مهرجان «دواير» ينعش الحياة الثقافية في العاصمة المصرية

معارض متنوعة للكتب وندوات أدبية وورش عن الكتابة والسينما

من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
TT

مهرجان «دواير» ينعش الحياة الثقافية في العاصمة المصرية

من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)
من فعاليات المهرجان( الشرق الأوسط)

انطلقت في العاصمة المصرية القاهرة فعاليات الدورة الأولى لمهرجان «دواير» الثقافي، الذي تنظمه دارا «ديوان» و«تنمية» للنشر والتوزيع بمشاركة واسعة لمثقفين وأدباء وشعراء وكتاب سيناريو ومخرجين سينمائيين. وتشهد الفعاليات التي تستمر حتى 15 يوليو (تموز) مشاركة 25 دار نشر عربية ومصرية، كما تتضمن العديد من الأنشطة المختلفة منها 4 ورش عن الكتابة الإبداعية والسينمائية، و18 ندوة تتنوع بين مناقشات الكتب واللقاءات المفتوحة مع الأدباء والسينمائيين فضلاً عن الندوات المتخصصة، كما يتضمن المهرجان معرضاً لأحدث الكتب التي صدرت عن دور نشر مصرية وعربية، بالإضافة إلى معرض خاص للكتاب المستعمل، يضم ما يزيد على 3 آلاف كتاب في مختلف المجالات.

وبحسب منظمي المهرجان، فإن هذا الحدث الذي يقام بسينما «راديو» بمنطقة «وسط البلد» يمثل فرصة مهمة للحوار حول قضايا الفكر والإبداع، كما يعد الأول من نوعه لتعزيز القيمة الإبداعية لمنطقة «وسط القاهرة الخديوية»، بما تمثله من عراقة وحضور في الذاكرة. ويهدف المهرجان إلى تحفيز التواصل المباشر والتفاعل بين مختلف «الدوائر» الثقافية، وشحذ الاهتمام بالقراءة والثقافة في العموم. وتنصب رؤية المنظمين على توسيع نطاق المعرفة وإبراز قيمة الثقافة في تكوين الوعي، وكذلك تحفيز الإبداع على مختلف المستويات.

شهد حفل الافتتاح الذي قدمته الإعلامية السورية ألما كفارنة تكريم الفنانة منة شلبي عن أعمالها المأخوذة عن نصوص أدبية مثل مسلسلي «واحة الغروب» المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لبهاء طاهر، و«في كل أسبوع يوم جمعة» عن رواية إبراهيم عبد المجيد. وقالت منة شلبي إن سعادتها بهذا التكريم لا توصف لأنها للمرة الأولى في مسيرتها التي يتم تكريمها من مهرجان ثقافي وليس سينمائياً أو درامياً.

وأشارت نهال شوقي، رئيس مجلس إدارة دار «ديوان»، في كلمتها إلى أهمية استعادة حيوية العمل الثقافي من خلال مبادرات المجتمع المدني وعبر تضافر جهود مختلف الأطراف من مبدعين ومؤلفين وناشرين ورعاة للفعاليات الأدبية، مشيرة إلى أن الفعل الثقافي يعتمد في جوهره على تداخل العديد من «الدوائر» المختلفة.

وحول خصوصية وحضور منطقة «وسط القاهرة» في المشهد الثقافي المصري، أوضح الكاتب والإعلامي عمرو خفاجي أن تلك المنطقة شهدت ندوات لنجيب محفوظ بمقهى «ريش» كما استقبلت أجمل المواهب القادمة من الأقاليم البعيدة مثل الشعراء عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور من الجنوب، فضلاً عن الناقد جابر عصفور والمفكر ناصر حامد أبو زيد والقاص سعيد الكفراوي القادمين من مدينة «المحلة»، لافتاً إلى وجود كيانات هامة بها مثل «أتيليه القاهرة» وندوات المثقفين يوم الثلاثاء، وكذلك مكتبة «مدبولي»، مما ساعد على خلق تيارات من الوعي. وأكد خفاجي أن «وسط البلد» سيظل من الأماكن التي تحرك الدوائر الثقافية في مصر وتستقبل كل الأدباء من مختلف الأرجاء.

