اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

«الشرق الأوسط» تنشر رسالة نادرة توثق لهجات محكيّة بالسعودية قبل 100 عام

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
TT

اكتشاف قاموس للهجة البدو في نجد بجامعة زيوريخ

غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)
غلاف الكتاب... صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي)

قد لا يكون اسم الباحث الهولندي الدكتور مارسيل كوربرشوك الذي عُرف باهتمامه بثقافة الصحراء العربية، وتخصص في دراسة الشعر النبطي، غريباً على القارئ العربي عموماً، وعلى القارئ الخليجي خصوصاً، بحكم حضوره في وسائل الإعلام الخليجية، خاصة عندما كان يعمل أستاذاً في جامعة نيويورك في أبوظبي.

الباحث الهولندي د. مارسيل كوربرشوك مع الباحث السعودي قاسم الرويس

ولا ننسَ عمله العظيم «FROM CENTRAL ARABIA ORAL POETRY AND NARRATIVES » الذي أنجزه أثناء عمله في سفارة بلاده لدى السعودية، ونُشر في خمسة مجلدات خلال الفترة 1994-2005م، ثم إنه أصدر بعد ذلك كتاباً عن الشاعر حميدان الشويعر، وأتبعه بكتاب عن الشاعر عبد الله بن سبيّل، وأخيراً كتابه الذي صدر مؤخراً «شعراء النفود»، إضافة إلى أعمال أخرى.

تربطني بهذا الباحث الجاد صداقة وثّقها الاهتمام الثقافي المشترك، وكلي إعجاب بجَلَده ودأبه على تحمّل المشاق والسفر إلى أي مكان في سبيل شغفه بدراسة ثقافة صحراء الجزيرة العربية وآدابها.

قاموس لهجات البدو في نجد

في يوليو (تموز) 2023م أرسل لي هذا الصديق رسالة يزفّ لي فيها خبراً جميلاً حول اكتشافه قاموساً ضخماً مكتوباً بخط اليد عن لهجة بدو قبيلتَي «عتيبة» و«قحطان» القديمة للمستشرق السويسري يوهان جاكوب هيس Johann Jakob Hess (1866ـ1949م) الذي أقام في البلاد العربية عدة سنين عُني خلالها بثقافة ولهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، وألّف في ذلك كتاباً نشره في عام 1938م تحت عنوان: «Von den Beduinen des Innern Arabiens: Erzählungen, Lieder, Sitten und Gebräuche».

وتظهر على غلاف الكتاب صورة لافتة للراوي الرئيسي لمعلومات الكتاب (موهق الغنّامي العتيبي) بشعره المدهون وضفائره المجدولة.

وقد تُرجم الكتاب في 2010م، ونشرته «دار الورّاق» في لندن تحت عنوان: «بدو وسط الجزيرة: عادات... تقاليد... حكايات وأغانٍ». هذا الكتاب كان الدليل الرئيسي لأعمال كوربرشوك الميدانية في المملكة العربية السعودية.

كما أن لهيس (Hess) جهوداً أخرى؛ فقد أعدّ بحثاً في «لهجة نجد الحالية» عُرض في مؤتمر المستشرقين الذي عُقد في فيينا عام 1912م، كما نشر مقالتين عن اللهجة الدوسرية حيث سُجّلت مادتها في الكويت، وله أيضاً بحث استقصائي حول رحلة داوتي إلى جزيرة العرب، كما أن له كتاباً قدّمه إلى أكاديمية «هايد لبرغ» للعلوم، وطُبع سنة 1912م تحت عنوان: «أسماء بدو من وسط الجزيرة العربية»، وهو عبارة عن معجم صغير لأسماء البدو، بدأت فكرته عندما جمع المؤلف في صيف 1909م نحو ثلاثمائة اسم من حضر نجد، حسب تعبيره، الذين كان يلتقيهم، ثم عمل على تدقيق هذه الأسماء مع بدو نجد وغرب الجزيرة، ثم أضاف إليها أسماء أخرى. وقد تُرجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في السنوات الأخيرة، ونشرته «دار الورّاق» بلندن.

