خالد الفرج... هوية المثقف الخليجي ودوره

أسس المطابع وألّف الكتب وأسهم في نشر الوعي الوطني والقومي

خالد الفرج
خالد الفرج
TT

خالد الفرج... هوية المثقف الخليجي ودوره

خالد الفرج
خالد الفرج

ترافق مع التكوين السياسي لدول منطقة الخليج العربي في العقود الأولى من القرن العشرين تبلور تدريجي لدور فاعل اضطلع به أبناء المنطقة وغيرهم من أبناء الدول العربية في تحقيق ذلك التكوين ودعمه بصور مختلفة، كان منها الدور الاستشاري والمؤازرة المعنوية وشغل الوظائف المختلفة التي احتاجتها الحكومات الناشئة، وهي تكافح من أجل نهوضها ورسم معالم هويتها على الصعيد السياسي وغيره، والتخلص كذلك من الهيمنة الأجنبية بكل صورها.

أحد الذين قاموا بدور لافت، بل استثنائي، في تلك المرحلة وأثناء تلك العملية، هو خالد الفرج، الكويتي ولادةً ونشأة، والخليجي عملاً ونشاطاً وتطلعات. ومع أن الفرج لم يعِشْ أكثر من ستة وخمسين عاماً ما بين 1898 و1954، فإن منجزه الثقافي والإداري وعدد المهام التي اضطلع بها تتجاوز تلك العقود القليلة إلى أثر أعمق وأوسع. استطاع ذلك الرجل أن يؤسس المطابع ويؤلف الكتب ويتولى مهام الإدارة التنموية، ويسهم في نشر الوعي الوطني والقومي بوصفه مناضلاً ضد الهيمنة الأجنبية، البريطانية في حالة الخليج، دون هوادة وبإيمان واضح بما يتعين عليه القيام به.

«المطبعة العمومية»

كان الفرج من أوائل أبناء المنطقة الذين تعلموا تعليماً حديثاً نسبياً، حين دخل المدرسة المباركية في الكويت عند إنشائها عام 1911، وهي المدرسة الحديثة الأولى في الكويت، وربما في الجزيرة العربية والخليج، ثم جاءت رحلاته المبكرة للهند على عادة أهل الخليج آنذاك في التواصل التجاري مع الهند لتفتح له أفقاً أوسع على المستوى الثقافي؛ فتعلم الإنجليزية وقيل الأوردية أيضاً، واكتشف إلى جانب ذلك أهمية المطبعة في بعث الحياة الثقافية، فأسس هناك مطبعة سماها «المطبعة العمومية» نشر من خلالها كتباً تُنشر لأول مرة، وحين عاد أسس مطبعة بالاسم نفسه في مدينة الدمام السعودية أسهمت في نهضة الصحافة الأهلية هناك؛ وهي الصحافة التي قامت بمهمة ضخمة في التوعية والتنمية.

هذه المعلومات وغيرها متاحة لمن يريد معرفتها في بعض ما أُلّف حول الفرج، كما في مواقع كثيرة على الإنترنت، ولا أريد هنا أن أعيد نشرها. ما أود التوقف عنده هو طبيعة الدور الذي قام به، وكيف أدى ذلك الدور إلى صياغة مفهوم مبكر للمثقف في منطقة الخليج العربي، بل في الجزيرة العربية كلها، لكن قبل الدخول في صلب تلك الملاحظات، أشير إلى أن استيعاب ما قام به خالد الفرج في مناطق الخليج المختلفة التي عاش وعمل فيها (البحرين والسعودية بصفة خاصة) وقع ضمن سياق نهضوي عام، عاصر فيه الفرج رصفاء عرباً في مصر والشام والعراق وغيرها. فما كان مثقفو الخليج آنذاك يفعلونه إلى جانب الفرج (مثل إبراهيم العريض في البحرين، ومحمد حسن عواد في الحجاز، وغيرهما في الجهات المختلفة من الجزيرة العربية)، كان يفعل ما يشبهه مثقفو مصر والشام وغيرهما من أجزاء الوطن العربي؛ فسعيه لتسهيل تعلم اللغة العربية ومحو الأمية، مثلاً، يذكّر بجهود طه حسين في جعل التعليم مجانياً في مصر في الفترة نفسها تقريباً، لكن من المهم تذكر التفاوت الكبير بين مناطق عربية سبقت في التأسيس الحضاري مثل مصر والشام لقربهما من أوروبا، ومنطقة الخليج التي لم يأتها التفاعل الحضاري مع مراكز العلوم والمعارف المعاصرة إلا في مرحلة تالية نسبياً.

