«زر اللايك»... مفصل في تاريخ الثقافة

يُنقر عليه أكثر من 160 مليار مرة في اليوم الواحد مؤطِّراً شكل تفاعلنا مع العالم

«زر اللايك»... مفصل في تاريخ الثقافة
TT

«زر اللايك»... مفصل في تاريخ الثقافة

«زر اللايك»... مفصل في تاريخ الثقافة

في كتابهما الجديد «زر اللايك الذي غيّر العالم»، الصادر عن مطبعة «مجلة هارفارد لمراجعات الأعمال»، يتتبع الخبيران من منطقة التقاطع بين إدارة الأعمال وتكنولوجيات الإنترنت، مارتن ريفز، وبوب جودسون، تلك الرحلة المذهلة لزر «اللايك»، من لحظة ميلاده في أروقة شركة «Yelp» عام 2005 إلى تحوله أحد أبرز مكونات الثقافة الرقمية الحديثة بعد أن تبناه «فيسبوك» عام 2009، وأصبحت لازمة لا بدّ منها لكل تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي.

يروي الكتاب أنه في أوائل عام 2000، ابتكرت شركة ناشئة تدعى «Yelp» ميزة جديدة لمستعملي شبكة الويب العالمية الناشئة، إذ يمكن للمستخدمين العاديين نشر تقييمات للمطاعم يتسنى للعموم قراءتها. ولكن كانت ثمة معضلة، إذ إنّ قلة قليلة من الناس كانوا مهتمين بإنشاء محتوى على الإنترنت، واحتاج مهندسو «Yelp» إلى إعطائهم سبباً لذلك.

قصة كيفية تحفيزهم الناس العاديين لإنشاء محتوى كهذا دون مقابل ماديّ كانت نقطة الانطلاق للتفكير بـ«زر اللايك». إذ اعتقدت «Yelp» أن الأشخاص قد يتحمسون إلى نشر مراجعاتهم وتقييماتهم إن هم تلقوا مجاملات من الآخرين.

ما بدأ رسمة بسيطة لإبهام مرفوع تعبيراً عن الاستحسان - كما في الثقافة الغربيّة منذ عصر الإمبراطورية الرومانيّة - أصبح رمزاً كونيّاً يُنقر عليه أكثر من 160 مليار مرة في اليوم الواحد، مؤطِّراً شكل تفاعلنا مع العالم، ومع بعضنا البعض، عبر أزقة الفضاء السيبيريّ.

يقدم الكتاب، من خلال مزيج من السرد التاريخي والتحليل النفسي والاجتماعي، نظرة شاملة على ظاهرة هذا الزر الذي رغم بساطته الظاهرية، يعكس تحوّلاً جذرياً في طريقة تفاعل البشر مع المعلومات والمحتوى الرقمي. ويقول المؤلفان إنّه في الأيام الأولى للإنترنت كان من المفترض أن واحداً في المائة فقط من البشر سيكتبون ويخلقون محتوى يقرأه بقيتهم. لكن نجاحات «زر اللايك» قزّمت هذه النسبة المئوية. وغيّرت مفهوم المشاركة والتفاعل، جاعلة من كل مستخدم صانعاً ومعبراً، حتى دون أن يكتب حرفاً.

ويشير الكتاب إلى أن الدافع الأول لابتكار زر «اللايك» هو تحفيز المستخدمين على التفاعل والمساهمة. غير أن تلك الحلقة المفرغة التي خلقتها تطبيقات التواصل الاجتماعي - تقديم محتوى مقابل إعجابات أقرب للمجاملات - تحولت لاحقاً إلى نظام حوافز يشبه حلقة المكافأة العصبية، حيث يدمن الدماغ الحصول على إفراز الدوبامين الذي يعزز الشعور بالرضا والانتماء من خلال الإعجابات بالطريقة نفسها التي يدمن فيها السكر أو النيكوتين. هذه الحلقة الكيميائية التي تجعل من التفاعل الرقمي مصدراً للإشباع اللحظي تسهم في خلق أنماط إدمانية جديدة، خاصة لدى المستخدمين الأصغر سناً.

