تقف فاطمة الحلّاب في أعلى نقطة مُشرفة على عاصمة الشمال اللبناني، قلعة طرابلس الأثرية البالغة 9 قرون. تقصّ لمجموعة الزوّار الذين ترافق، حكايةَ حصنٍ أمضى قرونه التسعة وهو يستقبل غزاةً ويودّع مستعمرين، قبل أن ينتقل إلى استقبال السيّاح وعشّاق التاريخ.
صفة فاطمة الرسمية «مرشدة سياحية»، أما لقبها فهو «جارة القلعة»، نسبةً إلى منزلها الملاصق للمعلم التاريخي. بين الجدران الشاهقة، ركضت فاطمة طفلةً. كانت مكافأةُ الانتهاء من الفروض المدرسية مشواراً إلى القلعة. ومع كل مشوار، وقفت مذهولة أمام الضخامة والسحر وتمنّت لو أنّ ثمة مَن يحكي لها قصة تلك الحجارة والقناطر والأبراج.
كبرت الفتاة واحتلّت خيالَها وفِكرَها تفاصيلُ القلعة، فقررت أن تصبح هي «الحكواتيّة» التي تروي قصة الحصن والمدينة التي يحرسها.
لم أكن أعلم
ليست الجولات السياحية هذه السنة كما في باقي السنوات، إذ تحتفل طرابلس بإعلانها «عاصمة الثقافة العربية لعام 2024». وهذه مناسبة تذكّر فاطمة فيها عبر «الشرق الأوسط» بأنّ «طرابلس هي المدينة ذات الثقل الثقافي والتاريخي الأكبر في لبنان حالياً، لأنها لم تخلع الأصالة عنها وهي حافظت على الكثير من جذورها الضاربة عميقاً في الزمن».
اللقب الممنوح من قِبَل «المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» التابعة لجامعة الدول العربية مستحَقٌّ عن جدارة، إذا ما قيسَ على قيمة طرابلس الثقافية وعراقتها وتمسّك أبنائها بتقاليدهم وعاداتهم. غير أنّ واقع الحال في المدينة مناقضٌ لبريق التاج الذي وُضع على رأسها. فبالتزامن مع الإعلان في شهر مايو (أيار) الماضي، كانت طرابلس تفتتح موسماً سياحياً خجولاً ألقت بظلّها عليه الحرب في الجنوب اللبناني وغزة. أضف إلى ذلك، «انفصال غالبية أهل المدينة عن الجوّ الثقافي وسط غياب المقوّمات المحفّزة على ذلك»، وفق ما تقول فاطمة الحلّاب.
لا تبالغ فاطمة عندما تتحدّث عن هذا الشرخ ما بين اللقب وواقع الحال، فجولةٌ سريعة بين الأزقّة العابقة تاريخاً وبؤساً في آنٍ معاً تُثبت كلامها. تستوقف تاجراً أمضى عمرَه في الأسواق القديمة لتسأله عن رأيه باختيار طرابلس عاصمة الثقافة لهذا العام، فينظر إليها مستغرباً ثم يقول: «لم أكن أعلم بذلك». لا يعرف أهل المدينة أنها متوّجة بلقب الثقافة، إلا أنهم يحفظون لقبها الآخر: المدينة الأفقر على حوض المتوسط.
حركة ثقافية شبه معدومة
تتساءل الشابة الضليعة في تاريخ لبنان الأثري، من شماله إلى جنوبه، كيف أنّ «عاصمة الثقافة العربية ليست فيها مكتبة عامّة مثلاً». مع العلم بأنّ طرابلس عُرفت عبر العصور باحتضانها أكبر مكتبة في العالم العربي، والتي كانت تحتوي على أكثر من مليون كتاب، قبل أن تندثر ويختفي أثرها. كما أُطلق عليها «مدينة العلم والعلماء» نسبةً إلى المدارس الـ365 التي كانت تضمّ، متفوّقةً آنذاك بذلك على سائر المدن اللبنانية والعربية.