اكتشاف جامعة زيوريخ

وفي حين يشير من ترجموا لهيس (Hess) إلى جمعه مواد غزيرة لوضع قاموس للهجات البدو في داخل الجزيرة العربية، فقد أكدوا أنه لم يطبع هذا القاموس إذا كان قد حرّره بشكل نهائي، إلا أنه لا أحد يعلم تفاصيل مادة هذا القاموس وحجمه أو مكان حفظه، حتى اكتشف هذا الكنز الثمين صديقنا مارسيل كوربرشوك في أقبية معهد «الشرق وآسيا» (the Orient und Asien Institut) في جامعة زيوريخ.

عقدت جامعة زيوريخ بعد هذا الاكتشاف مؤتمراً حول هيس وأعماله في سبتمبر (أيلول) 2023م ألقى فيه كوربرشوك الكلمة الافتتاحية عن اكتشافه، ثم إني التقيت به في مؤتمر «المروية العربية» الثاني الذي نظمه مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الإسلامية في الرياض في 5-6 مايو (أيار) الماضي، فشرح لي قصة اكتشاف هذا الأرشيف الضخم وأهميته كأقدم شاهد على لهجات البدو في نجد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

فذكر أنه في اليوم الأخير من عام 2019م أرسل رسالة إلى أمين مكتبة معهد «أورينت وآسيا» في جامعة زيوريخ، الدكتور يوهانس توهمان، يسأله فيها عن ملاحظات مكتوبة بخط اليد تركها يوهان جاكوب هيس. فتلقى رده خلال ساعة مخبراً بوجود ملفات وبطاقات كثيرة في أرشيف المعهد، لم يقم أحد حتى ذلك التاريخ بعمل جاد عليها.

كان هيس من الباحثين الدقيقين في التدوين الصوتي للغة العربية البدوية؛ ولذا تتميز أعماله بالجودة والإتقان الذي قلّ نظيره في ذلك الوقت المبكر الذي اعتمد فيه على السماع المباشر دون الاستعانة بجهاز تسجيل.

لقد وجد مارسيل كوربرشوك في أقبية المعهد أكثر من ثلاثة عشر ألف بطاقة تحتوي على معلومات لغوية وغيرها: مكتوبة باللغة الألمانية، بخط يد أنيق بقلم رصاص على بطاقات صنعها هيس بنفسه من ورق رقيق جداً، منظمة بشكل أو بآخر أبجدياً، وهي بالفعل مشروع غير مكتمل لقاموس اللهجات العربية البدوية. اشتمل جزء من البطاقات على مادة كتابه «بدو وسط الجزيرة»، ولكن هناك الآلاف من البطاقات الأخرى المثقلة بالمعلومات اللغوية والثقافية البدوية الأصلية، إنها كنز تاريخي مجهول لم يهتم به أحد منذ وفاة هيس في سنة 1949م.

جاء هيس في نحو عام 1900م إلى المنطقة العربية في وقت كانت فيه الثقافة الشفوية هي الوعاء الذي حفظ السمات القديمة للهجات والعادات والتقاليد والحكايات والأغاني، مثل «الماموث» المحفوظ في صقيع سيبيريا - على حد تعبير كوربرشوك - فعمل هيس على توثيق هذه الثقافة الشفوية قبل اندثارها؛ ولذا فإن هذا الإرث الذي تركه هيس فريد ولا يُقدر بثمن، خاصة أن الثقافة الشفوية في قلب الجزيرة في ذلك الوقت غير مكتشفة إلى حد كبير، وهو ما كان يمثل فراغاً علمياً وقصوراً معرفياً.

من موهق العتيبي إلى العمّ محمّد سلّمه الله ودام بقاه.

سلّم لي على عمرك، وعلى جارالله، وعلى عبدالله الموسى إن وجدته، وناصر السعود، وعلى دخيل الجِدَاع، وعلى كلّ الجماعة.

أنا في زوريخ أكبر بلد من سوَيسرا مريّح ومتعافي، ديرةٍ على أهلها طيّبة وعلى الغريب شينة: مطر وبرد واليا رحت أبا أسيّر يتليّمون عليّ الناس. أنا منحجْرٍ من البيت إلى الجنَينة.