من هذا المنظور، يصبح «زر اللايك» أداةً للسيطرة أكثر من كونه أداة للتعبير. وأي تحليل يحاول الفصل بين الابتكار التقني ونموذج الأعمال الذي وُلد معه يبدو، في أحسن الأحوال، غافلاً، وفي أسوئها، متواطئاً مع صانعي التكنولوجيا.

ويشير المؤلفان إلى أن هذا الزر أصبح بعد العقدين الأخيرين بمثابة عملة الاقتصاد الرقمي، فهو يُستخدم لقياس القيمة السوقية للمحتوى، ولتوجيه الإعلانات، وحتى للتأثير على قرارات المستثمرين بشأن تقييمات الأسهم، ومع مرور الوقت، بات أداة مثلى لجمع البيانات، وتعزيز الاستقطاب، وبناء نماذج أعمال تستغل مستخدمي تطبيقات التواصل الاجتماعي دون علمهم.

في قسمه الأخير، يتناول الكتاب مستقبل هذه الصيغة من التفاعل التي يمثلها «زر اللايك»، فيتساءل المؤلفان عما إذا كنا سنعبر عن الإعجاب مستقبلاً بمجرد فكرة، أو من خلال الذكاء الاصطناعي، مما قد يشرّع الباب أمام أشكال جديدة من التفاعل، وربما أيضاً منهجيات أكثر تعقيداً للسيطرة. ورغم النبرة المتفائلة التي يختتمان بها، فإن الواقع الرقمي يبدو أكثر تعقيداً وتشظياً مما يصورانه.

لعل أبرز نقاط قوة الكتاب تتمثل بسرده السلس المدعوم بالأمثلة الحيّة والتجارب الواقعية من داخل شركات التكنولوجيا الناشئة، لا سيّما وأن بوب جودسون، شارك شخصياً في تطوير فكرة الزر ما يمنح النصّ مصداقية خاصّة، وهو رئيس ومؤسس «Quid»، وهي شركة مقرها وادي السيليكون تستخدم نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها لفهم التفاعلات مع العملاء، وكان أول موظف في «Yelp»، ولعب دوراً في نشأة فكرة زرٍ للتعبير عن الإعجاب، وتابع عن كثب صعود صناعة وسائل التواصل الاجتماعي، أما ريفز فهو العضو المنتدب والشريك الأول في مكتب الاستشارات «BCG» في سان فرانسيسكو، ورئيس معهد هندرسون أداة «BCG» لاستكشاف الأفكار من خارج عالم الأعمال التي قد تكون لها آثار على إدارة استراتيجية الشركات.

غير أن هذه الحميمية في السرد تأتي على حساب النقد الجذري للظاهرة. فالمؤلفان، رغم إقرارهما بوجود «عواقب غير مقصودة» لهيمنة «زر اللايك»، يتعاملان معها بنبرة متفائلة قد يُنظر إليها من قبل خبراء آخرين بأنها تبسيطية أو حتى ساذجة، فقضايا مثل الإدمان الرقمي، وانهيار الخصوصية، والقلق الاجتماعي عند المراهقين، تغطى في فقرات خاطفة تمس بسطح المعضلة، ولا تصل إلى عمق الأزمة.

ويبدو أن ريفز وجودسون يرفضان تحميل الزر نفسه أي مسؤولية، متسائلين ببراءة: «لماذا يريد أحد معاقبة زر صغير وودود يُحبه الملايين؟». هذا التساؤل يُغفل حقيقة أن هذا «الزر الصغير» هو بوابة تقنيات تُعيد تشكيل وعي الأفراد وسلوكهم السياسي والاجتماعي. ولذلك فإن القارئ لن يجد في الكتاب تفكيكاً فلسفياً أو نقداً سياسياً لتقنيات الإعجاب يشفي الغليل، حيث يبدو، في جوهره، احتفاء بالاختراع العبقري، أكثر منه مقاربة للأسئلة الأخلاقية العميقة التي أتت في ركابه.

