ثلاثة تماثيل لحيانية في متحف إسطنبول الأثري

مجموعة تبدو إلى اليوم شبه مجهولة

التماثيل اللحيانية الثلاثة المحفوظة في متحف إسطنبول الأثري
التماثيل اللحيانية الثلاثة المحفوظة في متحف إسطنبول الأثري
TT

ثلاثة تماثيل لحيانية في متحف إسطنبول الأثري

التماثيل اللحيانية الثلاثة المحفوظة في متحف إسطنبول الأثري
التماثيل اللحيانية الثلاثة المحفوظة في متحف إسطنبول الأثري

يحتفظ «متحف إسطنبول الأثري» بمجموعة من القطع الأثرية مصدرها الحجاز، شبه مجهولة بشكل كبير، وهي؛ وفق التصنيف الرسمي، آثار نبطية عُثر عليها في موقع مدائن صالح في أثناء العمل على إنشاء «سكة الخط الحديدي الحجازي» في عهد ولاية السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، في الفترة الممتدة من عام 1907 إلى عام 1918. اللافت أن إدارة المتحف تجزم أنها لا تملك اليوم أي سجل توثيقي يحدّد بدقّة المواقع التي اكتشفت فيها هذه الآثار، وتؤكد أنها لا تملك أي معلومات تاريخية حول كيفية نقلها إلى المتحف.

يقع «متحف إسطنبول الأثري» في منطقة أمينونو، بالقرب من حديقة «كلخانة»، في ساحة قصر «طوب قابي»، واسمه في الواقع «متاحف إسطنبول الأثرية»، وهو أشبه بمجمع كبير يضمّ 3 متاحف: المتحف الأثري، ومتحف الشرق القديم، ومتحف الفن الإسلامي. افتتح هذا المجمّع عام 1891، في ظل حكم السلطان عبد الحميد الثاني، وحمل اسم «متحف همايون»، أي «متحف الإمبراطورية». في 1935، ضمّ «متحف همايون» قسماً جديداً حمل اسم «متحف آثار الشرق القديم»، وفي 1953، ضمّ جناح «كشك البلاط» الذي بناه السلطان محمد الثاني في 1472، وأُطلق على هذا الجناح اسم «متحف الفن الإسلامي».

يحتفظ «متحف آثار الشرق القديم» بمجموعة الآثار الحجازية التي حصل عليها في أثناء إنشاء «الخط الحديدي الحجازي» كما يُقال، وتضمّ هذه المجموعة، وفق السجل الرسمي، أكثر من 20 قطعة من أنواع مختلفة، منها: 8 نقوش كتابية؛ اثنان منها كاملان، و6 جزئية، و8 تماثيل آدمية ذكورية غير كاملة، وعمودان؛ أحدهما كامل والآخر بقيت منه قاعدته المزيّنة بسلسلة منقوشة تمثل موكباً من الماعز، ومزولة ممهورة بنقش نبطي، إضافة إلى شاهد قبر وصل بشكل كامل.

من المفارقات الغريبة، أن هذه المجموعة تبدو اليوم شبه مجهولة، والمتحف لا يعرض منها سوى 5 قطع: المزولة، وقاعدة العمود، وتمثالان جزئيان، ورأس تمثال.

من المعروف أن أول مسح أثري فعلي في بقاع الحجاز يعود إلى بعثة فرنسية قامت بثلاث حملات قادها الكاهنان الكاثوليكيان أنطونان جوسين ورفاييل سافينياك بين صيف 1907 وربيع 1910، بالتزامن مع إنشاء «الخط الحديدي الحجازي». في التقارير الخاصة بهذه الحملات، يذكر الكاهنان المزولة الممهورة بنقش نبطي يُسمّي صاحبها كما اتضح، كما يذكران بضعة تماثيل اكتشفاها في «خربة الخريبة»، بين أطلال مدينة دادان القديمة، حاضرة مملكة دادان، ثم لحيان. كتب الباحثان الفرنسيان إلى مدير متحف إسطنبول الإمبريالي المدعو «خليل بيه» رسالة اقترحا فيها نقل تمثالين من هذه التماثيل إلى دمشق كي تدخل «متحف همايون»، غير أن هذه الرسالة لم تصل إلى «خليل بيه» إلا بعد شهرين، بعدما انتقل مرسلاها إلى القدس، ويصعب القول إن التمثالين المعروضين اليوم في «متحف آثار الشرق القديم» هما التمثالان اللذان عثر عليهما الكاهنان الفرنسيان.