وبعد، عاصمة الثقافة يتيمةٌ من سينما منذ أُقفلت آخر صالاتها قبل سنواتٍ قليلة تحت وزر الأزمة الاقتصاديّة. ويشهد التاريخ على أنّ طرابلس احتضنت 30 قاعة سينما ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، وفق ما يروي المخرج هادي زكّاك في كتابه «العرض الأخير».
أما المسرح فليس أفضل حالاً. ولولا إعادة افتتاح «المسرح الوطني اللبناني» في منطقة التلّ، لبقيت المدينة خاليةً من خشبة وستارة مخملية وأملٍ بعودة الأعمال المسرحية إليها.
حمّامات انقطعت المياه عنها
من القلعة الأثرية تنتقل فاطمة بمجموعة الزوّار إلى حمّام عز الدين التاريخي، الذي بني في القرن الـ13 عشر أي خلال الحقبة المملوكيّة. مع أنّ خرير المياه ولهيب البخار غابا عن المكان، إلا أن المرشدة السياحية لا تفقد شيئاً من شغفها عندما تسرد حكاية الحمّام الذي توقّف العمل فيه منذ سنوات.
كل ما بقي هنا جدرانٌ محا الزمن زهوَ ألوانها، وبِركةٌ ركدت المياه فيها، ورخامٌ شهد على عبور أجيال المدينة كلها وعلى صدى أحاديثهم وأسرارهم.
«في طرابلس أكثر من 160 موقعاً أثرياً»، تقول فاطمة الحلّاب. إلّا أنّ أكثرها شهرةً تبقى القلعة والخانات والحمّامات، وهي مقصد السيّاح بالدرجة الأولى. تغصّ الخانات التاريخية التي استحالت اليوم أسواقاً للذهب والملابس بأهل المدينة، وبعدد ضئيل من الزوّار.
خانات عابقة بالغار والياسمين
في الخانات تحديداً، لا سيّما في خان الصابون العابق بعطور الياسمين، والليمون، والغار، يمكن التِماسُ تمسّك الطرابلسيين بجذورهم. يشبهون أنفسهم ولم يبدّلهم الزمن العابر بسرعة جنونية.
يتأسّف بعض أصحاب المتاجر على موسمٍ صيفيّ مرّ بخجل ولم يعد بفائدة اقتصادية كبيرة على المدينة. من جانبها تأسف فاطمة الحلّاب لأنّ الأنشطة المواكبة لإعلان «طرابلس عاصمة الثقافة العربية 2024» لم تحظَ بإضاءة كافية. «من المؤكد أن الحفلات الموسيقية والمعارض الحرفية والندوات والجولات السياحية المجانية التي نُظّم معظمها بمجهود فردي، كانت تستحق اهتماماً أكبر». وتضيف: «نحن لا نحصل على هذا اللقب كل يوم، وبالتالي كان من المفترض بوزارتي الثقافة والسياحة أن تضيئا أكثر على الحدث، خصوصاً في الشهرَين اللذَين شهدا على عودة المغتربين».
الساعة 12.30
في المحطّة الأخيرة من جولتها، تقف فاطمة في «ساحة التلّ». تشير للمجموعة المرافقة إلى مبانٍ تؤرّخ للحقبة العثمانية؛ هنا مصرفٌ وهناك دار بلديّة ومدرسة. تعيد التذكير ببعضٍ من الألقاب الكثيرة التي حصدتها المدينة على مرّ العصور؛ «الفيحاء»، «مدينة العلم والعلماء»، وغيرها. ولعلّ أكثر الألقاب التصاقاً بهويّتها الحاليّة هو «أم الفقير»، لأنّ طرابلس ما زالت مقصداً للّبنانيين الباحثين عن سلَعٍ تجارية وخدمات لا تزيد من الثقل الملقى على أكتافهم.
وسط ساحة التلّ يرتفع البرج بساعته الأنيقة التي أهداها السلطان عبد الحميد للمدينة إبّان الحُكم العثماني. توقّفت العقارب عند الثانية عشرة والنصف، وكأنّ الزمن يريد أن يبقى عالقاً في التاريخ الأجمل من الحاضر؛ التاريخ ذاته الذي جعل من طرابلس عاصمةً للثقافة العربية.