يوم سافرنا جات مسافرتنا زَينة. سفرنا على أكبر وابور اللي في البحر المتوسّط. بعد ثلاثة أيام من إسكندرية حصّلنا لمينا تَرْيَستا من بلاد نِمسا. ومنها سافرنا غرب إلى قريةٍ اسمها البندقية، يقولون أصل البنادق طالعةٍ منها، وهي وسط بحر تحوّل من السفينة في فم البيت، وأفكروني كيف بنوها، والبندقية من إيطاليا.

ومنها غيّرنا وابور سِكّة في بلد اسمها ميلانو. ثم ركبنا وابور سِكّه، ثم عطى بنا مع وسط الجبال عليها الثلج. خشّينا في وسط الجبال المشَقّقة يمشي نصّ ساعة والبابور من تحت الجبل. وفِتنا ثلاثة بحَيرات حِلوة، وطبَّينا بلاد الخواجة.

الخواجة والسِتّ يسلّمون عليك سلامٍ كثير مكيّفين.

الفقع اللي عطيته الخواجة نطبخ منه، لقيناه أحسن أكل. حنا ناخذ خمسين يوم ونتوجّه لمصر إن شاء الله. والخواجة متوصٍّ بي مع البَرّ والبحر. تأريخه ثمانية من فطر أوّل

رسالة موهق العتيبي

كان المصدر الرئيسي لهيس هو موهق الغنّامي الذي ظل مقيماً في مصر، وقد دوّن قصة حياته في كتابه «Von den Beduinen» كما رواها له. كان موهق أيضاً شاعراً جيداً، وكان متمكناً من لهجات البدو وتعبيراتهم، ولديه إلمام بالعادات والتقاليد، والقصص والأساطير، وطبيعة الصحراء وتضاريسها، وأعراف البدو وأخلاقهم.

ويرى كوربرشوك أن عمل هيس تفوّق على ما قام به السويسريان ألبرت سوسين وجون لويس بوركهارت، وغيرهما من الرحّالة والمستشرقين؛ لأن نصوصه كانت أول نصوص للغة العربية البدوية في الجزيرة نفسها استناداً إلى مصادر شفوية، ولأن هيس استخدم منهجاً دقيقاً في ترجمته للنصوص؛ فالأبجدية العربية ليست ملائمة كوسيلة لتمثيل المتغيرات المنطوقة. لهذا السبب، يستخدم اللغويون الترجمة النصية بالأبجدية اللاتينية، مع إضافة بعض الرموز الخاصة. فكانت جودة تدويناته الصوتية لا تضاهَى في زمنه، ولمدة طويلة بعد ذلك.

ويشير كوربرشوك إلى أن هيس سجّل بعض الملاحظات على بطاقات المعلومات كمتخصص في علم المصريات، في حين كانت ملاحظاته حول اللهجة البدوية مليئة بالإشارات إلى العبرية، والأكادية، والأرامية، والآشورية، والبابلية، والتركية، والفارسية، والسنسكريتية، حتى الصينية، ناهيك عن اليونانية، واللاتينية، واللغات الأوروبية الحديثة. وبدا أنه مطلع على جميع الأعمال الأكاديمية والرحلات المتعلقة بالجزيرة العربية حتى نهاية الثلاثينات. حيثما لاحظ أخطاء أو أخطاء مطبعية في أعمال الآخرين، قام بتصحيحها إما في ملاحظاته المنشورة أو في بطاقاته. كان يعيش البحث العلمي كمؤسسة جماعية.

