.

وعلى الرغم من شغفه بالتصوير مبكراً، فإن حادثة العثور على كاميرا من نوع (لايك) في أحد الشوارع، شكلت منعطفاً في حياته، لكن العمل في الصحافة، هو الذي صقل موهبته، وكان عليه أمام وجود عدد من المصورين المعروفين من جيله في تلك الفترة، أن يبحث عن أسلوب يتفرد به. وكانت مشاركته في تغطية الحرب التي نشبت عام 1967 ليوثق جزءاً من أحداثها... وهو الأمر الذي جعله يكرس حضوره كمصور صحافي، ليؤسس قسم التصوير في مجلة «ألف باء»، لينتقل بعدها إلى جريدة «الجمهورية».

يكتب الفوتوغرافي هيثم فتح الله عزيزة في كتابه «جاسم الزبيدي... الثائر بعدسته» الصادر عن دار الأديب في عمان: «لاحت للزبيدي فرصة ذهبية ليكون مصوراً خاصاً لرئاسة الجمهورية خلال فترة حكم الرئيس أحمد حسن البكر عندما رشحته الجريدة لذلك، غير أن تصوير المناسبات الرسمية التي تخلو من اللمحات الفنية والتعبيرية، وتقتصر على الصور التذكارية والبروتوكولية من مصافحات ولقاءات واجتماعات، لم ترق للزبيدي كونها مستبعدة عن فنه المعبر، فافتعل طريقة للتخلص من هذا المأزق عندما اعتلى كرسياً ليصور الرئيس العراقي وهو يستقبل ضيفه رئيس وزراء الهند، متجاوزاً الأعراف والأصول البروتوكولية الرسمية فتم الاستغناء عنه لاحقاً، وإعادته إلى جريدته».

لعل من الأمور التي صاغت شخصية الزبيدي، وعيه الطبقي المتزايد كإنسان يسعى إلى التغيير، متأثراً بأخيه الأكبر صاحب الفكر اليساري؛ لذلك كانت كل مشاريعه الفوتوغرافية تصب في هذا النهج، فأطلق لحيته، مثل جيفارا، ولبس الكاكي واقتنى سيارة جيب ليبدو متماهياً مع نماذج المناضلين والثوار آنذاك. بيد أن الزبيدي لم يقتصر على التماهي الشكلي، بل ارتبط فعلاً بالقضايا الثورية عن إيمان، وهذا ما أكدته مشاركته الفعلية في حركة المقاومة الفلسطينية، وفي إريتريا أيضاً، بالإضافة إلى تغطيته الكثير من الفعاليات الإعلامية والفوتوغرافية، حاملاً كاميراه التي هي سلاحه الوحيد والفعال. وبسبب مواقفه التضامنية معها، أطلقت «جبهة التحرير الإريترية» اسمه على أحد شوارع العاصمة أسمرة بعد التحرير ونيل الاستقلال.


مقالات ذات صلة

عدسة المصوِّر اللبناني عدنان الحاج علي تلتقط هوامش الحرب

يوميات الشرق الألعاب المتناثرة تختزل الطفولة المقهورة (عدنان الحاج علي)

عدسة المصوِّر اللبناني عدنان الحاج علي تلتقط هوامش الحرب

المصوِّر الصحافي حسم أمره، ولم يعد يرغب في تصوير ضحايا الحرب على أرض لبنان وجرحاها. الاستقالة المؤقتة من مهنته الصحافية أراد تحويلها مساحةً حرّةً لعينيه.

فيفيان حداد (بيروت)
خاص تربط رانيا مطر علاقة وطيدة ببلدها لبنان (صور الفنانة)

خاص رانيا مطر لـ«الشرق الأوسط»: أستغربُ عدم التفاعل الدولي مع صور حربَي لبنان وغزة

تقول إنّ اللبنانيات بطلات يحفرن بالصخر ليؤمنّ مستلزمات حياة كريمة للنازحين: «نملك الحسّ الوطني بعضنا تجاه بعض، وهو أمر بديع أتمنّى ترجمته بكاميرتي قريباً». 

فيفيان حداد (بيروت)
الوتر السادس «ست الدني»... أول أغنية وطنية يصورها (روجيه زيادة)

روجيه زيادة لـ«الشرق الأوسط»: الموسيقى تسهم في تعزيز رؤيتي الفنية مع الكاميرا

يشتهر المخرج روجيه زيادة بصفته مصوراً فوتوغرافياً يتقن عمله بفضل عين ثاقبة يمتلكها، مُسلَّحاً بدراسة الموسيقى، التي يعدّ أنها حضّته على التعامل مع الكاميرا

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق الرئيس الفرنسي والمصوّر عمار عبد ربه

المصوّر السوري عمار عبد ربه يشارك في «نظرات على الإليزيه»

المصور السوري الفرنسي عمار عبد ربه مساهم منتظم مع «الشرق الأوسط»، يشتهر بقدرته على التقاط لحظات قوية بوضوح مدهش، وامتدت مسيرته المهنية لأكثر من 3 عقود.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصورة الفائزة بجائزة اليونيسكو (الشرق الأوسط)

لعبة «المرماح» تقود مصوراً مصرياً للفوز بـ«مسابقة اليونيسكو»

حصد الشاب المصري يوسف ناصر (21 سنة) المركز الأول في النسخة السادسة من المسابقة العالمية «عيون الشباب على طريق الحرير» التي تنظمها منظمة اليونيسكو سنوياً.

نادية عبد الحليم (القاهرة)

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