لكن برغم هذه الانتقادات، يظل الكتاب قراءة مهمة ومصدراً قيماً لفهم الديناميكيات المعقدة للتفاعل الرقمي، يحفز القارئ على التفكير النقدي حول كيفية استخدامنا للتكنولوجيا وتأثيرها على سلوكنا ومجتمعاتنا في هذه اللحظة التي نعيشها، لحظة تُهيمن فيها خوارزميات التفاعل، وتُعاد صياغة التجربة البشرية على يد رموز بسيطة، وإعجابات لا تُعد ولا تُحصى.

Like: The Button That Changed the World Book by Bob Goodson and Martin Reeves, Harvard Business Review Press, 2025


مقالات ذات صلة

معاقبة إمام أوغلو بالحبس سنة و8 أشهر لإهانة المدعي العام لإسطنبول

شؤون إقليمية رئيس بلدية إسطنبول المحتجز أكرم إمام أوغلو (رويترز)

معاقبة إمام أوغلو بالحبس سنة و8 أشهر لإهانة المدعي العام لإسطنبول

عاقبت محكمة تركية رئيس بلدية إسطنبول المحتجز أكرم إمام أوغلو بالحبس سنة و8 أشهر لاتهامه بإهانة موظف عام وتهديده وبرأته من تهمة استهداف مشاركين بمكافحة الإرهاب.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
تكنولوجيا أصبح التنبؤ بالسمات الشخصية للأفراد واكتشافها باستخدام الذكاء الاصطناعي مجالاً بحثياً مهماً (أ.ف.ب)

كيف يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدتك في معرفة نوع شخصيتك؟

في السنوات الأخيرة، أصبح التنبؤ بالسمات الشخصية للأفراد واكتشافها باستخدام الذكاء الاصطناعي مجالاً بحثياً مهماً في سوق التقنية الذكية.

أحمد سمير يوسف (القاهرة)
تكنولوجيا أصبح الناس أكثر ذكاءً في استخدام الذكاء الاصطناعي وقد تحتوي هذه التكنولوجيا على قدر كبير من المخاطر (رويترز)

كيف تحمي نفسك من الذكاء الاصطناعي؟

قد تحتوي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي على قدر كبير من المخاطر، فمثلاً تتيح أدوات الذكاء الاصطناعي للمجرمين إنشاء رسائل واقعية.

إبراهيم محمود («الشرق الأوسط»)
الخليج مركز «اعتدال» يؤكد رغبة السعودية في محاصرة الإرهاب على كل الجبهات (اعتدال)

خلال الربع الثاني من 2025... «اعتدال» و«تلغرام» يكافحان الإرهاب المتطرف بإزالة 30 مليون محتوى

أعلن المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال) أن الجهود المشتركة بين المركز ومنصة «تلغرام»، أسفرت عن إزالة أكثر من 30.8 مليون مادة متطرفة.

غازي الحارثي (الرياض)
يوميات الشرق شعار «تيك توك» يظهر على شاشة هاتف ذكي (رويترز)

أطلق النار عليها... باكستاني يقتل ابنته لرفضها حذف حسابها على «تيك توك»

كشفت الشرطة الباكستانية أن فتاة تبلغ من العمر 16 عاماً قُتلت برصاص والدها بعد رفضها حذف حسابها على منصة «تيك توك».

