«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

الوزير السابق غازي وزني يكشف عن الكواليس

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟
TT

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

«الانهيار المالي في لبنان»... مَن المسؤول عن استمراره؟

ما من شك في أن الأزمة المالية والاقتصادية التي تعرَّض لها لبنان في السنوات الأخيرة، غير مسبوقة في تاريخ البلاد. لا بل هي حسب البنك الدولي واحدة من أسوأ الأزمات، التي شهدها العالم، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. ومع أن لبنان كان يُفاخر بأنه يفي دائماً بالتزاماته، إلا أنه قرر، إثر هذه المحنة الاستثنائية، وللمرة الأولى في تاريخه، أن يعلّق دفع ديونه، مما أثار جدلاً واسعاً في البلاد، بين مؤيد ومعارض. لكن الواقع فرض نفسه، ودخل لبنان في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وأيضاً وسط أخذ وردّ، وفي سابقة، قدّم لبنان خطّة تعافٍ اقتصادي ومالي شاملة، حملت اسم «خطّة لازارد»، كما وقّع لبنان عقد تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان.

خلال هذه الفترة الحرجة، وقعت على كاهل وزير المالية د. غازي وزني، مهمة وضع خطة لإنقاذ لبنان. عشرون شهراً قضاها وزني في حكومة د. حسّان دياب التي واجهت صعوبات لا تُحسد عليها، ومعارضات بالجملة، طغى فيها السياسي على النظرة العلمية، والأفكار المسبقة على مصلحة البلاد والعباد.

وبعد انقضاء أكثر من ثلاث سنوات على استقالة حكومة د. حسان دياب إثر انفجار مرفأ بيروت، ها هو د. وزني يسجل بلغة هادئة، تجربته المالية والشخصية، ويضع النقاط على الحروف، في كتاب صدر حديثاً عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» تحت عنوان «الانهيار المالي في لبنان تجربة ووقائع». يروي المؤلّف ما حدث في مرحلة «كانت حافلة بالأحداث والتطوّرات والوقائع، سيبقى لبنان نموذجاً لدراسة يمكن أن تستفيد منها المؤسّسات الماليّة، العربيّة والدوليّة عبر المقاربات التي طُرحت ومعوّقاتها».

لكن ليس ذلك فحسب. فهذا الكتاب، هو أيضاً يأتي دفاعاً رصيناً، في وجه الاتهامات التي رُميت بها حكومة حسان دياب، إذ حُمّلت مسؤولية انهيار يُرينا الكتاب أنه كان يختمر لثلاثة عقود قبل مجيئها، وأنها سعت جهدها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنَّ الموجة المعاكسة كانت عاتية، ويصعب صدّها.

وهو يشرح بشكل وافٍ للراغبين في الأسباب التي أدت إلى فشل معالجة الأزمة المالية اللبنانية، التي انفجرت عام 2019 عندما تعثر القطاع المصرفي وانهار سعر صرف الليرة اللبنانية، حتى إنها خسرت في نهاية المطاف نحو 90 في المائة من قيمتها. وكانت المديونية قد بلغت حداً قياسياً، بعد أن راكم لبنان مصاريف وهدراً، وسوء إدارة، انتهت به إلى انهيار اقتصادي شامل. وإثر الأنباء المتوالية عن سوء الوضع، تهافت المودعون على البنوك يريدون سحب أموالهم، أو مطالبين بتحويلها إلى الخارج. وازداد الأمر سوءاً حين بدأت المصارف ترفض الاستجابة لطلبات المواطنين، فأخذوا يشترون الدولار الأميركي متخلصين من الليرة اللبنانية، واحتفظوا بما وصل إلى أيديهم في بيوتهم.

في المقابل عجزت الدولة عن إيجاد حلول أو إجابات شافية. وتصاعد السخط على الطبقة السياسية، واستقالت حكومة سعد الحريري حينها. وفي محاولة لإرضاء الشارع جرى اختيار حسان دياب لتشكيل حكومة جديدة، جاءت بوزراء تكنوقراط لكنهم محسوبون على القوى السياسية، حيث تولى فيها د. غازي وزني عبء وزارة المالية، وكان من حصة رئيس مجلس النواب نبيه بري. مهمة استمرت عشرين شهراً وضع خلالها خطة متكاملة للخروج من النفق الأسود، لكنه اصطدم بالخلافات السياسية، واعتراضات الأحزاب والقوى الاقتصادية ذات السلطة والنفوذ. وبعد أن خرج من الوزارة، عكف على بدء كتابة تجربته ويقول: «أجزم بأن سرد التجربة مفيد للمؤسسات المالية الدولية، وللأسواق المالية العالمية، وللمجتمع الدولي... لأنها تتيح لها تقييم حجم الأزمات التي ألمَّت بلبنان والحكم على طرائق المعالجة التي طرحتها الحكومة».

