«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين
TT
20

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

«أرسطو في ثوبه العربي»... تجليات فلسفية في عصر العباسيين

يتناول كتاب «أرسطو في ثوبه العربي» الصادر عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة للباحث د. عمار العساف تأثر الثقافة العربية في عصر العباسيين، نتيجة حركة الترجمة الهائلة، بفكر الفيلسوف اليوناني المعلم أرسطو، لا سيما فيما يتعلق بأفكاره في المنطق والجدل والمحاججة، فضلاً عن تصوراته لدور الإنسان والحيوان على كوكب الأرض.

ويشير المؤلف إلى أن شخصية أرسطو لم تكن مجهولة تماماً قبل العصر العباسي، بل كانت حاضرة في الثقافة العربية وإن بصورة مختلفة عما هي عليه في الواقع، فقد رُسمت له صورة أسطورية تبالغ في قدراته السياسية باعتباره وزير الإسكندر المقدوني الذي يجمع بين الحكمة والدهاء.

وفي بداية العصر العباسي، تُرجمت مؤلفات أرسطو الأخرى وبذلك نضجت صورته حكيماً وفيلسوفاً ومنطقياً ليجسد شخصية العالم الموسوعي الذي تخطى حدود التخصص، فكان له من كل علم نصيب وتعاظمت شهرته شيئاً فشيئاً حتى أضحى شخصية مرموقة عند العرب.

ولم يلق تعاظم تأثيره العربي مقاومة في البداية، لأن نتاجه لم يوظف في القضايا ذات الصبغة الفقهية، بيد أن سياسة الخليفة المأمون التي اتبعها في الحكم أثرت في موقف العرب من أرسطو، فقد تم إقحام المنطق في البحوث والقضايا الفقهية فأصبح الفيلسوف الإغريقي بمثابة المرجع الأول في الجدل والحوار حتى في المسائل شبه الدينية التي اتسم البحث فيها بالطابع العقلاني والأسس المنطقية.

في عهد المأمون تحديداً، حاول البعض استنتاج الأحكام الفقهية انطلاقاً من أسس فلسفية ومرجعيات منطقية وكان ذلك مصدر قلق للفقهاء ومنهم الإمام الشافعي الذي كان أول من عبر عن قلقه من تعاظم دور أرسطو في العالم العربي، فأراد أن ينأى بالفقه عن نتاج المنطق، وقام بوضع الأساس العلمي والديني لعلم أصول الفقه.

بذلك كان الشافعي أول من وضع حداً لتدخل المنطق الأرسطي في القضايا التي كان يخوضها المعتزلة الذين استلهموا تراث اليونان، وراحوا يتناقشون في قضاياه، ويمزجون بينها وبين شواغل الفقه الإسلامي.

ويكشف المؤلف كيف كان الجاحظ في كتابه الرائد «البيان والتبيين»، الذي يبرز فيه مزايا البلاغة العربية وتفوقها على غيرها، على دراية كافية بأفكار أرسطو حتى أنه هاجمه شخصياً، واتهمه بعدم البلاغة وعدم الفصاحة قائلاً: «ولليونانيين فلسفة وصناعة ومنطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيّ اللسان، غير موصوف بالبيان، مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه وبخصائصه».

وحسب الجاحظ، فإن أرسطو لم يكن يهتم بالإجادة الفنية في كتاباته كأفلاطون مثلاً، وإنما كان عالماً قبل كل شيء، يهجم على موضوعه هجوماً دون أن يدور حوله بالحوار والمناقشة، ويُعنى بالفكرة قبل أن يُعنى باللفظ الذي يصوغها فيه. ومن هنا لم تكن كتب أرسطو ككتب أفلاطون نموذجاً فنياً للإجادة البلاغية، وإنما هي نموذج خالد للإجادة في البحث العقلي. ولكن هذا لا يعني أن أرسطو، كما يقول المؤلف، لم يكن يعي فنون البلاغة، فهو صاحب فلسفة ومنطق بالأخير، وجل ما يقصده الجاحظ التأكيد على عدم اكتراثه بترصيع الكلام وزخرفته.

