«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

الوزير السابق غازي وزني يكشف عن الكواليس

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟
TT

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

ما من شك في أن الأزمة المالية والاقتصادية التي تعرَّض لها لبنان في السنوات الأخيرة، غير مسبوقة في تاريخ البلاد. لا بل هي حسب البنك الدولي واحدة من أسوأ الأزمات، التي شهدها العالم، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. ومع أن لبنان كان يُفاخر بأنه يفي دائماً بالتزاماته، إلا أنه قرر، إثر هذه المحنة الاستثنائية، وللمرة الأولى في تاريخه، أن يعلّق دفع ديونه، مما أثار جدلاً واسعاً في البلاد، بين مؤيد ومعارض. لكن الواقع فرض نفسه، ودخل لبنان في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وأيضاً وسط أخذ وردّ، وفي سابقة، قدّم لبنان خطّة تعافٍ اقتصادي ومالي شاملة، حملت اسم «خطّة لازارد»، كما وقّع لبنان عقد تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان.

خلال هذه الفترة الحرجة، وقعت على كاهل وزير المالية د. غازي وزني، مهمة وضع خطة لإنقاذ لبنان. عشرون شهراً قضاها وزني في حكومة د. حسّان دياب التي واجهت صعوبات لا تُحسد عليها، ومعارضات بالجملة، طغى فيها السياسي على النظرة العلمية، والأفكار المسبقة على مصلحة البلاد والعباد.

وبعد انقضاء أكثر من ثلاث سنوات على استقالة حكومة د. حسان دياب إثر انفجار مرفأ بيروت، ها هو د. وزني يسجل بلغة هادئة، تجربته المالية والشخصية، ويضع النقاط على الحروف، في كتاب صدر حديثاً عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» تحت عنوان «الانهيار المالي في لبنان تجربة ووقائع». يروي المؤلّف ما حدث في مرحلة «كانت حافلة بالأحداث والتطوّرات والوقائع، سيبقى لبنان نموذجاً لدراسة يمكن أن تستفيد منها المؤسّسات الماليّة، العربيّة والدوليّة عبر المقاربات التي طُرحت ومعوّقاتها».

لكن ليس ذلك فحسب. فهذا الكتاب، هو أيضاً يأتي دفاعاً رصيناً، في وجه الاتهامات التي رُميت بها حكومة حسان دياب، إذ حُمّلت مسؤولية انهيار يُرينا الكتاب أنه كان يختمر لثلاثة عقود قبل مجيئها، وأنها سعت جهدها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنَّ الموجة المعاكسة كانت عاتية، ويصعب صدّها.

وهو يشرح بشكل وافٍ للراغبين في الأسباب التي أدت إلى فشل معالجة الأزمة المالية اللبنانية، التي انفجرت عام 2019 عندما تعثر القطاع المصرفي وانهار سعر صرف الليرة اللبنانية، حتى إنها خسرت في نهاية المطاف نحو 90 في المائة من قيمتها. وكانت المديونية قد بلغت حداً قياسياً، بعد أن راكم لبنان مصاريف وهدراً، وسوء إدارة، انتهت به إلى انهيار اقتصادي شامل. وإثر الأنباء المتوالية عن سوء الوضع، تهافت المودعون على البنوك يريدون سحب أموالهم، أو مطالبين بتحويلها إلى الخارج. وازداد الأمر سوءاً حين بدأت المصارف ترفض الاستجابة لطلبات المواطنين، فأخذوا يشترون الدولار الأميركي متخلصين من الليرة اللبنانية، واحتفظوا بما وصل إلى أيديهم في بيوتهم.