«الشرق الأوسط» (إسلام آباد)

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
TT

هل بات الكاتب مجرد «مفبرك بيانات»؟

الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس
الذكاء الاصطناعي يقلب المقاييس

كتب بعشرات الآلاف، باتت في متناول القراء، هي كلياً من إنتاج الذكاء الاصطناعي. عدد كبير آخر هجين، كتب بتعاون بشري وآلي، وما تبقى لا يزال بشرياً. مؤلفو الصنف الأخير يحاربون لإثبات أن مؤلفاتهم، هي من بنات أفكارهم وحدهم، ولا علاقة للآلة فيها، ويحاولون الدفاع عن حقوقهم وسط غابة من الفوضى العارمة، التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، منذ عرفت الكتابة. وهو ما يثير في أميركا الكثير من الأخذ والرد، ويطرح أسئلة حول مستقبل الكاتب والكتابة بالشكل الذي نعرفه اليوم.

كتب الذكاء الاصطناعي مطروحة للقراء تحت أسماء مستعارة، وهي في الغالب رديئة. لكن القارئ قد لا يميز بين الغث والسمين، ثم إنه لا قانون يمنع أي أحد من أن يولّد كتاباً آلياً، ويكتب عليه الاسم الذي يختار وينشره. فعالم الكتب مليء بالأسماء المستعارة التي لم يوجد قانون يمنعها أو يجرّمها. والسرعة الهائلة التي يتم فيها توليد الكتب اصطناعياً، جعلت منصّات بيع الكتب في حالة ازدحام، والغلبة للعنوان الأكثر جذباً، والمؤلّف الأفضل ترويجاً. الأظرف أن ثمة كتباً كثيرة، تباع على أنها من صناعة آلية خالصة، ومع ذلك تجد رواجاً بين القراء، الذين لا يرون غضاضة في قراءتها. ولو سألت «غوغل» عن هذا الصنف من الكتب لاقترح عليك ما لا يحصى من العناوين المعروضة للبيع، وبمقدورك أن تكتشف أسماءها بكبسة زر.

غلاف كتاب من تأليف الذكاء الاصطاعي

كل 6 ساعات كتاب

الأسوأ هو استغلال كتب المؤلفين، والعمل على إعادة صياغة أفكارها بأسلوب مختلف، عبر الذكاء الاصطناعي، في عملية انتحال آلي، تصعّب على صاحب الكتاب ملاحقة اللصوص أو إثبات جريمتهم.

يباهي تيم بوشيه، الأميركي الذي لا نعرف إن كان يستحق صفة روائي أم لا، أنه ألف سبعة وتسعين كتاباً خلال تسعة أشهر، تحوي قصصاً كتبها متسلحاً بخياله (حسب قوله) وأدوات الذكاء الاصطناعي. وهي تجمع بين الخيال العلمي وعالم الديستوبيا. ويشرح في مقالة نشرها في «نيوزويك» تفاصيل تجربته الشخصية، قائلاً: «عادةً، ما يستغرق كل كتاب مني ما بين 6 إلى 8 ساعات تقريباً لإنشائه ونشره. في بعض الحالات، تمكنت من إنتاج مجلد كامل في ثلاث ساعات فقط، شاملةً كل شيء». كل ذلك يعيده بوشية إلى مهارته في الجمع بين التكنولوجيا وأفكاره الشخصية، التي يباهي بأنها جلبت له ربحاً بلغ آلاف الدولارات. هذا تحول كبير، كانت الاستعانة بالتأليف الآلي غايتها الربح، وتدريجياً قد يصبح الهدف تحقيق الشهرة والحصول على جوائز.

قراء يقبلون على الرداءة

هذه الكتب القصصية الصغيرة، شبه المتسلسلة ويجمعها عالم واحد، تمكن قراءتها منفصلة أو كأنها مترابطة، تغري القراء بالفعل. فقد اشترى كثيرون أكثر من اثني عشر عنواناً، وفي بعض الحالات ثمة من اشترى أكثر من ثلاثين عنواناً. وهو ما يصيب أي روائي مجتهد يكدّ ليكتب مقطعاً أو يرسم شخصية روائية، بكثير من الإحباط، حين يصبح جمهور القراء متقبلاً، لا بل ومقبلاً على كتب يفاخر صاحبها بأنه لم يفعل شيئاً تقريباً، وأنه يتفوق على الكتّاب الحقيقيين بقدرته على إدارة هذه الأداة الجديدة.