يضيف هيس في بطاقاته ملاحظة إذا كانت التعبيرات تستخدم في الشعر بدلاً من الكلام العام، وغالباً ما يتم تحديد مصادر غير موهق، وينسب الكلمات إلى قبائل محددة، وينبّه إذا كانت الكلمات مستخدمة من قبل الحاضرة. ويستخدم مجموعة من الاختصارات للإشارة إلى الباحثين الأوروبيين وأعمالهم في العربية الكلاسيكية. وفي أحيان كثيرة كان هيس يستعين بالرسومات لتوضيح الأوصاف. لقد أظهرت بعض الأوراق أن هيس كان قريباً من تحويل مجموعته إلى قاموس حقيقي، ولكن لا نعلم ما هي الأسباب التي جعلت هيس لا يكمل هذا المشروع الرائع، أو حتى يكتب خطته لتنفيذه النهائي. ولعلنا نتساءل بعد ذلك عما يمكن فعله لإنقاذ هذا القاموس وإخراجه من غياهب النسيان بعد مرور نحو مائة وعشرين عاماً على كتابته ليضيف مزيداً من الوعي والمعرفة حول ثقافتنا وتاريخنا، في ظل ما قام به كوربرشوك من جهد مشكور في رقمنة بطاقات هيس وترتيبها بشكل أبجدي تقريبي. ومن الجميل أن تهتم الجهات الثقافية العلمية في السعودية بهذا القاموس بالتعاون مع جامعة زيوريخ.

رسالة موهق الغنّامي

رسالة نادرة

 

وقبل أسابيع زوّدني الدكتور مارسيل كوربرشوك بنموذج يؤكد أهمية أرشيف هيس في جامعة زيوريخ الذي تحدثنا عنه، وهي رسالة نادرة ظريفة توثق رحلة مجهولة قام بها موهق الغنّامي من مصر إلى سويسرا لزيارة هيس الذي كان يعمل أستاذاً في جامعة زيوريخ، وهي رسالة وجّهها بعد وصوله إلى التاجر محمد العلي الذي كان يعمل لديه، وفيها يحكي بلهجته تفاصيل رحلته بالباخرة من الإسكندرية، ثم القطار حتى وصوله إلى سويسرا، مروراً بالنمسا وإيطاليا في ضيافة هيس. وعلى الرغم من أن موهق قد أرّخ رسالته باليوم والشهر «تأريخه ثمانية من فطر أوّل»؛ أي الثامن من شوّال، فإن السنة مجهولة، ويترجّح أن رحلته كانت بين سنة 1331هـ/1913م وسنة 1336هـ/1918م. وهذا نَص الخطاب كما فرّغه مارسيل كوربرشوك من النص المكتوب بالأحرف اللاتينية كتابةً صوتية.


مقالات ذات صلة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

ثقافة وفنون الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

الشعر حين يتحول إلى فعل مقاومة

يحتضن الشاعر المصري كريم عبد السلام، فلسطين، في ديوانه الذي وسمه باسمها «أكتب فلسطين - متجاهلاً ما بعد الحداثة»، ويكشف أقنعة المواقف والسياسات المتخاذلة.....

جمال القصاص
كتب أريك ماريا ريمارك

لا صوت يعلو على صوت القلب

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد

نجم والي
ثقافة وفنون «نداء القرنفل» لمصطفى موسى

«نداء القرنفل» لمصطفى موسى

صدر حديثاً عن دار «نوفل- هاشيت أنطوان» رواية «نداء القرنفل» للكاتب المصري مصطفى موسى، التي يطعّمها الكاتب بالأحداث السياسية من دون أن تحضر التواريخ بشكل مباشر.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق جذبت فعاليات المعرض وأنشطته الثرية والمتنوعة أكثر من مليون زائر (هيئة الأدب)

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

بحلول مساء يوم (السبت) انقضت الأيام العشرة من فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، وتم إسدال الستار على المعرض الذي انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ».

عمر البدوي (الرياض)
ثقافة وفنون جانب من توقيع اتفاقية ونشر عدد من الكتب الصينية للعربية بين «دار كلمات» وجامعة الدراسات الأجنبية ببكين (الشرق الأوسط)

اتفاقية لترجمة الثقافة الصينية ونشرها في الخليج

يشمل الاتفاق ترجمة الكتب الفلسفية والتاريخية التي تعنى بالجانبين الصيني والعربي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك
TT

لا صوت يعلو على صوت القلب

أريك ماريا ريمارك
أريك ماريا ريمارك

إحدى الروايات التي سحرتني منذ قراءاتي الأولى، والتي بالتأكيد شجعتني - ومن ضمن أعمال خالدة ألمانية أدبية أخرى - على دراسة الأدب الألماني في جامعة بغداد، قسم اللغات الأوروبية، في أواسط السبعينات، وربما هي وراء ذهابي إلى منفاي في ألمانيا. إنها رواية الألماني أريش ماريا ريمارك: «للحياة وقت... للموت وقت» (كما هو عنوان الأصل الألماني) أو «للحب وقت وللحياة وقت»، كما نقلها عن الفرنسية المصري سمير التنداوي، وصدرت عن «دار المعارف» المصرية بجزأين في بداية الستينات.