في المقابل عجزت الدولة عن إيجاد حلول أو إجابات شافية. وتصاعد السخط على الطبقة السياسية، واستقالت حكومة سعد الحريري حينها. وفي محاولة لإرضاء الشارع جرى اختيار حسان دياب لتشكيل حكومة جديدة، جاءت بوزراء تكنوقراط لكنهم محسوبون على القوى السياسية، حيث تولى فيها د. غازي وزني عبء وزارة المالية، وكان من حصة رئيس مجلس النواب نبيه بري. مهمة استمرت عشرين شهراً وضع خلالها خطة متكاملة للخروج من النفق الأسود، لكنه اصطدم بالخلافات السياسية، واعتراضات الأحزاب والقوى الاقتصادية ذات السلطة والنفوذ. وبعد أن خرج من الوزارة، عكف على بدء كتابة تجربته ويقول: «أجزم بأن سرد التجربة مفيد للمؤسسات المالية الدولية، وللأسواق المالية العالمية، وللمجتمع الدولي... لأنها تتيح لها تقييم حجم الأزمات التي ألمَّت بلبنان والحكم على طرائق المعالجة التي طرحتها الحكومة».

ويخصص الكاتب صفحات لمسألة «الكابيتال كونترول»، وهي الإجراءات الفورية التي كان يفترض أن تُتخذ لضبط السحوبات والتحويلات وتنظيم عمليات الاستيراد، وطمأنة الأسواق والحد من الانهيار المالي، في حينه. وهذا ما فعلته دول عصفت بها أزمات مشابهة لما حدث في لبنان، مثل قبرص واليونان.

لكنّ القوى السياسية اللبنانية منعت الحكومة من اتخاذ هذه الإجراءات. يقول الكتاب إن «حكومة سعد الحريري هربت من مسؤوليتها التاريخية، وأنكرت حجم الأزمة، وتلهّت بخلافاتها السياسية، كأن شيئاً لم يكن، وراحت تُطمئن الناس إلى الوضعين المالي والنقدي، دون الاستناد إلى الواقع، ثم تركت المودعين لمصيرهم المجهول».

ومصرف لبنان أيضاً فعل الشيء نفسه حين ادّعى أن «الوضع تحت السيطرة».

يذكّر الكتاب بأن المصارف أغلقت أبوابها 14 يوماً من 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ولغاية الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، وحاولت التنسيق مع السلطة لوضع خطوات قانونية دون جدوى، فاتخذت إجراءات من تلقاء نفسها، فقيَّدت السحوبات ومنعت التحويلات، بشكل استنسابي، وهو ما زاد من الفوضى.

ويشرح د. وزني بالتفصيل كيف عارضت القوى السياسية «الكابيتال كونترول»، بينهم، بل على رأسهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، بعد أن زاره رئيس جمعية المصارف سليم صفير، إذ رأى بري أنه أمر يُلحق الضرر بالمودعين لا سيما صغارهم، وأنه مخالف للدستور.

وكذلك رفض حزب «القوات اللبنانية» المشروع وعدَّه غير مفيد، ولم يصدر عن «تيار المستقبل» أو «حزب الله» موقف واضح، كذلك لم يعبّر جبران باسيل، رئيس «التيار الوطني الحر»، عن رأي واضح.

ويلفت الكاتب إلى أن النائب الوحيد الذي عبَّر عن رأيه صراحةً مؤيداً قانون «الكابيتال كونترول» هو النائب ياسين جابر، على أن يكون ذلك ضمن خطة شاملة. «ذلك لأنه يعد بين الأقرب إلى الفهم الاقتصادي والمالي، وهو مطَّلع على تجارب بلدان أخرى».

وبالتالي بقي الوضع المالي يراوح مكانه، ولم تتمكن حكومة دياب من تنفيذ ما سعت إليه، ثم رحلت وبقي لبنان في ضياع البحث عن حلول ولا يزال.

اتُّهمت هذه الحكومة بالكثير، منها أنها أساءت إلى سمعة لبنان حين قررت عدم سداد الديون. وأُلقيت عليها مسؤوليات كان يفترض أن يُسأل عنها آخرون. وعن هذا يقول الكاتب الكثير. رأيه أن قرار التخلف عن السداد ليس المسؤول عن الأزمات التي انفجرت نهاية عام 2019، وليس هو سبب وقف التدفقات المالية وفقدان الثقة بالقطاع العام، كما يدّعي البعض، وليس هو سبب انهيار الليرة، والكساد الاقتصادي، وعدم قدرة الدولة على اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية... وذلك على عكس ما صرح ّ ويصرح به عدد من المسؤولين السياسيين والماليين والمصرفيين والخبراء، الذين يُحمّلون تلك الحكومة التداعيات، للهروب من مسؤولياتهم.