ويخصص الكاتب صفحات لمسألة «الكابيتال كونترول»، وهي الإجراءات الفورية التي كان يفترض أن تُتخذ لضبط السحوبات والتحويلات وتنظيم عمليات الاستيراد، وطمأنة الأسواق والحد من الانهيار المالي، في حينه. وهذا ما فعلته دول عصفت بها أزمات مشابهة لما حدث في لبنان، مثل قبرص واليونان.

لكنّ القوى السياسية اللبنانية منعت الحكومة من اتخاذ هذه الإجراءات. يقول الكتاب إن «حكومة سعد الحريري هربت من مسؤوليتها التاريخية، وأنكرت حجم الأزمة، وتلهّت بخلافاتها السياسية، كأن شيئاً لم يكن، وراحت تُطمئن الناس إلى الوضعين المالي والنقدي، دون الاستناد إلى الواقع، ثم تركت المودعين لمصيرهم المجهول».

ومصرف لبنان أيضاً فعل الشيء نفسه حين ادّعى أن «الوضع تحت السيطرة».

يذكّر الكتاب بأن المصارف أغلقت أبوابها 14 يوماً من 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 ولغاية الأول من نوفمبر (تشرين الثاني)، وحاولت التنسيق مع السلطة لوضع خطوات قانونية دون جدوى، فاتخذت إجراءات من تلقاء نفسها، فقيَّدت السحوبات ومنعت التحويلات، بشكل استنسابي، وهو ما زاد من الفوضى.

ويشرح د. وزني بالتفصيل كيف عارضت القوى السياسية «الكابيتال كونترول»، بينهم، بل على رأسهم رئيس مجلس النواب نبيه بري، بعد أن زاره رئيس جمعية المصارف سليم صفير، إذ رأى بري أنه أمر يُلحق الضرر بالمودعين لا سيما صغارهم، وأنه مخالف للدستور.

وكذلك رفض حزب «القوات اللبنانية» المشروع وعدَّه غير مفيد، ولم يصدر عن «تيار المستقبل» أو «حزب الله» موقف واضح، كذلك لم يعبّر جبران باسيل، رئيس «التيار الوطني الحر»، عن رأي واضح.

ويلفت الكاتب إلى أن النائب الوحيد الذي عبَّر عن رأيه صراحةً مؤيداً قانون «الكابيتال كونترول» هو النائب ياسين جابر، على أن يكون ذلك ضمن خطة شاملة. «ذلك لأنه يعد بين الأقرب إلى الفهم الاقتصادي والمالي، وهو مطَّلع على تجارب بلدان أخرى».

وبالتالي بقي الوضع المالي يراوح مكانه، ولم تتمكن حكومة دياب من تنفيذ ما سعت إليه، ثم رحلت وبقي لبنان في ضياع البحث عن حلول ولا يزال.

اتُّهمت هذه الحكومة بالكثير، منها أنها أساءت إلى سمعة لبنان حين قررت عدم سداد الديون. وأُلقيت عليها مسؤوليات كان يفترض أن يُسأل عنها آخرون. وعن هذا يقول الكاتب الكثير. رأيه أن قرار التخلف عن السداد ليس المسؤول عن الأزمات التي انفجرت نهاية عام 2019، وليس هو سبب وقف التدفقات المالية وفقدان الثقة بالقطاع العام، كما يدّعي البعض، وليس هو سبب انهيار الليرة، والكساد الاقتصادي، وعدم قدرة الدولة على اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية... وذلك على عكس ما صرح ّ ويصرح به عدد من المسؤولين السياسيين والماليين والمصرفيين والخبراء، الذين يُحمّلون تلك الحكومة التداعيات، للهروب من مسؤولياتهم.

وفي الكتاب استعراض لتفاصيل كاملة، بالأسماء والتواريخ وتسلسل الأحداث، يفيد بأن الأزمة كانت مستفحلة ومتفجرة ومتدحرجة التداعيات الخطرة قبل تشكيل حكومة حسان دياب.