تدور أحداث الرواية في ربيع عام 1944، تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر، وقصف طائرات الحلفاء الغربيين للعاصمة الألمانية برلين عندئذ بالتوازي مع زحف الجيش الأحمر السوفياتي عليها، قبل سقوطها نهائياً في 8 مايو (أيار) 1945 وانتحار مدمر العالم هتلر قبلها بيومين أو بثلاثة أيام وربما أكثر!

الرواية تروي مغامرة الجندي أرنست غريبير، البالغ من العمر 23 عاماً، الذي يحصل على إجازة غير متوقعة قادماً من الجبهة الشرقية التي كان يقاتل عليها في الحرب العالمية الثانية في وحدة عسكرية تابعة للجيش السادس الألماني. الجندي الشاب غريبير الذي عاش للتو بنفسه هزيمة الجيش السادس على جبهة ستاليننغراد، ورأى الآلاف يموتون هناك، لم يكن يعلم أن عليه أن يعيش حطاماً آخر هذه المرة، حطام مدينته برلين، وكيف ترك قصف طائرات الحلفاء أثره البالغ في المدينة. بيوت محطمة وشوارع محفورة، وأسر مشردة تركت منازلها خوفاً من الموت تحت الأنقاض. حتى أسرته هو نفسه انتهى بها المطاف إلى الهروب من المدينة ومغادرتها إلى مكان مجهول. الجندي أرنست غريبير الذي سيبدأ بالدوران في المدينة مثل غريب، بحثاً عن مأوى أو عنوان لمعارف وأصدقاء له وللأسرة، لن يشعر بالفرحة، بالحياة، إلا بعد أن يلتقي مصادفة بإليزابيث، الفتاة التي انتهى أبوها «الشيوعي اليهودي» إلى معسكر للاعتقال النازي بسبب وشاية.

غلاف الرواية

كم من المصادفات يجب أن تحدث لكي تتشكل حياة إنسان في الاتجاه الذي تريده له الحياة!

أرنست غريبير وإليزابيت، كانا يسيران هائمين بلا هدف عبر حطام وخراب برلين، يتنقلان من مكان إلى آخر، كأنهما يبحثان عن مكان أو شيء لا يستطيعان منحه تعريفاً، وحين تتقاطع خطواتهما مصادفة، كان لا بد لهما أن يقعا في حب بعضهما البعض، وهي مسألة وقت ويقرران الزواج من بعضها البعض، كيف لا يفعلان ذلك، وقد وجد الاثنان السلوى ومعنى للحياة بوجودهما معاً، وهما اللذان تقاسما مائدة يأس واحدة؟ إنهما في مشروع زواجهما لا يفعلان شيئاً غير تلبية نداء القلب، يسيران هذه المرة باتجاه واحد، إلى هدف واحد، حيث يقودهما القلب.

تلك هي المفارقة التي تجعلنا الرواية نعيشها: قصف المدينة يتواصل، القائد المجنون الذي اسمه هتلر ما زال مصراً على تنفيذ جريمته حتى النفس الأخير، يرسل الأطفال في آخر الأيام إلى جبهات الحرب، الناس تهرب، ليس أمامهم غير الموت تحت الأنقاض. فقط هما الاثنان، أرنست غريبير وإليزابيت لا يريدان المغادرة. إلى أين؟ هكذا يطوف الاثنان عبر شوارع برلين وأحيائها، محصنين بحبهما، وهما يلبيان نداء الحواس لا غير، وحين يحل المساء، يبدآن بالبحث عن مأوى يمكنهما اللجوء إليه، النوم تحت سقف يحميهما تحت ظلمة الليل، ولا يهم ماذا يكون المكان، قبواً كان أم خرابة بيت. اثنان غريبان في مدينتهما، يكافحان في سبيل قضيتهما الخاصة بهما، قضية لها علاقة بشؤون القلب، وليس لها علاقة بالوضع العام: الحرب!