وفي الكتاب استعراض لتفاصيل كاملة، بالأسماء والتواريخ وتسلسل الأحداث، يفيد بأن الأزمة كانت مستفحلة ومتفجرة ومتدحرجة التداعيات الخطرة قبل تشكيل حكومة حسان دياب.

وبالتالي فإن «ما اتُّخذ من قرارات بعد تشكيل الحكومة، لا سيما التخلف عن السداد، كان صائباً لو نُفِّذ كما يجب، مستنداً إلى خطة التعافي المالي والاقتصادي، وإلى التفاوض مع الدائنين، وإلى إقرار (الكابيتال كونترول)، وغير الصائب هو ما تعرضت له الحكومة وخططها من ضربات من جهات صديقة وغير صديقة أدت إلى ما أدت إليه في عام 2020 وما تلاه».

الكتاب هو مرجع قيّم لفهم الأزمة المالية اللبنانية؛ مسبّباتها، ونتائجها الكارثية، وفيه تقييم لخطط الإصلاح الاقتصادي التي طُرحت في السنوات الأخيرة لإنقاذ الوضع. وموقف المجتمع الدولي وصندوق النقد، والدور الذي لعبته المصارف اللبنانية، وخسائر المودعين وضياع جنى أعمارهم. يقدم الكتاب توصيات مستقبلية للحلول وتوجهات السياسة الاقتصادية التي يمكنها أن تساعد في تجاوز الأزمة.


مقالات ذات صلة

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب إيمانويل تود

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً.

سوسن الأبطح
كتب شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

شرح الميزان البيئي للأشياء بطريقة علمية مسلية

يطرح الكاتب العراقي ماجد الخطيب في السوق كتابه المعنون «البيئة المسلية» في زمن ما عاد فيه الإنسان يشعر بأي تسلية وهو يشاهد الخراب البيئي العظيم

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

معرض لندن للكتاب... التقاطع بين الذكاء الاصطناعي والحقوق الفكرية

بعد بدايات متواضعة من قاعة فندق بيرنرز في وستمنستر عام 1971 أصبح معرض لندن للكتاب (LBF) – الحدث العالمي الأهم في صناعة المحتوى الإبداعي خلال فصل الربيع

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يوسف بكار يعاين بوادر التجديد في الشعر المعاصر

يكشف كتاب «بوادر التجديد في شعرنا المعاصر»، للدكتور يوسف بكار، عن جوانب تجديدية في المضمون الشعري وتشكيلاته الفنية، متناولاً قصيدتين لخليل مطران وإبراهيم طوقان

«الشرق الأوسط» (عمّان)
صحتك التعاطف مع الذات والوعي بما يحتاج إليه جسمكم هما المفتاح لنوم أفضل (متداولة)

8 نصائح بسيطة لنوم أفضل

هل تواجهون صعوبة في النوم؟ إليكم 8 نصائح رئيسية عملية لمساعدتكم على الاسترخاء والاستغراق في النوم.

«الشرق الأوسط» (لندن)

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود
TT

إيمانويل تود في «هزيمة الغرب»: أميركا وصلت إلى «العدمية»

إيمانويل تود
إيمانويل تود

كتب عالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود، عندما كان لا يزال طالباً عام 1976 متوقعاً انهيار الاتحاد السوفياتي، وصدقت نبوءته بعد 15 عاماً. من حينها بقي اسم هذا الأكاديمي مرتبطاً بقراءته المبكرة للأحداث. هذه المرة أطلق من خلال كتابه «هزيمة الغرب»، الذي صدر في فرنسا، منذ ما يقارب السنة، نبوءةً جديدةً، وهي أن «روسيا لن تُهزم» في حربها مع أوكرانيا، عكس كل ما كان يتردد في الإعلام، وشرح أن الغرب في مرحلة انحدار سريع، ونكران، لا بل في طور «العدمية» وفقدان القيادة، مما ينذر بالأفول.