واشتد عود أنصار اليونانيين في القرن الرابع الهجري، لا سيما بعد أن استوعبوا نتاج أرسطو فبدأوا بالترويج لمؤلفاته وعقدوا الحلقات الأدبية وتدارسوا الموضوعات الفلسفية والمنطقية والأدبية في تراثه. واستفاد هؤلاء من المنطق الأرسطي في نثرهم الفني ومناظراتهم التي انتعشت في العصر العباسي. واكتسب المتناظر أداة فعالة في إفحام الخصوم، كما استخدم بعض المتناظرين القياس المضمر فكان سلاحاً عظيماً في المناظرات التي مالت إلى التفكير المجرد. وكان من نتائج ذلك أن أصبح «التلوين العقلي» صفة لبلاغة المتناظرين وسمة تميزهم عن غيرهم.

واستلهم بعض مشاهير النثر العربي موضوعات عديدة ومتنوعة من مؤلفات أرسطو، فكتب التوحيدي عن «الصداقة» متأثراً بمفهوم الفيلسوف الإغريقي عنها، كما كتب نوادر عن عالم الحيوان فأكثر من النقل من كتاب أرسطو «الحيوان». ولم يكتف بعضهم بهذا النقل، وإنما استلهم أفكاراً كاملة من أرسطو مثلما فعل مسكويه عندما وضع كتاب «تهذيب الأخلاق»، محاكياً بذلك أرسطو في كتاب «الأخلاق».


مقالات ذات صلة

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

كتب تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

تقهقر القراءة ينبئ باقتراب «كارثة معرفية»

أثارت نتائج مسح دولي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمهارات القراءة والكتابة والحساب وحل المشكلات

ندى حطيط
كتب سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

تشير كلمة «المشربية» إلى بروز خشبي في المنازل القاهرية القديمة، لا سيما في العصر المملوكي، يتيح لمن داخل الغرفة أن يرى من بالخارج في الطرقات دون أن يراه الآخرون

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون «سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

«سيرة الفيض العبثية»... الرواية بوصفها تأريخاً اجتماعياً

في روايته الأحدث «سيرة الفيض العبثية»، الصادرة عن دار «الفرجاني» في القاهرة، يسعى الروائي الليبي صالح السنوسي لتأريخ مرحلة تاريخية ممتدة في سيرة منطقة «الفيض»

عمر شهريار
ثقافة وفنون رواية عن الزنازين السورية

رواية عن الزنازين السورية

في عمله الروائي الجديد «جدران تنزف ضوءاً»، ينقل الكاتب السوري الكردي ماهر حسن القارئ إلى قلب الزنازين السورية، حيث يتحول المكان الضيق إلى عالم متكامل

«الشرق الأوسط» (برلين)
الولايات المتحدة​ غلاف كتاب «كيرلس بيبول» Careless People (أناس مهمِلون) لسارة وين وليامز (أ.ب)

كتاب مثير للجدل لموظفة سابقة في «ميتا» يتصدر المبيعات في أميركا

تصدّر كتاب لموظفة سابقة في شركة «ميتا» يتناول بطريقة سلبية عدداً كبيراً من المسؤولين في المجموعة الأميركية بينهم مارك زوكربيرغ ، المبيعات في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون
TT
20

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

سيرة أرمن القاهرة... عشق الأماكن وبهجة الفنون

تشير كلمة «المشربية» إلى بروز خشبي في المنازل القاهرية القديمة، لا سيما في العصر المملوكي، يتيح لمن داخل الغرفة أن يرى من بالخارج في الطرقات دون أن يراه الآخرون، وكانت تتميز بالمهارة والإبداع في الصنع. تشكل تلك الخلفية التاريخية مفتاحاً لفهم كتاب «إنها مشربية حياتي - وأنا العاشق والمعشوق» الصادر عن دار «الشروق» بالقاهرة للكاتب المصري من أصل أرمني توماس جورجسيان.