وبالتالي فإن «ما اتُّخذ من قرارات بعد تشكيل الحكومة، لا سيما التخلف عن السداد، كان صائباً لو نُفِّذ كما يجب، مستنداً إلى خطة التعافي المالي والاقتصادي، وإلى التفاوض مع الدائنين، وإلى إقرار (الكابيتال كونترول)، وغير الصائب هو ما تعرضت له الحكومة وخططها من ضربات من جهات صديقة وغير صديقة أدت إلى ما أدت إليه في عام 2020 وما تلاه».

الكتاب هو مرجع قيّم لفهم الأزمة المالية اللبنانية؛ مسبّباتها، ونتائجها الكارثية، وفيه تقييم لخطط الإصلاح الاقتصادي التي طُرحت في السنوات الأخيرة لإنقاذ الوضع. وموقف المجتمع الدولي وصندوق النقد، والدور الذي لعبته المصارف اللبنانية، وخسائر المودعين وضياع جنى أعمارهم. يقدم الكتاب توصيات مستقبلية للحلول وتوجهات السياسة الاقتصادية التي يمكنها أن تساعد في تجاوز الأزمة.


مقالات ذات صلة

في الحبّ... وفلسفته

كتب إيريس مردوك

في الحبّ... وفلسفته

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية».

لطفية الدليمي
كتب  جون كاسيدي في محاضرة له

جون كاسيدي يؤرّخ للرأسمالية بلسان منتقديها

في عصر تزداد فيه التساؤلات الجوهرية حول ماهية أزمات النظام الاقتصادي العالمي بفعل تحديات مثل الذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، وازدياد عدم المساواة، والحروب...

ندى حطيط
ثقافة وفنون عيسى مخلوف

الكتابة على الحافة بين أدب الرحلة ورثاء الراحلين

لعلني لا أجافي الحقيقة في شيء إذا نوهت في بداية هذه المقالة بأن مسارعتي لقراءة إصدار عيسى مخلوف الجديد «باريس التي عشت» لا تعود إلى جاذبية المدينة المعنية

شوقي بزيع
ثقافة وفنون «ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

«ابن خلدون»... زيارة جديدة بعيون فرنسية

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «ابن خلدون – فلسفته الاجتماعية» لعالم الاجتماع الفرنسي جوستون بوتول

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

مؤرخ فرنسي يكتب شهادته عن جحيم غزة

في ليلة من ليالي ديسمبر (كانون الأول) 2024، نجح المؤرخ الفرنسي جان بيار فيليو في دخول غزّة عبر منطقة رفح الحدودية، رغم الحصار المشّدد والموانع الأمنية.

أنيسة مخالدي (باريس)

في الحبّ... وفلسفته

إيريس مردوك
إيريس مردوك
TT

في الحبّ... وفلسفته

إيريس مردوك
إيريس مردوك

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية». أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواءٌ منَحَنا الحبُّ متعة عظمى أم تسبّب لنا بمعاناة رهيبة، فإنّ قليلين وحسبُ هم الذين ينكرون أنّ الحب هو ما يمنح الحياة معنى وهدفاً جديريْن بالاحترام، وإنّ غياب الحب يحيل الحياة صحراء موحشة. هناك كثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل: كيف يمكن لهذه الخصلة الإنسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟ وإذا كان «الحب هو كل ما تحتاجهAll You Need is Love » كما تخبرنا كلمات أغنية فرقة البيتلز، فلماذا يبدو أحياناً أن الحبّ ينساب في مسارات خاطئة تقود إلى آلام ومعاناة مؤذية؟ وكيف يمكن لشيء مثل الحب، يبدو في غاية الوضوح، أن يتسبّب في آلام وتناقضات على قدر عظيم من الإيذاء؟ يبدو أن السببَ يكمن في أنّنا لا نفهم الحب على قدر وافٍ من الكفاية والتمعّن والاستبصار الفلسفي.