هذه الآراء الجريئة، جعلت مؤلّف تود «هزيمة الغرب» يتصدر الكتب الأكثر مبيعاً، ويثير نقاشاً واهتماماً في أوروبا وأميركا، حيث ترجم إلى مختلف اللغات، وجلب لصاحبه من القراء والمعجبين بقدر ما حصد من عداوات. وصفته «نيويورك تايمز» بأنه «الأكاديمي الرؤيوي»، وكتابه «فريد من نوعه»، فيما رأت مجلة «لوبوان» الفرنسية أنه «كتاب يهزّ اليقينيات».

حسناً فعلت «دار الساقي» أن ترجمت الكتاب إلى العربية، في وقت تطالب فيه أميركا الرئيس الأوكراني زيلينسكي بأن يوقع اتفاقاً يقر بالهزيمة. فهل بدأت توقعات تود بالتحقق من جديد؟

الكتاب ليس تحليلاً سياسياً، ولا قراءة لخبير عسكري، بل بحث أكاديمي علمي صرف، كما يصرّ صاحبه، رافضاً تسميتها بالتوقعات، لأنها مبنية على دراسة وتحليل لتركيبة الهياكل العائلية في المجتمعات، على مدى نصف قرن من الزمان. ومن بين ما يأخذه بعين الاعتبار بيانات الخصوبة في كل بلد، والتعليم، ومتوسط الأعمار، وانتشار الأمراض، ومستوى الخدمات الصحية، وحركة المجتمع التي تشكل المحرك الحقيقي للشعوب ولسياساستها بعد ذلك.

وتود مؤرخ وأنثروبولوجي من أصل يهودي مجري، تلميذ نجيب لعالمي الاجتماع الكبيرين ماكس فيبر وإيميل دوركهايم، لا يدعي الإصلاح ولا إعطاء النصح، بل تطبيق مناهج أساتذته القديمة المعروفة، بشكل صارم وجدي، ومن ثم قراءة النتائج.

وقد وصل إلى نتيجة مفادها أن أميركا تحوّلت إلى «إمبراطورية عدمية»، ولم تعد أمة وبلداً له حدوده الواضحة، بل اختلط الداخل بالمصالح الخارجية بشكل يهدد كيان الدولة. وأصبح الاقتصاد مرهوناً بالآخرين، والعجز التجاري كبيراً، ويتصاعد بسرعة. منحنى الانحدار بدأ منذ منتصف ستينات القرن الماضي. والحمائية التي تنشدها أميركا اليوم، سببها انعدام المركزية الثقافية وفقدان القيادة الأمينة لماضيها، وتاريخها وتقاليدها. وهو ما بدأنا نرى الكثير من تجلياته في أوروبا أيضاً.

ويعتقد الكاتب أن الإصلاح صعبٌ، إن لم يكن مستحيلاً، بسبب عمق الأزمة. وهو يعلن باستمرار أنه رجل لا ديني، لكنه لا يستطيع أن يهمل كدارس اجتماعي الدور الذي لعبه الدين، خصوصاً البروتستانتية في التأسيس لنهضة الحضارة الغربية. ويفرد لذلك مساحة شارحاً أن حرص البروتستانتية على قراءة الإنجيل والتفقه الديني من قبل أتباعها، كان وراء انتشار التعليم في أوروبا وتشييد المؤسسات المعرفية. وهو ما يفسر الدور الذي لعبته ألمانيا وإنجلترا وأميركا في بناء النهضة الصناعية الغربية. ويلفت إلى أن ماكس فيبر عدَّ أن البروتستانتية هي التي منحت الرأسمالية ديناميكيتها. بالتالي فإن العامل الديني الذي كان أحد عناصر تأجيج المعرفة العلمية، فقد وهجه اليوم.

أما من يصلون إلى السلطة في أميركا، فهم وإن كانوا بروتستانت، فإنهم فقدوا جذور القيم البروتستانتية. ويصل تود إلى حد اعتبار أن «البروتستانتية أصبحت بمستوى صفر». صحيح أن أميركا تتمتع بنظام وقوة عسكرية هائلين، لكنها بلا قيادة مركزية وقيم توجهها، وتلك هي المشكلة. أي أنها قوة ضاربة فقدت بوصلتها.