لا نجد، كما يبدو، أي ذكر للمجموعة الحجازية المحفوظة في إسطنبول في أي من الدراسات التي تناولت فنون هذه البقاع خلال القرن الماضي، ولم تُعرف من هذه المجموعة بشكل وافٍ إلا المزولة الممهورة بنقش نبطي. وحده العالم الألماني هيلموث ثيودور بوسيرت أشار بشكل عارض إلى هذه المجموعة، واكتفى بذكر تمثالين إلى جانب المزولة في كتاب موسوعي صدر في 1951. تعود هذه المزولة إلى القرن الأول للميلاد، وهي أداة توقيت نهاري، وتتمثل في نصف دائرة مجوف يحوي شبكة من الخطوط الغائرة تشكل عقارب لهذه الساعة الشمسية. في المقابل، تعود قاعدة العمود إلى مرحلة زمنية سابقة، وتُماثل قطعاً عثر عليها في العُلا؛ منها مذبح من موقع «أم الدرج»، ومذبح آخر محفوظ في متحف قسم الآثار في جامعة الملك سعود بالرياض. تبقى التماثيل الثلاثة المعروضة في «متحف آثار الشرق القديم»، وهي لحيانية من دون شك، وتُماثل مجموعة كبيرة من التماثيل عُثر عليها في العقود الأخيرة، وآخرها تمثال ضخم اكتُشف في صيف 2022 في موقع دادان، تجاوز وزنه الطن، بينما بلغ طوله مترين و20 سنتمتراً.

وصلت هذه التماثيل بشكل مجتزأ، وهي من الحجر الرملي الأحمر المحلي، وما بقي منها يُظهر تبنيها بشكل كامل الأسلوب الخاص الذي ساد بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد. التمثال الأول من الحجم الكبير، رأسه مفقود، وكذلك ذراعاه وما يلي الفخذين من الساقين، ويمكن القول إنه كان يبلغ حجم الإنسان العادي عند تمامه في الأصل. ويُمثّل رجلاً عاري الصدر، كتفاه في وضع مستقيم، يرتدي إزاراً بسيطاً يمتد من تحت السرة إلى ما فوق الركبة. القامة منتصبة في مهابة واستقامة. الصدر منفّذ بإرهاف، ويتميز باتساعه عند المنكبين وبين الإبطين، وفقاً للتقليد المتبع. الإزار بسيط، وتحدّه في الأعلى طيّته المشدودة بحزام مزدوج عُقد طرفه على الجانب الأيسر، وتدلّى منه شريطان. التمثال الثاني فقد رأسه وذراعه اليمنى والقسم الأسفل من ذراعه اليسرى، كما فقد النصف الأسفل من ساقيه، وما بقي من ذراعه اليسرى ملتصق بمحاذاة جانب الصدر، وفقاً للتقليد المحلي الذي يعكس أثراً مصرياً واضحاً.

يبقى التمثال الثالث، وهو وجه ضخم يعود في الأصل إلى تمثال مماثل، ويشابه الوجوه الكبيرة التي خرجت من العُلا. عيناه لوزيتان غائرتان، يعلوهما حاجبان ناتئان، عريضان ومتصلان. أنفه مستقيم وشفتاه بارزتان، يرتسم من فوقهما شاربان يتمثّلان في تشكيل تخطيطي خفيف النقش. وتظهر على صدغيه لحية تحضر في تشكيل مماثل. ينسدل الشعر الكثيف الطويل من خلف الرأس، وتعلوه عمامة شبيهة بـ«الغترة النجدية»، يحيط بها عقال ناتئ عريض يحدّ الجبين.

يتميّز هذا الوجه بمحجري عينيه الواسعتين، ويتوسط كل محجر بؤبؤ على شكل ثقب غائر، مما يوحي بأن هاتين العينين كانتا مطعمتين بحجرين لامعين. يظهر هذه العنصر الفني الخاص في وجهين خرجا من تيماء في السنوات الأخيرة، أوّلهما وجه بقيت من ملامحه عين ظهر في وسطها بؤبؤ صغير مماثل، وثانيهما وجه استعاد ملامحه بعد عملية ترميم دقيقة كشفت عن عينين شاخصتين واسعتين، تحوي كل منهما بؤبؤاً كبيراً، أُنجز وفق الأسلوب نفسه.