إنهما يعيشان في عالمين في الوقت نفسه: النضال في سبيل قضية حبهما من جهة (عندما يقرران الزواج والاحتفال بليلة العرس مع زجاجة شمبانيا!)، ومن الجهة الأخرى الحرب بكل ما تحمله من عبثية وموت وخراب، وحيث لا أحد يوضح مَنْ هو المسؤول عن كل هذا الدمار الذي لحق بألمانيا والألمان، مَنْ هو المذنب في الحرب المدمرة تلك؟ حتى البروفيسور العجوز بولمان (قام بتمثيل الدور في الفيلم المأخوذ عن الرواية أريش ريمارك نفسه)، الذي يعرفه أرنست غريبير منذ أيام المدرسة لا يقدم له أي جواب كعزاء. «الذنب»، يقول بولمان بصوت رقيق، «لا أحد يعرف، أين يبدأ الذنب وأين ينتهي. إذا شئت فإنه يبدأ في كل مكان وينتهي في اللامكان. لكن ربما الأمر هو أيضاً بالعكس. أما الشراكة في الجريمة، فلا أحد يعرف ماذا يعني ذلك؟ الله وحده»، وحين يسأله غريبير مرة أخرى إن كان عليه الالتحاق بالجبهة بعد انتهاء إجازته أم لا، ليكون بهذا الشكل هو أيضاً شريكاً بالجريمة؟ يجيبه العجوز الحكيم: «ماذا أقول لك؟ إنها مسؤولية كبيرة. لا أستطيع اتخاذ القرار لك»، وعندما يلح أرنست غريبير بالسؤال: «هل يجب على كل واحد أن يقرر لنفسه؟»، يجيبه بولمان: «أظن نعم. ماذا يكون غير ذلك؟».

لقد رأى أرنست غريبير وسمع الكثير، «المرء يُقتل من أجل لا شيء في الجبهة»، وهو يعرف الجرائم التي تنطوي عليها الحرب: «الكذب، القمع، الظلم، العنف. الحرب، وكيف نخوضها، مع معسكرات العبودية ومعسكرات الاعتقال والقتل الجماعي للمدنيين». وهو يعلم أيضاً «أن الحرب قد خُسرت»، وأنهم «سيستمرون في القتال فقط لكي تبقى الحكومة والحزب وكل أولئك الذين تسببوا في كل هذا، لكي يبقوا في السلطة لفترة أطول، لكي يكونوا قادرين على التسبب في المزيد من البؤس». مع كل هذه المعرفة، يتساءل عما إذا كان ينبغي عليه العودة إلى الجبهة بعد إجازته، وبالتالي ربما يصبح شريكاً في الجريمة. «إلى أي مدى أصبح متواطئاً عندما أعرف أن الحرب لم تُخسر فحسب، بل أيضاً يجب أن نخسرها حتى تتوقف العبودية والقتل ومعسكرات الاعتقال وقوات الأمن الخاصة وقوات الصاعقة وفرق القتل الخاصة والإبادة الجماعية واللاإنسانية، إذا كنت أعرف ذلك وأخرج مرة أخرى في غضون أسبوعين لمواصلة القتال من أجلها؟».

أي عمل في وقت الحرب غير معني بالحرب هو نوع من المقاومة. في عمل ريمارك، يصبح الحب كفعل إنساني بسيط بمثابة رمز تحدٍ لإحدى «جماليات المقاومة» ضد الديكتاتورية والحرب، لكي نستعير قول بيتر فايس، رائد ألماني آخر، اضطر أيضاً للذهاب إلى المنفى بعد استيلاء النازيين على السلطة. القلب أقدس من الوطن، من أي وطنية اخترعت فقط لإقناع الناس بإرسالهم إلى الحرب ونزف الدم من أجل القرارات التي يتخذها الأقوياء والمتسلطون. مَنْ منا لم يعرف ذلك وهو يقاوم العيش في بلاد وادي الخرابين أو في أي بلاد أخرى عاشت خرائب شبيهة لها؟