جاء ذلك خلال ندوة «تاريخ وتطور الفعاليات الثقافية»، حيث أثنى الناشر ورئيس «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» فريد زهران على جهود المؤسسات المستقلة في إثراء الحياة الثقافية، وقال إن هذا المهرجان يؤكد على إمكانية نجاح تلك المؤسسات في تنظيم وخلق أحداث مهمة. وأشار «زهران» إلى أنه من المؤمنين بأهمية وثقل القاهرة على كل الأصعدة، وخاصة المجال الثقافي، فهذه العاصمة هي مركز الحياة الثقافية عربياً لأسباب تاريخية وثقافية.

واستعاد الروائي إبراهيم عبد المجيد ذكرياته حول «شغف الكتابة» في ندوة بالعنوان نفسه، مشيراً إلى أنه روى طرفاً من تلك الذكريات في كتابين هما «ما وراء الكتابة» و«أيامنا الحلوة». ولفت إلى أنه رفض العمل في الصحافة حتى يصبح حراً ومتفرغاً للكتابة الإبداعية، وأضاف: «كنت على علم بأن الذاكرة ستحضر لي ما نسيته، فالنسيان هو الذاكرة الحقيقية». وأكد أنه حين يكتب لا يفكر في أحد ولا يهتم سوى بالصدق الفني، فالكتابة هي التي تفرض نفسها. وتابع: «اليوم الشغف هو شغف التسليع، وهو ما لم يكن موجوداً في زمني». ورداً على سؤال حول بعض طقوسه في الكتابة، أوضح عبد المجيد أنه يستمع إلى الموسيقى العربية والكلاسيكية في أثناء كتاباته الإبداعية، ودونها لا يكتب. كما أن شغفه بشخصيات رواياته يصل به لدرجة بحثه عنهم في الشوارع، لذلك فهو يرى أن عالمه الروائي هو العالم الحقيقي.

ولفتت الكاتبة الصحافية عبلة الرويني إلى أن هناك اختلافاً في معنى الشغف، فهي ليست روائية وإنما كاتبة، وشغف الكتابة الإبداعية يختلف عن الكتابات الأخرى، وتساءلت: «في النهاية كل كتابة هي شغف وإلا فما جدوى الكتابة؟»، وقالت: «لا يوجد لديّ شغف بفعل الكتابة في ذاته، لأنه مشقة وجهد وقلق فهي حالة مزعجة لكنها تنقل الشغف لنوع من المسئولية. فالاهتمام ليس بفعل الكتابة وإنما بمعنى الكتابة ورسالتها، فالكتابة مسئولية يجب أن يكون الكاتب على قدرها».

وحول تجربته مع الكتابة، أوضح الروائي عزت القمحاوي أنه سبق وتساءل منذ 20 عاماً بشكل ساخر، إذ افترض أن الكُتَّاب فئة من المختلين نفسياً، فلماذا يحاول إذن أن يكتب، ويضع نفسه في هذا الاختبار، وهو في وسعه أن يكون قارئًا فحسب؟ وأضاف: «كان هذا تساؤلاً ساخراً لكن مع الوقت زاد اقتناعي أن المبدع غالباً ما يعاني من إعاقة ما، فهو لديه شعور أنه غير مفهوم، ويريد أن يكون مفهوماً، وبالتالي يكتب بشراهة ليحقق ذلك». وأوضح أنه بمجرد أن ينتهي من كتابة عمل يشعر أنه فرغ تماماً دون أن يحقق ما كان يراه، وبهذا الإحباط يبدأ في كتاب جديد.

ومن جانبه، أشار الروائي حمدي الجزار إلى أن ما كان يفتح شهيته للإبداع القراءة والاطلاع، خاصة في الأدب والفلسفة والتاريخ، وكذلك المشي المستمر في أحياء القاهرة بأوقات مختلفة، وكلا الفعلين أديا به إلى الكتابة. ولفت إلى أن محبته للقصة والمسرح والسينما حفزته لأن يصنع جمالاً مشابهاً، وولعه بالمشي في شوارع القاهرة هو ما خلق لديه الرغبة في محاولة تصويرها والتعبير عنها.

وفي ندوة حول «الكتابة الذاتية» رأت الشاعرة إيمان مرسال أن تصنيف الكتابة إلى كتابة ذاتية غير تخييلية، وأخرى تخييلية تبتعد عن الذات هو تصنيف إشكالي، فمثل هذه التصنيفات ما بين تخييلي وغير تخييلي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية وكتب عنها الكثير من الأدباء، في حين أن أحد مميزات الأدب العربي القديم أن مفهومه كان أوسع لدى العرب كثيراً من مفهومه في البلاد الغربية، إذ كان مفهوم الأدب يضم الذاتي وإنتاج المعرفة في آن.