في خطوة أثارت الجدل في عالم النشر الأدبي الأميركي، تحدثت تقارير صحافية عن عرض تقدّمت به دار النشر الأميركية الكبرى «هاربر كولينز» لبعض مؤلفيها، يتضمّن السماح لإحدى شركات الذكاء الاصطناعي – مجهولة الاسم – باستخدام أعمالهم المنشورة لتغذية نماذجها اللغوية التوليدية، مقابل 2500 دولار لكل كتاب، على أن يستخدم لمدة ثلاث سنوات.

مؤلفون أمام الأمر الواقع

العرض، الذي أتى بالتنسيق مع شركة تكنولوجيا ناشئة، الغاية منه تدريب نماذج ذكاء اصطناعي قادرة على توليد محتوى بأنماط وأساليب متنوعة. وقد أكدت «هاربر كولينز» إبرامها بالفعل عقداً يسمح بالاستخدام «المحدود» لمحتوى بعض الكتب، مع تأكيدها أنّ الاتفاق «ينظم بشكل واضح استخدام هذه الأعمال مع احترام حقوق النشر». وهذه الجملة الأخيرة، بات لها على ما يبدو معنى غير الذي كنا نعرفه.

لكنّ مؤلفين كثر عبّروا عن رفضهم القاطع، وفي مقدّمتهم الكاتب الأميركي دانييل كيبلسميث الذي كتب عبر منصة «بلوسكاي»: «ربما أوافق فقط مقابل مليار دولار، وهو مبلغ يتيح لي التوقف عن العمل نهائياً، لأن هذا هو الهدف الحقيقي من وراء هذه التكنولوجيا». وهو ما يعبر عن الإحساس بالخطر الذي يشعر به كتّاب في مواجهة هذه الهجمة.

دار نشر «هاربر كولينز» ليست الأولى التي تقترح على كتّابها هذا النوع من الاتفاقات، فقد سبقتها دار «ويلي» المتخصصة بالكتب العلمية، حين أتاحت لشركة تكنولوجية استخدام محتوى أكاديمي ومهني من كتبها كنماذج تدريبية، مقابل 23 مليون دولار، بحسب ما كشف عنه.

غلاف كتاب آخر من تأليف الذكاء الاصطناعي

هل صار الكاتب «بائع بيانات»؟

وسواء حصلت الشركات التكنولوجية على موافقة الكتاب ودور النشر، أم لم تحصل، فإنها في النهاية ستجد السبيل ولن تعدم الحيلة للالتفاف على القوانين، للحصول على تلك الكميات الهائلة من النصوص لتدرب نماذج الذكاء الاصطناعي التي تعدّها، وهو ما يجعل الكتّاب أمام خيارين كلاهما مرّ: إما بيع الجهد الذي بذلوه بأبخس الأثمان، أو المكابرة والرفض، وترك هذه الشركات تنهش في نصوصهم من دون إذن أو مقابل.

لكن الحقيقة أيضاً أن الشركات التي تعمل على تطوير الذكاء الاصطناعي استنفدت أو تكاد كل النصوص المتاحة لاستخدامها مجاناً مع ضمان عدم الملاحقة، وباتت تجد نفسها مضطرة للجوء إلى مصادر جديدة مدفوعة الثمن. في هذه الحالة، هل تحوّل الكاتب إلى مجرّد «بائع بيانات»؟

ثمة من يعدّ قيام بعض الشركات بمحاولة إرضاء المؤلفين، تقدماً ملحوظاً يفسح المجال أمام أصحاب المؤلفات البشرية، من حيث الإفادة المادية، ولو كانت غير مجزية. وليست كل الكتب سواء، ولا هي بمستوى واحد، كي تعامل بعدّها مجرد كلمات صالحة للالتهام الآلي.