تجزم إدارة «متحف إسطنبول الأثري» أنها لا تملك أي سجل توثيقي يحدّد المواقع التي اكتشفت فيها هذه الآثار، ولا أية معلومات تاريخية حول كيفية نقلها إلى المتحف


مقالات ذات صلة

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

العالم العربي الدكتور رشاد العليمي رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني خلال كلمته (سبأ)

اليمن يسترد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية

في لحظة وصفت بـ«التاريخية»، أعلنت الحكومة اليمنية استرداد 14 قطعة أثرية ثمينة تعود للحقبة القتبانية، ووضعها بمتحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك بشكل مؤقت…

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق دهشة الذكاء الاصطناعي (رويترز)

الذكاء الاصطناعي «نجم» رسوم عمرها 2000 عام في بيرو

تُعدّ خطوط نازكا، التي تعود إلى 2000 عام مضت، رسوم لنباتات وحيوانات، يمكن رؤيتها فقط من السماء. وقد أُعلنت ضمن مواقع التراث العالمي لـ«يونيسكو» عام 1994.

«الشرق الأوسط» (بوينس آيرس)
يوميات الشرق إطلالة على مدينة طرابلس اللبنانية من أعلى قلعتها الأثرية (الشرق الأوسط)

«جارة القلعة» تروي حكاية طرابلس ذات الألقاب البرّاقة والواقع الباهت

لا يعرف معظم أهالي طرابلس أنها اختيرت عاصمة الثقافة العربية لهذا العام، لكنهم يحفظون عنها لقب «المدينة الأفقر على حوض المتوسط».

كريستين حبيب (طرابلس)
شمال افريقيا مبنى المتحف القومي السوداني في الخرطوم (متداول)

الحكومة السودانية تقود جهوداً لاستعادة آثارها المنهوبة

الحكومة السودانية عملت على اتخاذ التدابير اللازمة لحماية وتأمين 76 موقعاً وصرحاً أثرياً تاريخياً في ولايات نهر النيل والشمالية، وجزء من ولاية الخرطوم.

وجدان طلحة (بورتسودان)
يوميات الشرق من أعمال التنقيب في موقع زبالا التاريخي المهمّ على درب زبيدة (واس)

السعودية... آمالٌ تُفعّلها المساعي لالتحاق مواقع بقائمة التراث العالمي

العمل قائم على تسجيل مواقع جديدة في القائمة الدولية للتراث العالمي، من أهمها دروب الحج القديمة، لا سيما درب زبيدة، بالإضافة إلى ملفات أخرى تشمل الأنظمة المائية.

عمر البدوي (الرياض)