وضربت إيمان مرسال مثالاً بما حدث حتى نهايات القرن التاسع عشر في مصر ولبنان وفلسطين، حيث كان يُحتفى بفكرة إنتاج المعرفة، مستشهدة بكتاب بعنوان «روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى»، الذي كتبه محمد بن علي بن محمد البقلي، وهو جراح سافر إلى أوروبا أثناء النهضة التعليمية والبعثات التي أرسلها محمد علي في القرن التاسع عشر، فروى في البداية حكايات عن نفسه ورحلاته ثم تدوين علمه. هذا المثقف حاول إيجاد لغة يشاركنا فيها معرفته. وأضافت: «كان لدينا في الأدب العربي شيء جميل لكن لم نستطع مشاركته مع العالم».

وخلصت إيمان مرسال إلى أن معظم الجدل الذي أثير حول كتابات ذاتية كان لكاتبات، المشكلة نابعة من المشهد الثقافي نفسه وليس خارجه، أكثر من ينتقد كتابة امرأة عربية هو كاتب زميل، فالمشكلة أو الصراع آيديولوجي وثقافي.

واعتبرت الروائية ميرال الطحاوي أن التعبير عن الذات فاضح، كما لا يمكن إنكاره فيما بعد، فالناس تستشعر صدق التجربة من عدمها، مشيرة إلى أنها كانت تعتقد أن التمويه في الكتابة عبقرية، لكن اتضح أنه كلما حاولنا الابتعاد عن الذات في الكتابة انجذبنا أكثر كما المغناطيس.

ويحظي المهرجان بحضور ثقافي كبير، وشدد الكاتب والسيناريست محمد هشام عبية على أن المهرجان مبادرة شجاعة في كل شيء، أولاً في كونها مبادرة ثقافية بالأساس معنية بالكتب والتفاعل بين الكتاب والفنانين والمثقفين والجمهور، وثانياً لأن توقيتها في ذروة شهور الصيف، وهي شهور غالباً ما تقل فيها الأنشطة الثقافية ومعارض الكتب بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وأخيراً لأنها مبادرة من كيانات غير حكومية.

ورأى الكاتب الصحافي سيد محمود أن جزءاً كبيراً من أهمية مهرجان «دواير» يتمثل في استعادة حيوية منطقة وسط البلد بوصفها فضاءً ثقافياً لم يعرف مهرجانات وأنشطة ثقافية مصرية كبرى منذ فترة ليست بالقليلة، لافتاً إلى أن اختيار سينما راديو بكل حمولاتها التاريخية كمكان وقفت أم كلثوم على خشبته لتكون مكان انعقاد هذا الحدث له دلالة مهمة تتمثل في توظيف الإمكانات الثرية لتلك المنطقة.


مقالات ذات صلة

مهرجان «تورونتو» مجدّداً على الخريطة بعد نكسة

يوميات الشرق المخرج ديفيد غوردون غرين والممثل بن ستيلر مع البنات المشاركات معه في فيلم «كسّارات البندق» (أ.ب)

مهرجان «تورونتو» مجدّداً على الخريطة بعد نكسة

كانت هناك مفاجأة بانتظار فيلم «كسّارات البندق»، فقبل نحو رُبع ساعة من بدء عرضه تقدّمت مجموعة شابّة وأخذت تصيح في الصالة: «تحيا فلسطين».

محمد رُضا (تورونتو)
أوروبا صورة عامة للعاصمة باريس (أرشيفية - رويترز)

يهود فرنسا ينددون بإلغاء مهرجان سينمائي إسرائيلي

أعرب المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف)، اليوم (الأحد)، عن غضبه لإلغاء مهرجان «شالوم أوروبا» السينمائي الإسرائيلي، الذي كان مقرراً في ستراسبورغ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق المصنع يشهد النسخة العصرية من مأساة ماكبث (مهرجان المسرح التجريبي)

«ماكبث المصنع»... صرخة مسرحية للتحذير من الذكاء الاصطناعي

في رائعة وليام شكسبير الشهيرة «ماكبث»، تجسد الساحرات الثلاث فكرة الشر؛ حين يهمسن للقائد العسكري لورد ماكبث بأنه سيكون الملك القادم على عرش أسكوتلندا.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق النجمة الأسترالية الأميركية نيكول كيدمان (أ.ف.ب)