ومن بين الأمور الرئيسية التي يعدُّها سبباً في تقهقر الغرب غروب الأخلاقيات ذات الجذور الدينية، وهو ما تسبب بحالة من الضياع القيمي عند الناس. الإحساس بالفراغ لم يُملأ، وأحدث خلخلة اجتماعية. ويلفت كأنثروبولوجي متعمق إلى أن التركيز على مسألة التحول الجنسي، واعتبار أنه يمكن تحويل الرجال إلى نساء والعكس، خلق حالة غير واقعية، وشكل نهاية للمسيحية محركاً أخلاقياً في المجتمعات الغربية، بعد أن كانت جميعها بحلول عام 2015 قد شرعت زواج المثليين بقوانينها.

«أؤمن بالبرغماتية الأنجلوساكسونية، وكنت أظن أن هذه المجتمعات ستصحح مسارها ولكن بالعكس الأمر يتفاقم»، يقول تود: «لفتني ليس فقط وضع الغرب ككل. ولكن ما حدث في ولاية ترمب الأولى التي لم تكن ناجحة، كذلك (بريكست)، وقد تأتت عنه نتائج سيئة. بلدان غربيان رئيسيان يعانيان أزمات كبرى، وهناك في المجتمعين انتصار ساحق للعموم على النخب».

عناصر كثيرة، يوضح من خلالها تود أن الأزمة هي في الغرب وليست عند روسيا التي تلقى عليها الاتهامات في حربها مع أوكرانيا. «الغرب ليس مستقراً، لا بل مريض، ويعاني من أزمة يشغل موقعاً مركزياً فيها. فوزنه، سواء الديموغرافي أو الاقتصادي يفوق وزن روسيا، من سبع إلى عشر مرات، كما أن تقدمه التكنولوجي، وسيطرته الآيديولوجية والمالية الممتدة من عام 1700 يقودنا نحو افتراض أن أزمة الغرب هي أزمة العالم».

أما روسيا، في المقابل، فهي دولة استرجعت توازنها، وتبذل ما في وسعها من أجل الحفاظ عليه. الغرب وقع في فخ هذه الحرب وخسرها ليس بفعل قوة روسيا، بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل. على عكس الدول الغربية في روسيا زاد معدل الأعمار، كذلك ارتفعت نسبة الخصوبة، بعد أزمة التسعينات، هناك تحسن واضح في كل المؤشرات الروسية.

فمنذ بداية حكم بوتين إلى عام 2000، انخفض معدل الوفيات بسبب الكحول من 25 في المائة إلى 8 في المائة، والانتحار من 39 إلى 13، والقتل من 28 إلى 6. أما بالنسبة لمعدل وفيات الرضع، فقد انخفض من 19 في الألف إلى 4.4. وهو أفضل من المعدل الأميركي. ومع أن عدد سكان روسيا هو نصف عدد سكان الولايات المتحدة، فإنها تنتج ضعف كمية القمح، فيما أميركا، تعتمد على الخارج في معظم قدرتها الإنتاجية. ومن الأرقام اللافتة أن 23 في المائة من الروس في التعليم العالي يدرسون الهندسة، مقابل 7 في المائة في الولايات المتحدة، وهو ما ساعد الأولى على تحقيق تطور مذهل في مجالي الزراعة والصناعة.

يرفض الكاتب فكرة أن روسيا لها أطماع توسعية خارج حدودها التاريخية، ويعتبر أن الشعب الروسي سيادي، وهمه استقلاله، والحفاظ على حدوده. فكيف لشعب لا تتجاوز نسبة الخصوبة لديه 1.5 لكل امرأة أن يكون غازياً وطامعاً في التمدد؟ وكيف لبلد عدد سكانه 144 مليون نسمة، يعيشون على مساحة 17 مليون كم مربع، أن يفكروا بالتوسع، ولديهم كل هذه الأراضي الشاسعة، التي يحتاجون حمايتها والحفاظ عليها. لذا فإن كل الكلام الغربي الذي يضخه الإعلام للتخويف من روسيا هو نوع من الفانتازيا لا بل فكرة سخيفة ، ليس أكثر. وللتدليل على ذلك يشرح كيف أن روسيا هي التي أرادت التخفف من الدول التي التحقت بالاتحاد السوفياتي، وأن التخلص منها ومنحها استقلالها كان إحدى الغايات الروسية، خصوصاً بولندا التي شكلت حملاً ثقيلاً.