ينتمي الكتاب إلى «أدب السيرة الذاتية»، ويتسم بالحميمية في السرد والعفوية في استدعاء حكايات الماضي عبر لغة بسيطة وقريبة من المتلقي، وكأن المؤلف يجلس إلى مقهى شعبي ويقص على المحيطين به خبراً من طرف القاهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. يعد الكتاب بمثابة رصد لفصل من فصول حياة الأرمن بمصر وأدوارهم البارزة والعميقة كأحد صناع التاريخ المصري الحديث في الأماكن والتجمعات التي أضاءوا شموع البهجة فيها، فضلاً عن مكانتهم الرائدة في العديد من المهن، على رأسها التصوير الفوتوغرافي وفن التمثيل.

يستعيد المؤلف ذكرياته بحي شبرا الشهير، الذي كان له طابع «كوزموبوليتاني» من حيث تعدد الأعراق والثقافات والجاليات الأجنبية، فكان يحتوي على «حضانة أرمينية»، وشهد خطواته الأولى من 1935 حتى 1963 على درب التعلم واكتشاف الذات والبشر، ثم جاءت سنوات الابتدائية والإعدادية بمدرسة «كالوسديان» في شارع «الجلاء» بجوار مصنع الثلج الشهير، وهي مدرسة بمبانيها وملاعبها مارست دورها التعليمي والتربوي لدى أجيال متعاقبة منذ عام 1907.

يستعيد المؤلف ذكرياته بحي "شبرا" الشهير بطابعه "كوزموبوليتاني" من حيث تعدد الأعراق والثقافات
يستعيد المؤلف ذكرياته بحي "شبرا" الشهير بطابعه "كوزموبوليتاني" من حيث تعدد الأعراق والثقافات

بين جدران «كالوسديان»، كانت سنوات النشاة والترعرع والانطلاق والخيال المجنح باللغة الأرمينية ولغة الضاد معاً، حيث تشكلت في فترة الستينات والسبعينات هذه الأجواء الأرمينية المصرية المحيطة به، وبدأ معها عشق اللغات وأبجديتها والإبداع الأدبي والفني، وكذلك محاولاته الأولى للخروج من صمته وتأمله ليتحرر من شخصيته الانطوائية.

اشتهر الحي باستديوهات التصوير التي امتلكها الأرمن مثل استديو «فوبيس» لالتقاط صور عائلية، غالباً سنوية، ترسلها والدته إلى الأقارب للسؤال عنهم وطمأنتهم، وكذلك محل «بطانيان» للزراير ومستلزمات الخياطة والتفصيل والتريكو ودكان جده «توماس»، والد والده، لإصلاح الأحذية وبيع الصنادل.

ويتوقف المؤلف عند والده طويلاً، فهو من مواليد 1911 وكان شاهد عيان على «المذبحة الأرمنية» ورحلة الشتات وهو لا يزال في الرابعة من عمره حيث فقد والدته وأخته، ليصبح هذا الأب ضمن من عُرفوا ووُصفوا فيما بعد في الذاكرة الأرمنية بـ«جيل الطفولة»، جيل لم يعش طفولته ولم يعرف أيامها بما فيها من أمان وعناق ولعب وخيال.

كان الوالد واحداً من هؤلاء، حتى أنه عندما كبر ظل في أغلب الأوقات صامتاً لا يتكلم، أو كان قليل الكلام، ولذلك كلما تكررت من ابنه توماس محاولات متعاقبة على مدى سنوات طويلة لمعرفة المزيد عن تلك الأيام السوداء، كان يجيب بالصمت التام، وقد تأتي أيضاً النظرة الثاقبة وغالباً الدموع التي تطل عبر العينين الحزينتين. وفي يوم لن ينساه توماس أبداً، تساءل الأب مستنكراً: «هل تريد مني أن أتذكر ما حاولت أن أنساه على مدار سنوات عمري؟ هل تريد مني أن أسترجع لحظات أنا لا أريد لها أن تأتي أو تعود لا إليّ أنا ولا إليك أنت من جديد؟». وفي يوم آخر نبهه والده لكثرة خوض ابنه في هذا الموضوع وإصراره على بوح أبيه علناً بكل ما في قلبه. قال الابن مازحاً: «أعمل إيه؟ أستعمل حقي أنا وحقك أنت في الكلام!»، فابتسم الوالد للحظة ولم ينطق بحرف.