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان
TT

ما الذي تبقى من الاستشراق؟

أرنست رينان
أرنست رينان

أثار المفكر المرموق أنور عبد الملك في حينه (1962) موضوعاً مهماً، وهو يعرض لأزمة الاستشراق. لم يتحدث أنور عبد الملك عن استشراقين، معرفي وسياسي، كما فعلت في كتاب «الاستشراق في الفكر العربي - 1993»، كان معنياً بالأزمة التي رافقت ظهور الحركة بصفتها المعرفية التي سرعان ما اختلطت بمصالح الاستعمار. ونبّه الدارس والعالم الاجتماعي المصري المقيم في باريس في حينه إلى العوائل الفلولوجية التي ساهمت المدارس الاستشراقية في ترسيخها على أساس انقسام العالم إلى آري، وآخر سامي يشتمل العرب، واليهود، والملونين، وغيرهم. كان التوزيع بمثابة تبرير استيطاني يشتغل بوجهين: فإذا أراد نابليون مثلاً الاستحواذ على مصر قبل إنجلترا فعليه ادعاء أمرين: أنه مسلم، وأسلم بحضور علماء مسلمين في القاهرة؛ ولكن أيضاً على أساس أن مصر شرق متوسطية، وبالتالي فهي تعود لفرنسا، لا إلى إنجلترا في التوزيع الاستعماري للمعمورة. ولذا كان فريقه من العلماء والباحثين يكتب «وصف مصر»، المجلد الواسع الذي تصدرته مقدمة تقول إن على مصر أن تتجاوز قروناً من «إسلاميتها» لتعود إلى الحضن المتوسطي - الفرنسي. هكذا تأتي المقدمة التي استدرجت مثقفين عرباً، من بينهم طه حسين. لم يذهب عبد الملك إلى هذه المساحة، ولم يذهب إليها الراحل المرموق المفكر إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد معنياً بالمكونات المعرفية لحركة تمايزية تمييزية تدعي المعرفة بالشرق، أي بالشرق الأوسط، والعرب والمسلمين تحديداً، قبل أن ينتقل مفهوم «الشرق» إلى جنوب شرقي آسيا. الشرق الأوسط الذي التقليدي يصر «الدارس التقليدي» ورحالة الإمبراطوريات الناهضة هو الذي يعنيه سعيد؛ أي أنه مجموعة الانطباعات السطحية العائمة التي تعرض لسكان كتل بشرية عظيمة على أنهم كسالى مخدرون ثابتون على فكرة واحدة، لا أمل في تغييرهم إلا بنابض وحاضر أوروبي يديره الرجل الأبيض. من المفارقات التي لم يذكرها الراحل العظيم أن الدارس الإنجليزي المعروف صاموئيل جونسن، صاحب أول قاموس إنجليزي متكامل، كتب على لسان شخصيته المركزية «عملاق» الشاعر أن «إيثوبيا» الشرقية شأنها شأن مجاوريها تحتاج إلى رعاية «استعمار» أوروبي «شمالي» يتيح لها الخروج من وحدتها وجنوبيتها. إذ العالم منذ القرون الوسطى ينقسم إلى شمال وجنوب، ويسقط التوزيع الجغرافي سطوته على الديانات والأقوام، وكان أن عرض لهم بعض «تنويريّي» القرن الثامن عشر على أنهم يعانون سباتاً لا أمل منه من غير سطوة رجل أوروبا الأبيض. هكذا كان الذهن «التنويري» الأوروبي. علينا ألا ننسى أن «صاموئيل جونسن» هو من المبرزين في الحركة «الإنسانوية» لتمييزها عن غيرها لخصومتها مع دعاة العبودية والاستعباد. وإذا كان جونسن يميل إلى هذا المعتقد، فكيف لنا بغيره؟ علينا ألا ننسى ثانية أن جونسن قرأ ترجمات دارس الاستشراقين المبرز في المشرقيات سير وليم جونز وكتاباته، وهو الذي أطلق عليه تسمية «جونز الشرقي» Oriental Jones، بحكم انهماك الأخير في قراءة أدب العرب والفرس. وترجماته وكتاباته ذائعة ومؤثرة. وهو نفسه - أي جونز - الذي في نهاية حياته وعند مراجعته ورصده لهذا الانهماك يستنتج أن ثقافته الأم أهم من ذلك الذي قضى عمره في دراسته.

إدوارد سعيد

لم يتطرق الراحل سعيد إلى هذا الأمر لأنه كان معنياً بمجموعة التهيؤات والتصورات لعدد كبير من الرحّالة والكتّاب لما كان يتصورونه شرقاً رثاً ساكناً شهوانياً لا فكر له ولا مستقبل من دون اللمسة الإمبراطورية. دعني أضيف: إنهم يستكملون ما بدأه بارتياح، بالغ دانيل دفو في روايته الذائعة منذ صدورها 1703 «روبنسون كروسو» التي تعرض إلى الشرق وأفريقيا أرضاً بوراً يسكنها ويعمرها كروسو ليلقن فرايدى الأسود الطريد لغته التي تبتدئ بالرضوخ، أي بمفردة: نعم. والخلاصة: أن أرنست رينان سيقفز على حصيلة هذا التراكم. وسيستعمر هو الآخر نتاج «دي ساسي» ليعيد توظيفه في التوزيع الفلولوجي الفقهي للعالم على أساس آري - سامي، ولم يعنِ رينان بالتوزيع ما بين شمال وجنوب مستعْمِر ومستعْمَر. كان معنياً بالتوزيع المتناقض في رأيه ما بين آري متماسك تركيبي عقلاني حضاري، وآخر سامي راكد ساكن. ولكن نظرية أرنست رينان التي سادت في حينه واجهت مشكلات نهاية القرن التاسع عشر، وحصيلتها النهائية للديمقراطية الانتخابية التي فسحت المجال للهجرات والأقليات، ولا سيما الأقلية اليهودية الناشطة القادمة من ألمانيا، التي استفزتها منذ زمن نظرية العرق الجرماني الذي يسعى للمّ الشمل والتكامل على أساس نقاوة العرق الجرماني. هذه النظرية التي سيسخر منها بصراحة المثقف العراقي المظلوم، ذو النون أيوب، في روايته «الدكتور إبراهيم» هي التي تشكل البذر النازي. وإذا كان يهود أوروبا من الكتّاب ورجال المال يؤثرون إنجلترا وفرنسا هرباً من ألمانيا منذ نهاية القرن التاسع عشر، فإن الأمر الذي تمخض جراء ذلك هو أنه ليس بالإمكان الركون إلى نظرية أرنست رينان وتوزيعها العرقي الديني ما بين: آري وسامي. فكان أن ولد التوزيع: الأوروبي أو الغربي والشرقي!! ومن السخرية أن اللغة النازية العرقية تحولت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص كما يتأكد في خطب المستعمر الاستيطاني اليوم!