سياق تاريخي

البعد التاريخي مهم لمعرفة طبيعة المهام التي اضطلع بها مثقفو المنطقة، ومنهم الفرج؛ ذلك أننا إزاء كيانات سياسية واجتماعية واقتصادية كانت لا تزال في طور التشكل، وطاقات بشرية توازيها في ذلك الطور. الكيانات تتأسس، والمثقفون يتأسسون أو يتنامون في عملية متوازية إلى حد بعيد. فالمثقف في ضوء ذلك التزامن يرى نفسه مسؤولاً عن أشياء كثيرة تحتاجها عملية التأسيس والنمو تلك: إنشاء المجلات والصحف، وتأسيس المطابع، ونشر المقالات التوعوية، والمطالبة بنشر التعليم وتحديثه وتسهيل الوصول إليه، كل ذلك وغيره مما رأت النخب المثقفة آنذاك أن عليها الاضطلاع به.

إن طبيعة المهام التي كانت توكل إلى مثقفي المرحلة مؤشر بحد ذاته إلى طبيعة المرحلة نفسها؛ فالمتوقع من المتعلم أو المثقف أن يكون قادراً على إدارة ما يوكل إليه، وإن كان بعيداً عما اشتهر به من نشاط يعد تخصصاً أو قريباً من التخصص. ومما يدل على ذلك، أن الفرج الذي عُرف بالشعر والتأليف في المقام الأول كلفه الملك عبد العزيز حين جاء؛ أي الفرج، من البحرين إلى السعودية، بتأسيس وإدارة بلدية القطيف؛ فنشط في ذلك، فشق الطرق واستحدث التنظيمات، ليُكلف بعد ذلك بإدارة بلدية الدمام، ثم كلفه الملك بالإشراف على الإذاعة السعودية عند تأسيسها.

هذه المهام وغيرها لم تُعِق الفرج عن تأسيس المطبعة في الدمام، ولا عن تأليف المطولات أو الملاحم الشعرية التي كان موضوعها تاريخ الدولة السعودية ومنجزات العهد السعودي. وإذا كان العمل البلدي مما يُحمد عليه أبناء المنطقة، فإن التقرب من الملوك مما يثير عادة شبهة التملق والسعي للمصلحة الشخصية؛ لذلك حرص الفرج على الإعلان أنه لم ينظم قصائده للمديح، وإنما للتأريخ وإحقاق الحق؛ أي إنه كان قلقاً من سوء فهم الناس وتأثر سمعته بوصفه مثقفاً نزيهاً؛ لذا كتب يدافع عن نفسه:

«والذي يقرأ هذه القصيدة يضعها - دون شك - في أبواب المديح، ولا يلام على ذلك؛ لأن الناس اعتادوا أن يقرأوا آيات الثناء البراق في من يستحق ومن لا يستحق، ولا يهتمون بعد ذلك بحقيقة ما قيل إن صدقاً وإن كذباً... وليس في هذه القصيدة من المديح - المصطلح عليه - إلا مطلعها، وإلا فكل ما فيها حقائق لا غبار عليها يعرفها كل من درس تاريخ نجد وكان من المنصفين».

هذا الوعي يستدعي التساؤل عن هوية المثقف وطبيعة دوره في تلك المرحلة من تاريخ المنطقة ودولها الناشئة. نحتاج إلى التساؤل، بتعبير آخر، عن هوية المثقف: مَن هو وبأي دور اضطلع. وفي ظني أن من القراء من ستقفز إلى ذهنه أسماء مفكرين تناولوا هذه المسألة واشتهروا بتعريفاتهم أو تحديداتهم للمثقف وطبيعة دوره. ولعل أشهر تلك الأسماء المفكر الإيطالي غرامتشي الذي عرف بمفهوم المثقف العضوي، لكن ذلك المفهوم الذي تأسس على الظروف التاريخية والرؤية الماركسية وعلاقات المثقف الطبقية والحزبية، لا يعيننا كثيراً على فهم ما قام به مثقف مثل الفرج لم تحكمه علاقات طبقية ولا حزبية بالصورة التي استنبط منها غرامتشي تصوره وتحليله.

جانب نضالي

تصور آخر نجده لدى المؤرخ المغربي عبد الله العروي في تحليله لشخصية المثقف بمصر في النصف الأول من القرن العشرين، حين تحدث عن الداعية الديني ورجل السياسة وداعية التقنية، ووجد أنهم يختصرون هوية المثقف أو أنواع المثقفين في تلك المرحلة من تاريخ مصر والنهضة العربية فيها إبان تلك المرحلة. وهذا التصور وإن كان أقرب من تصور غرامتشي إلى هوية مثقف عربي خليجي، فإنه أيضاً لا ينطبق، في أي نوع من أنواعه، على الفرج ولا على كثير من مثقفي المنطقة آنذاك. لم يكن الفرج داعية دين، مثل محمد عبده، ولا رجل سياسة، مثل محمد حسين هيكل، ولا كان داعية تقنية يرى أن النهضة العربية تكون بتبني الصناعة الغربية، كما فعل سلامة موسى، حسب العروي. كان الفرج مناضلاً ضد الجهل والهيمنة الأجنبية استجابة للظروف التي عاشها وعاشتها البلاد التي عرفها وأسهم في تنميتها وتوعية أهلها. كان متديناً، لكنه لم يكن داعية، وكان قريباً من السلطة، لكنه لم يتحول إلى رجل سياسة.