لقد مرت سبعون عاماً على صدور الرواية وثمانون عاماً على القصة التي ترويها، وعلى ما حدث من خراب طال مدن ألمانيا، وأولها العاصمة برلين. عندما كنت مراهقاً قرأت عدداً لا يُحصى من الروايات عن الحرب العالمية الثانية، لكن «للحياة وقت... وللموت وقت» وبطلها حفرا نفسيهما بشكل خاص في أعماق ذاكرتي. ربما يكون أرنست غريبير هو السبب الذي دفعني دون وعي إلى رفض الذهاب إلى الجبهة عندما اندلعت الحرب العراقية الإيرانية في 22 سبتمبر (أيلول)، وأنني تمردت على الذهاب إلى الجبهة وغادرت إلى المنفى، إلى ألمانيا بلد أرنست غريبير وأريك ريمارك؟

تدور أحداث «للحب وقت... للموت وقت» في ربيع عام 1944 تاريخ الانعطافة الحاسمة في مجرى الحرب العالمية الثانية وبداية تقهقر الجيوش النازية وهزيمة أدولف هتلر

النازيون عرفوا مبكراً قوة روايات أريش ريمارك. إحدى أولى الروايات التي رموها للنار في جريمة حرقهم للكتب في 10 مايو 1933، كانت الرواية الأولى لريمارك «كل شيء هادئ في الميدان الغربي»، رواية مضادة للحرب بامتياز، وكانت إلى ذلك الوقت «بيست سيلر» بيعت بالملايين. ليس من الغريب أيضاً أن يكون أيريش ماريا ريمارك هو أحد أوائل الكتّاب الألمان الذين غادروا ألمانيا مباشرة بعد تسلم هتلر للسلطة عام 1933.

ليس من الغريب إذن أنني أحببت هذه الرواية منذ قراءتي لها وأنا شاب يافع، كأنني كنت أعرف، أن بغداد ستعيش ذات يوم الدمار نفسه الذي عاشته برلين، كأنني كنت أعرف أن دماراً سيلحق بنا جميعاً أينما سنكون، كأنني كنت أعرف أن أجيالاً ستموت في الحروب، وأن أجيالاً أخرى ستأتي، تحلم بالحب، بالزواج، بالسعادة، لكنها ستموت بطلقة طائشة، بقذيفة دبابة أو مدفعية، بقصف طيران يلقي حممه على الجميع أو بصاروخ لا يفرق بين مبنى أو إنسان، بسقف بيت ينهد على الرؤوس ويطمر أسراً بأكملها، كأنني كنت أعرف، أنه لا حاجة لكتابة ما يكفي من روايات الحرب وتذكير أجيال قادمة بماذا تعنيه الحرب، ماذا يعنيه الخراب، كلا، لأن الناس سيعيشون كل ذلك بأنفسهم، بل كأنني كنت أعرف، أن لا أرضاً ولا زاوية في العالم إلا وتتحول إلى ساحة حرب، وأن لا مكان سينجي الناس من الموت تحت قذيفة سلاح مصنع في هذا البلد أو ذاك... وحين تنشب الحرب، أو حين تُطلق قذيفة أو طلقة أو صاروخ ويموت إنسان، ليس من المهم السؤال، طلقة مَنْ هي التي أُطلقت هناك، أو لأي هوية، لأي دين أو لأي قومية دُمغت بها أشلاء قتلى الحروب وصرعى الإطلاقات، كلا، ليس ذلك هو المهم، المهم هو ألا يُقتل إنسان، ومن يقول غير ذلك، ويتغنى منشداً مع العسكر، مدمرين العالم، «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، عليه التعلم من جندي المشاة العاشق أرنست غريبير وحبيبته العاشقة إليزابيت في رواية «للحياة وقت... وللموت وقت»، عليه التعلم: أن أكبر إنجاز إبداعي في أزمان الحرب هو البقاء على قيد الحياة، وأن لا مفر أمامنا، لكي نعيش حياتنا بسلام، من غير أن ننشد بصوت أعلى من كل صوت آخر: «لا صوت يعلو على صوت القلب وشؤونه» وكل ما عدا ذلك: هو خراب في خراب.