وعندما ألقى الراحل العالم ياروسلاف ستيتكيفتش محاضرته المبكرة في كلية سينث أنتوني بجامعة أكسفورد سنة 1967 كان ينبه إلى أمر آخر قد لا يبدو متصلاً بما نحن فيه؛ كان يلوم «نحن المستشرقين» على دراسة الشرق كموضوع من دون الانتماء إليه حباً وتعاطفاً. كان ينحو باللائمة عليهم لأنهم يكتبون ويقرأون باللغات قيد الدرس، لكنهم يعجزون عن استعمالها في التخاطب والعلاقة بالعرب موضوع درسهم. كان يدعو بإصرار إلى محبة حقيقية، وليس دراسية فحسب، لكي يشعروا بالانتماء إلى ما يخصونه بالدرس. ولهذا عجزوا عن العلاقة بموضوعهم، أي العرب. ومن هؤلاء كان المستشرق مرغليوث مثلاً الذي جمع أحاديث التنوخي ورسائل أبي العلاء المعري. لكنه أيضاً رافق البعثة البريطانية التي احتلت العراق. ويذكر الشاعر الدارس محمد مهدي البصير أحد معاصريه آنذاك أنه أي «مرغليوث» قال عند التفاوض مع الوفد الوطني العراقي: «إنه لم يعرف عن العراقيين القدرة على إدارة أنفسهم» بما يعني أنهم بحاجة إلى المستعمر البريطاني أو غيره!!

اللغة النازية العرقية تحوّلت إلى جزء أساس من لغة المستعمر الجديد الذي يستخدم تعبير حيوانات بشرية في الإشارة إلى العرب والفلسطينيين منهم بشكل خاص

هذه هي نهاية المستشرق؛ فهي ليست نهاية معرفية فحسب، ولكنها سياسية أيضاً، لأنها اقترنت بالتمايزات العرقية التي رافقتها، والتي قادتها إلى النهاية. هذا لا يعني التقليل من المنجز المعرفي عند السير وليم جونز ودي ساسي وسير شارلز لايل، وغيرهم. لكن إشارة الراحل ياروسلاف إلى أهمية التخاطب ودوره في توطيد حب حقيقي لموضوع الدرس تعني ضمناً لزوم التباعد عن عقدة المستعمر، أي ادعاء السيادة على الأقوام الأخرى. لهذا انقاد الاستشراق إلى حتفه، مع ازدهار العلوم الاجتماعية، وبروز المستعرب شريكاً ثقافياً. لكنها بداية المستعرب الذي درس العرب من زوايا مختلفة، وجاء بعدة أخرى، قوامها الحب والمودة لموضوع الدرس. المستعرب ليس دارساً للأدب وحده، وقد يكون مؤرخاً وسوسيولوجياً، وفيلسوفاً وغير ذلك، إنه ابن الثقافة التي يعنى بها، إذ لا تمييز بينه وبين أهلها، ولأنهما لا يقلان جهداً وتمعناً. ولنعد إلى السؤال: ما الذي تبقى من الاستشراق؟ لا يغمط السؤال الإرث الترجمي الفلولوجي الواسع الذي قام به المستشرق، لكن التقليديين منهم الذين مضوا على جادة مرغليوث لم يحققوا غير منجز ضئيل، مقارنة بالجهد الذي يقوم به المستعرب والمستعربة، وهما يمتلكان آليات بحث وتنقيب وتحليل مستجدة، لا تغمط الأقوام درايتها ولا تعددية ثقافاتها وتلويناتها المختلفة التي تفترق عن «النمطية» الأوروبية والنظرة الاستنكارية للآخر لمجرد تباينه عما يتصوره «التقليدي» نمطاً وحيداً عقلانياً قادراً على إدارة الآخرين.

جامعة كولمبيا، نيويورك.