الجانب النضالي التوعوي من شخصيته، وهو الجانب الواضح، يتكفل به تصور طرحه المفكر والمناضل المارتينيكي فرانتز فانون، الذي حارب مع الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي ووضع نظريات في المقاومة أسست لاحقاً لما يُعرف بنظرية ما بعد الاستعمار، أو ما بعد الكولونيالية. في كتابه «المعذبون في الأرض»، المنشور في ستينات القرن الماضي، يرى فانون أن من مهام المثقف توعية مجتمعه بمساوئ الاستعمار والحاجة إلى الاعتماد على الذات... يقول: «بعد أن يكون [أي المثقف] قد جرب إدماج نفسه في الشعب ومع الشعب، سيقوم على النقيض من ذلك بهز الشعب. بدلاً من أن يبدي إعجابه بحالة السبات التي يعيشها الشعب، يحول نفسه إلى موقظ للشعب... ». هذا التعريف مفيد في تحديد جانب مهم مما قام به الفرج، لكنه لا يستوعب كل المهام التي اضطلع بها.

يعني هذا كله أننا بحاجة إلى قراءة أكثر استيعاباً لهوية المثقف في منطقة الجزيرة العربية والخليج وطبيعة المهام التي تحملها، وهو ما يعني تحليلاً أكثر شمولية لأصناف المثقفين والسياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية التي تشكلوا وعملوا ضمنها. القراءة الجاهزة ضمن المفاهيم الشائعة، على أهميتها، تظل إسقاطية، فإما أن تخطئ أو تكون فضفاضة؛ لأنها لا تلم بكثير من التفاصيل والسمات الخاصة بالبيئة الثقافية واشتباكاتها الاجتماعية والسياسية.


مقالات ذات صلة

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

ثقافة وفنون جانب من الحضور في المؤتمر (بيت الفلسفة)

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يؤكد مراعاة خصوصية المشكلات الفلسفية في منطقة الخليج

أكد البيان الختامي لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة في دورته الرابعة، الذي اختُتم اليوم، إقامة مشروع بحثي فلسفي يدرس نتاج الفلاسفة العرب وأفكارهم وحواراتهم.

ميرزا الخويلدي (الفجيرة)
خاص فيروز في الإذاعة اللبنانية عام 1952 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص «حزب الفيروزيين»... هكذا شرعت بيروت ودمشق أبوابها لصوت فيروز

في الحلقة الثالثة والأخيرة، نلقي الضوء على نشوء «حزب الفيروزيين» في لبنان وسوريا، وكيف تحول صوت فيروز إلى ظاهرة فنية غير مسبوقة وعشق يصل إلى حد الهوَس أحياناً.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز تتحدّث إلى إنعام الصغير في محطة الشرق الأدنى نهاية 1951 (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز... من فتاةٍ خجولة وابنة عامل مطبعة إلى نجمة الإذاعة اللبنانية

فيما يأتي الحلقة الثانية من أضوائنا على المرحلة الأولى من صعود فيروز الفني، لمناسبة الاحتفال بعامها التسعين.

محمود الزيباوي (بيروت)
خاص فيروز وسط عاصي الرحباني (يمين) وحليم الرومي (أرشيف محمود الزيباوي)

خاص فيروز في التسعين... يوم ميلاد لا تذكر تاريخه

عشية عيدها الـ90 تلقي «الشرق الأوسط» بعض الأضواء غير المعروفة على تلك الصبية الخجولة والمجهولة التي كانت تدعى نهاد وديع حداد قبل أن يعرفها الناس باسم فيروز.

محمود الزيباوي (بيروت)
يوميات الشرق تمتدّ احتفاليّة منصة «أنغامي» الموسيقية بعيد ميلاد فيروز أسبوعاً كاملاً (أنغامي)

عمرٌ من ذهب... «أنغامي» تحتفي بفيروز

فيروز مكرّمةً على منصة «أنغامي» من خلال الإضاءة على محطات أساسية في مسيرتها الفنية، وأغنيات نادرة التداول.

كريستين حبيب (بيروت)

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.