كيركيغارد

يبدو الحب نوعاً من دفقة «تسونامي» تضرب كيان الفرد، وتدفعه للإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة. شاعت هذه القناعة لدى كثير من الفلاسفة منذ عصر الإغريق حتى اليوم، ممّن يرون في الحب عرضاً من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام. من المثير في هذا المقام، قراءة المقطع التالي الوارد في كتاب «الحب: مقدّمة موجزة» المنشور عن جامعة أكسفورد للفيلسوف رونالد دي سوسا Ronald De Soussa:

«ثمة صِدامٌ من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى للحب مع المثال السائد عن الحبّ، لأنّ الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة. الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك. ثمة ملحوظة تعني - ربما - أنّ الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي، وربما حتى غير الصحي، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة، قد شجبوا الحب، ورأوا فيه حالة مرضية (باثولوجية)».

طرح الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون في حواراته المعروفة وحتى عصرنا هذا، نظرياتٍ كثيرة حول الحبّ، من شأنها أن تُثير فينا كثيرًا من التساؤلات. إذا كنا نحبّ الناس لصفاتهم، على سبيل المثال، فهل من المقبول أن نحبّ أي شخصٍ له الصفات نفسها، أو أن نُمسِكَ عن حب شخصٍ ما إذا تغيرت صفاته؟ وإذا كنا نُقدّر، بدلاً من ذلك، صفات من نحبّ فقط لأننا نحبّه، فلماذا لا نُوسّع نظرتنا المُحِبّة إلى مزيد من الناس بدلاً من جعلها مخصوصة بفرد واحد؟

الحبّ شعورٌ يصيبنا بإرباك لا يمكننا التفلّت من تأثيراته أو تغافل التفكير فيه. على سبيل المثال، تشيرُ إحصائية حديثة إلى أنّ الناس في الولايات المتحدة يبحثون عن كلمة «حب» على «غوغل» نحو 1.2 مليون مرة كلّ شهر، وأنّ ما يقربُ من رُبْع هذه العمليات البحثية تسأل «ما هو الحب»، أو تطلب «تعريفاً للحب». يبدو الحب خصيصة ملازمة لحياة كلّ كائن بشري.

يُخبرنا علم الأعصاب بأن الحبّ ناتج عن مواد كيميائية (نواقل عصبية) مُعيّنة في الدماغ. على سبيل المثال، عندما تُقابل شخصاً عزيزاً، فيُمكن حينئذ لهرموني الدوبامين Dopamine والنورإبينفرين Norepinephrene، أن يُحفّزا فيك استجابة مكافأة تجعلك ترغب في رؤيته مرة أخرى. الأمر مشابه تماماً عندما تتذوّقُ الشوكولاته وترغب في مزيد منها لاحقاً.

مشاعرك هي نتيجة هذه التفاعلات الكيميائية. عندما تكون بجانب شخص تُعجَبُ به، أو صديقٍ مُقرّب منك، قد تشعر بشيء من الإثارة والانجذاب والفرح والمودّة. تشعرُ بالسعادة عندما ترى من تحبّ يدخل الغرفة التي تجلس فيها. مع مرور الوقت تشعر بالراحة والثقة. يختلف شعور الحب بين الوالدين والطفل عن حبّ رجل وامرأة بالغيْن، ويختلف شكلا الحب هذان عن حبّ الشوكولاته مثلاً. الفرق هو في طبيعة الناقل الدماغي (بمعنى اختلاف التجربة الكيميائية الحيوية التي تجري وقائعها في الدماغ).

ولكن، هل هذه المشاعر الناتجة عن تفاعلات كيميائية حيوية في أدمغتنا هي كل ما يُمثّله الحب؟ هل الحب محضُ شعور أم تجربة حسّية أم عاطفة منبعثة من أعماقنا؟ أظنُّ أنّ المقاربة الاختزالية التي تردُّ الحبّ إلى ناتج تفاعلات كيميائية دماغية تبدو قاصرة عن فهم الحبّ وتمثّلاته في حياتنا، وهذا تماماً ما جعل الحبّ ميدان دراسة فلسفية خارج أنطقة المختبرات والمشاهدات العيانية الصارمة.

اهتمّ الفلاسفة - بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة - بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ، وهم (الفلاسفة) يتشاركون قناعة بأنّ الحب أوسعُ من مجرد شعور مستثار بدافع كيميائي.

اعتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ الحبّ قد يُولّد مشاعر كالانجذاب والمتعة، وهي مشاعر خارجة عن سيطرتك؛ لكنّ هذه المشاعر - العامّة وغير الموجّهة تجاه فرد بعينه - أقلّ أهمية من علاقات الحب التي تختار تكوينها بسلوك قصدي، وربما تشير هذه الحقيقة إلى خاصية أنانيّة متأصّلة في الحب الحقيقي: لا ترغب في أن يشاركك أحدٌ فيمن تحب.