والأرمني المصري لمن يتابع حياته وحضوره له طلته ولمسته وهمسته وغنوته ورقصته وأكلاته، وبالتأكيد سمعته، وطبعاً وميض الكاميرا الفوتوغرافية، فكم من مصور أرمني التقط صوراً لطفل بنظراته الحالمة أو لطفلة بشقاوة عيونها، إضافة إلى مصوري الرؤساء والملوك والمشاهير أمثال أرشاك وفان ليو وألبان وإنترو وجارو. وكم من أرمني علَّم الأجيال الجديدة الموسيقى أو الرسم أو النحت أو ضبط أوتار البيانو أو أصلح محرك سيارة جاره أو صاغ خاتم خطوبة أو أسورة زواج.

ويتساءل المؤلف: وماذا عن أغاني شارل أزنافور أو موسيقى آرام خاتشادوريان، أو كتابات ويليام سارويان، أو أفلام أتوم إيجويان؟ مشيراً إلى أن الأخير هو المخرج العالمي الكندي والأرمني الأصل الذي ولد بالقاهرة عام 1960، ثم هاجرت أسرته إلى كندا وحين كان طفلاً يلعب في مدرسته وصفه زملاؤه الصغار بـ«المصري» وهو الذي أخرج فيلم «أرارات» الشهير عن مذبحة الأرمن وأفلاماً أخرى تتناول تعدد الأعراق وتقبل الآخر.

يُعدُّ الكتاب بمثابة رصد لفصلٍ من فصول حياة الأرمن بمصر وأدوارهم البارزة والعميقة كأحد صناع التاريخ المصري الحديث في الأماكن والتجمعات

ويتذكر يوسف أفندي، المصري الأرمني الأصل، أحد المبعوثين إلى أوروبا من جانب محمد علي باشا حاكم مصر في بداية القرن التاسع عشر، وقد رجع يوسف أفندي ومعه الفاكهة الجديدة ليزرعها في مصر وتسمى باسمه ويطلق المصريون عليها «اليوسفي» نسبة إليه.

ويتوقف توماس جورجسيان عن والدته، فيشير إلى أن اسمها «روزيت ديكران مرزيان»، الأم وربة البيت ومعلمة أفراد الأسرة وكل شيء في حياتهم، هي الملكة في مملكتها القائمة في حي شبرا، في تلك الشقة في الطابق الثالث من عمارة رقمها 35 شارع الترعة البولاقية، التي شهدت دفء الأسرة وحنان الأم. كانت نموذجاً للمرأة العظيمة، تلك التي لم تتح لها الظروف أن تكمل تعليمها بعد الابتدائية إلا أنها أرادت واستطاعت أن تعلم نفسها بأكثر من لغة، وأن تقرأ بنهم وبرغبة في المعرفة، وأن تعمل كل ما في وسعها لكي تمكن أولادها من أن يتعلموا ويذهبوا إلى الجامعات. كان يراها دائماً تبتسم برضا وفرح شاكرة الرب الكريم لأنها استطاعت أن تحقق من خلال أولادها ما حلمت به، وتمنت أن تحققه في يوم من الأيام لنفسها. كانت «الملكة والشغالة» في خلية الأسرة، تتسوق احتياجات البيت وتدير شؤون 7 أفراد، هي والأب وثلاث بنات وولدين، ثم تطبخ الأكل وتنظف البيت وتغسل وتكوي الملابس وتستمع إلى مسلسل الراديو في الخامسة والربع مساء، وتتابع مذاكرة وواجباتهم المدرسية، وتصنع الحلويات وأنواع المربى، وتمضي الساعات منكبة على ماكينة الخياطة وأيضاً ترحب بقدوم الأقارب وتتعامل مع زياراتهم المفاجئة.