الصحافة مستهدفة أيضاً

الصحافة أيضاً مستهدفة، بعد أن نضبت النصوص أو تكاد، ويبدو أن نصوصها تستغل أيضاً مما دفع صحيفة «نيويورك تايمز» إلى رفع دعوى ضد شركتي «أوبن إيه آي» و«مايكروسوفت» بتهمة انتهاك حقوق النشر، بينما اتجهت مؤسسات إعلامية أخرى نحو توقيع اتفاقات ترخيص مع شركات التكنولوجيا، شبيهة بتلك التي تعرض على دور النشر، كي تستفيد من تخزين موادها بمقابل، بدل أن تسرق.

سواء حصلت الشركات التكنولوجية على موافقة الكاتب ودور النشر، أم لم تحصل، فإنها في النهاية لن تعدم الحيلة للالتفاف على القوانين

حيرة أصحاب المكتبات

والحيرة كبيرة، عند بعض أصحاب المكتبات الذين بدأت تصلهم كتب غير مصرح عليها بأنها مكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي، وثمة من قرر ألا يقبلها حين يكتشف أمرها، ويعيدها من حيث أتت، لكن هؤلاء أنفسهم يتساءلون كم من الوقت بمقدورهم أن يقاوموا الموجة، فهذه التقنيات تزداد مهارة، ثم إذا تحول أحد هذه الكتب إلى «بست سيلر»، وجاء الطلب عليه جارفاً، هل بنقدورهم الاستمرار في رفض بيعه؟ وهل الرفض في هذه الحالة يبقى ممكناً؟

كتّاب أميركيون يرفعون الصوت بعد أن خذلتهم المحاكم

وجّه أكثر من 70 كاتباً أميركياً بارزاً، بينهم دينيس ليهان وغريغوري ماغواير ولورين غروف، رسالة مفتوحة نُشرت على منصة «ليت هب»، دعوا فيها دور النشر الكبرى إلى التوقف عن نشر أي كتاب من تأليف الذكاء الاصطناعي، لأن «الإبداع الإنساني لا يُستبدل». وطالب الكتاب في بيانهم، بمنع استخدام الذكاء الاصطناعي وتطبيق القوانين التي تمنع النشر دون إذن، أو تعويض، واستبدال الآلات بالبشر في دور النشر كما في تسجيل الكتب الصوتية. ووجهت الرسالة والمطالب إلى دور نشر كبيرة، بدل اللجوء إلى المحاكم، نظراً للخذلان من الأحكام التي تصدر غالباً لصالح الشركات التكنولوجية. وهو أمر يصيب الكتاب والفنانين بإحباط كبير، وبإحساس بالغبن في مواجهة قوة تزداد نفوذاً.

«أتلانتيك» تتساءل بمرارة

ومؤخراً نشرت «أتلانتيك» مقالة عنوانها «القضاة لا يعرفون ماذا تعني قرصنة الذكاء الاصطناعي للكتب؟» وذلك بعد صدور حكمين جديدين في قضيتين رفعتا ضد شركات الذكاء الاصطناعي، إحداهما على «أنثروبيك» والثانية على «ميتا». وعدّ القاضيان في حكمهما أن استخدام الشركات للكتب كان «عادلاً»، لأنه جاء بطريقة «تحويلية» أدت إلى منتج مختلف تماماً عن الأصل. وهو بذلك (أي المنتج الجديد) لا ينافس الكتب التي أخذ عنها، ولا يشكل أذى لها، وشبه القاضيان ذلك باستخدام الاستشهادات في الأبحاث. وهو ما حدا بمجلة «أتلانتيك» لأن تعدّ القضاة غير مدركين بعد لما هو الذكاء الاصطناعي، فكيف لهم أن يصدروا أحكاماً بخصوصه.