وفاة والدة نيكول كيدمان تمنعها من تسلم جائزتها في مهرجان البندقية

فازت نيكول كيدمان بجائزة أفضل ممثلة في الدورة الـ81 لمهرجان البندقية السينمائي لكنها غابت عن حفل اختتام المهرجان بعد تلقيها نبأ وفاة والدتها

«الشرق الأوسط» (البندقية)
ثقافة وفنون المحرج الإسباني بيدرو ألمودوفار حاملاً «الأسد الذهبي» (أ.ف.ب)

«الأسد الذهبي» للإسباني بيدرو ألمودوفار في مهرجان فينيسيا

نالت الأسترالية نيكول كيدمان جائزة أفضل ممثلة في مهرجان فينسيا عن دورها في «بيبي غيرل»، وفاز الفرنسي فينسنت ليندون بجائزة أفضل ممثل عن أدائه بـ«الابن الهادئ»

«الشرق الأوسط» (البندقية)

حجر آدم شاهداً ودليلاً

ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
TT

حجر آدم شاهداً ودليلاً

ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم
ختمان من موقع رأس الجنز وحجر من موقع آدم

تتحدّث النصوص المسمارية السومرية عن بلاد ماجان الغنية بـ«النحاس الجبار»، غير أنها لا تذكر موقعها بدقة، مما جعل تحديد هذا الموقع موضع سجال بين المختصين في النصف الأول من القرن الماضي. تواصل هذا السجال في العقود التالية، وأوضحت الأبحاث الآثارية المتواصلة في الخليج العربي خلال العقود الأخيرة أن اسم ماجان يشير إلى إقليم عُمان في جنوب شبه الجزيرة العربية بشكل عام، وإلى شمال سلطنة عُمان وأراضٍ واسعة من الإمارات العربية المتحدة بالتحديد.

يحضر اسم ماجان في نصوص مسمارية سومرية من بلاد ما بين النهرين تعود إلى القرون الأخيرة من الألفية الثالثة قبل الميلاد، ويقابله اسم ماكان في النصوص الآكادية. يذكر نقش سومري أن جوديا، «باتيسي» مدينة لكش، أي حاكمها وكاهنها، جلب الحجر من ماجان لصنع التماثيل. ويذكر نقش آكادي أن «سرجون ملك كيش انتصر في 34 حملة، وهدم المدن جميعها حتى شاطئ البحر»، وأرسى السفن من ماجان على أرصفة مدينة آكاد. وتذكر نصوص أخرى أن مانيشتوشو، ثالث ملوك الإمبراطورية الآكادية، قاد حملة ضد ماجان، وكذلك فعل من بعده وارثه نارام سين.

انشغل العلماء في تقصّي موقع ماجان منذ ظهور هذه النصوص، واختلفوا في تحديده بشكل كبير، كما ذكر جواد علي في «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام». قيل إن اسم ماجان يشير إلى «القسم الشرقي من الجزيرة، من أرض بابل إلى الجنوب»، وقيل إنها «تقع على مقربة من ساحل الخليج، في موضع في الرمال جنوب يبرين»، داخل المنطقة الشرقية في المملكة العربية السعودية، وهو موضع يُعرف باسم مجيمنة، المشابه لاسم ماجان. وقيل أيضاً إن ماجان تقع على مقربة من الساحل، عند مصب وادي الشهبة. وقيل أيضاً إن مدلول اسم ماجان تغيّر بين فترة تاريخية وأخرى، والأرجح أنها بلاد تقع على ساحل الخليج، وهي من البلاد التي كان سكانها «يتاجرون منذ القديم مع الهند وإيران والسواحل العربية الجنوبية، ومع أفريقيا أيضاً».

تجاوزت الأبحاث المعاصرة هذه القراءات، وبات من المؤكد أن ماجان تقع في شمال إقليم عُمان، وأنها شملت أراضي واسعة مما يُعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة، كما أنها شملت في بعض الحقب أراضي تقع شمال محافظة مسندم التي تقع في أقصى شمال عُمان، وتطلّ على مضيق هرمز. احتلت هذه البلاد موقعاً مهمّاً على ساحل الخليج العربي وخليج عُمان في العالم القديم، ولعبت دوراً ريادياً في التجارة العابرة للخليج، ما بين بلاد الرافدين وبلاد وادي السند وبلاد عيلام الممتدة على الهضبة الإيرانية في جنوب غربي آسيا. وكانت كما يبدو مملكة لها نظامها الخاص، ذكرت النصوص المسمارية ملوكها «إينسي ماجان».