يرى تود أن الغرب وقع في فخ حرب أوكرانيا وخسرها ليس بفعل قوة روسيا بل بسبب انحداره التدريجي الذي بدأ منذ وقت طويل

في مطلع الكتاب يتحدث تود عن مفاجآت عديدة للحرب الأوكرانية - الروسية، بينها أن أوروبا التي اعتبرت نفسها بعيدة عن الحرب أصبحت جزءاً منها، ثم أن الصمود العسكري الأوكراني أذهل الروس فعلاً. لكن الذي أذهل العالم أجمع هو الصمود الاقتصادي الروسي، في مواجهة عقوبات كان يفترض أن تركّع الروس، لكنهم عكس ذلك استطاعوا أن يتكيفوا مع العقوبات بشكل كبير، واستعدوا سلفاً للاستقلالية في المجال التكنولوجي وحتى المالي، بحيث إن العقوبات المصرفية الكبيرة لم تنل منها كما كان متوقعاً. أما إحدى أهم المفاجآت فجاءت من أميركا حين ظهرت تقارير مصدرها البنتاغون عام 2023 تقول إن الصناعة العسكرية الأميركية تعاني عجزاً، وأنها لا تتمكن من تأمين القذائف لحماية حليفتها. أما الصدمة الكبرى للغرب، فكانت عدم تجاوب دول الجنوب مع مطالب أميركا لخنق روسيا. بل على العكس فإن الغرب وجد نفسه في عزلة عن العالم، الذي لم ير بارتياح كل الإجراءات العدائية التي اتخذت ضد روسيا.

أما في نهاية الكتاب، فيشرح بالتفصيل كيف سيقت أميركا، ووقعت في الفخ الأوكراني. ويعدُّ أن سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 على عكس الادعاء الغربي لم يكن بسبب هزيمة روسيا فقط، بل لأن أميركا كانت لم تعد قادرة على المواجهة. وبما أن الجميع صدق الكذبة، خصوصاً الغرب، فقد استمرت أميركا في مغامراتها التوسعية من العراق إلى أفغانستان، فيما كان الفقر والوفيات يتفاقمان في الداخل. وبينما كانت الولايات المتحدة تتخبط في حروبها، تركت الصين تُنهك الصناعة الأميركية، وكانت روسيا تتعافى.

ويرى الكتاب أن الحمائية الأميركية لا يمكن أن تنجح، «لأن أميركا ضعيفة جداً صناعياً. فهي لا تنجح في تطوير صناعة بديلة للواردات. ولم تعد العمالة الماهرة موجودةً لديها». وحتى نوعية الأسلحة الأميركية إذا ما دخلت حرباً حقيقيةً مع الصين مثلاً، فلربما لا تصمد طويلاً. إذ ماذا تفعل حاملات الطائرات الأميركية التي تستعرض في المتوسط أمام الصواريخ الصينية الفرط صوتية، ألم تجعلها بالية وغير قادرة على الدفاع عن تايوان؟

حرب غزة التي ينتهي بها الكتاب، يعتقد تود أنها «كانت مفيدة لأميركا كي ينسى العالم أنها تخسر في أوكرانيا، ولكي تنسى هي نفسها ذلك».

أما الخلاصة السوداء التي يوصلنا إليها، فيتركها مفتوحةً بوسع ضبابية المشهد لأن «الحالة السوسيولوجية صفر لأميركا، تحول دون أي تنبؤ متعقل بالقرارات الأخيرة التي سيتخذها قادتها». لذلك ينصحنا تود بالتالي: «دعونا نبقى يقظين، لأن العدمية تجعل كل شيء، كل شيء على الإطلاق ممكناً».