اهتمّ الفلاسفة ــ بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة ــ بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ

وبالمثل ولكن بمقاربة محدّثة، ادّعى أرسطو، تلميذُ أفلاطون، أنّه على الرغم من شيوع العلاقات المبنية على مشاعر كالمتعة والانجذاب؛ غير أنّها أقلُّ فائدة للبشرية من العلاقات المبنية على حسن النية والفضائل المشتركة. السبب في ذلك اعتقاد أرسطو أنّ العلاقات المبنية على المشاعر تدوم فقط طالما استمرت المشاعر، ولا تملك خاصية التشارك الأخلاقي الذي يسمو على الزمان ومحدّدات الظروف والتغيّر المتوقّع في الرغبات والأمزجة الذهنية والتوجهات النفسية: تخيلْ مثلاً أنك شرعت في علاقة ثنائية مع شخص لا تجمعك به سوى حقيقة أنكما تستمتعان بلعب ألعاب الفيديو. إذا حصل وتوقّف أيٌّ منكما عن الاستمتاع بالألعاب، فلن يبقى أي شيء يُبقي العلاقة بينكما متماسكة. هذه هي الحقيقة الواضحة: كلُّ علاقة تتأسّسُ على المتعة المجرّدة فإنّها تزول مع زوال العنصر المسبّب للمتعة لدى أحد الأطراف، أو لدى الطرفيْن معاً. قارن علاقة المتعة هذه مع علاقة الحب. الفارق بيّنٌ وشديد الوضوح. يرغب الطرفان اللذان تجمعهما علاقة حبّ بالبقاء معاً؛ ليس بدافع متعة مشتركة بل لإعجابهما بعضهما ببعض كما هما.

يقدّم دليل أكسفورد المرجعي لفلسفة الحب The Oxford Handbook of the Philosophy of Love، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2024، مجموعة واسعة من المقالات الأصلية حول طبيعة الحب وقيمته. جمع المحرّران كريستوفر غراو Christopher Grau وآرون سموتس Aaron Smuts (وهما فيلسوفان جامعيان لامعان) كتابات نخبة من الفلاسفة من بينهم باحثون بارزون وشباب يشرعون في تشكيل مسارهم الفلسفي. يضمّ الكتاب ثلاثة وثلاثين عنواناً (موزّعة على خمسة أبواب) تتناول قضايا الحب ومعضلاته، بالإضافة إلى فلاسفة بارزين أسهموا في فلسفة الحب، مثل أفلاطون وكيركيغارد وشوبنهاور وآيريس مردوك. تتراوح الموضوعات المتناوَلَة بين القضايا المحورية حول طبيعة الحب وتنوعه، وإمكانية تبريره عقلانياً، وما إذا كان شعوراً، وأهمية الحب في القانون والاقتصاد والأخلاق والإرادة الحرة. كما يتضمن المجلّد مقدمة للموضوع، فضلاً عن مقالات حول علاقة الحب بالغيرة والدين والمعرفة والتكنولوجيا الحيوية، وكثير من الموضوعات الأخرى. اختصّ المحرّران الجزء الأخير من الدليل، وعنوانه تقاطعات Intersections، لبحث العلاقة المشتبكة بين الحب وموضوعات أخرى؛ مثل: الحب والقانون، والحب والمعرفة، والحب والأدب، والحب والدين، والحب والحرية. سيكون هذا الدليل الشامل مرجعاً أساسياً للمتخصّصين في فلسفة الحب، ودليلاً مفيداً لمن يتطلّعون إلى معرفة المزيد عن هذا المجال من غير ضرورة مسبّقة لأن يكونوا فلاسفة متمرّسين.

أرى أنّ جزءاً حيوياً من أهمية هذا الكتاب (وسواه من كتب الدليل المرجعي Handbooks) يكمن في أنّه يوفّرُ للقارئ طيفاً واسعاً من العناوين التي يستطيع انتقاء ما يشاء للاستزادة من قراءتها والتفكّر فيها. تتعاظم هذه الأهمية في عصرنا المتفجّر بفيوض لا تنقطع من المعلومات والمعرفة اليومية، التي بمستطاعها إغراقُنا في سيول من العناوين المفكّكة غير المترابطة التي لا ينتظمها خيطٌ معرفي.