خرج ميراث ماجان من الظلمة إلى النور بفضل أعمال المسح والتنقيب المستمرة في زمننا، وتمثّل هذا الميراث بسلسلة من الأبراج المنتشرة على رؤوس الجبال، وبمجموعة كبيرة من المقابر، إضافة إلى مجموعة أخرى من مخلفات صهر النحاس. حوى هذا الميراث مجموعة صغيرة من الأختام تشهد لممارسة هذه الصناعة في حقبة مبكرة. في عام 1990، استعرض الباحث الأميركي دانيال بوت مجموعة من 29 ختماً، حملت 11 قطعة منها صورة ثور من فصيلة الدرباني، وهي فصيلة «الزيبو» التي تُعرف بحدبة دهنية على أكتافها، ويعود أصلها إلى شبه القارة الهندية. صُنعت هذه الأختام محلياً، غير أنها تحمل الطابع الذي ساد في وادي السند، وتشهد للعلاقة الوثيقة التي ربطت بين بلاد ماجان وبلاد ملوخا، وهي البلاد التي ذُكرت كذلك في الكتابات المسمارية، واحتار أهل الاختصاص في تحديد موقعها، والأرجح أنها في موقع يرتبط بوادي السند.

أثبتت الأبحاث المعاصرة أن ماجان تقع في شمال إقليم عُمان وأنها شملت أراضي واسعة مما يُعرف اليوم بالإمارات العربية المتحدة

في هذا السياق يبرز ختم مميّز عثرت عليه بعثة فرنسية إيطالية مشتركة عام 1993 في موقع رأس الجنز. يحتلّ هذا الموقع جغرافياً أقصى نقطة في شرق شبه الجزيرة العربية، ويتبع محافظة جنوب الشرقية في سلطنة عمان، وهو موطن لمحمية سلاحف، وفيه تمّ إجراء اكتشافات أثرية مهمة، تدل على اتصاله بوادي السند في الماضي القديم. في هذا الموقع، عثرت البعثة الفرنسية الإيطالية على ختم «تجريدي» يحمل ما يشبه كتابات يصعب تفكيكها، كما عثرت على ختم آخر زيّن نقشاً تصويرياً آدمياً. خرج هذا الختم من المبنى الذي حمل رقم 7 في تقرير المسح، ويعود إلى نحو 2300 سنة قبل الميلاد، ويمثّل شخصين متجاورين يقفان منتصبين في وضعية واحدة أمام ما يُشبه سعفة شجرة نخيل، احتلّت الطرف الأيمن من مساحة الختم المستطيلة. تتكرر هذه القامة البشرية بشكل مفرد على ختم آخر من موقع رأس الجنز، حيث تحضر إلى جانب بهيمة تمثل على ما يبدو كلباً سلوقياً.

تبدو القامتان مجرّدتين من الملامح، وهما أقرب إلى خيالين حُددا بشكل واضح، واللافت أنهما يمثلان معاً نموذجاً تصويرياً يتكرّر في مجموعة محدودة من الشواهد، تعود إلى أواخر الألف الثالث قبل الميلاد. من هذه الشواهد، تبرز قطعة تُعرف بـ«حجر آدم»، وهو على الأرجح حجر جنائزي خرج من مدفن يصعب تحديد موقعه، ونُقل إلى غابة العميري في الجهة الغربية من ولاية أدم بمحافظة الداخلية، حيث جرى استخدامه ضمن بناء حجري بسيط. حمل هذا الحجر اسم الولاية التي اكتُشف فيها، وهو حجر مسطّح يبلغ طوله 61 سنتيمتراً، وعرضه 92 سنتيمتراً، أُضيف إلى تأليفه الأصلي بعض الإشارات والأحرف العربية.

يتجلّى هذا التأليف في نقش ناتئ يمثل كذلك شخصين متجاورين، فقد أحدهما جزءاً من قامته. يظهر في الجهة اليمنى شخص يرتدي ثوباً طويلاً، رافعاً يده اليسرى نحو أسفل صدره. ويظهر في اليسرى شخص يبدو عارياً، يرفع يده اليسرى نحو الأعلى. يرمز هذا التأليف إلى طقس من الطقوس الاجتماعية والدينية، ويشير إلى صلة القرب على الأرجح، غير أن تفسيره بشكل جليّ لا يزال يمثّل تحدياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.