نسويات ينتصرن لزينب فواز صاحبة «أول رواية عربية»

مع إعادة نشر مؤلفها «غادة الزاهرة»

زينب فواز
زينب فواز
TT

نسويات ينتصرن لزينب فواز صاحبة «أول رواية عربية»

زينب فواز
زينب فواز

تعود الكاتبة زينب فواز إلى الواجهة، مع صدور طبعة جديدة من روايتها «غادة الزاهرة»، التي نشرت لأول مرة عام 1899 في القاهرة. وتحاول ناشطات نسويات إعادة الاعتبار لهذه الكاتبة اللبنانية - المصرية، بوصفها صاحبة أول رواية عربية، لأن حقها قد أهدر، في نظرهن، بسبب الذكورية والتمييز الجائرين، والإهمال المتعمّد.

وتم تتويج محمد حسين هيكل واعتبرت روايته «زينب» هي الرواية العربية الأولى، مع أنها صدرت متأخرة 15 عاماً عن «غادة الزاهرة». وبصرف النظر عن القيمة الأدبية لكل من الروايتين، وأيهما تحمل خصائص الرواية أكثر من الأخرى، فإن زينب فواز، إضافة إلى مكانتها الأدبية، رائدة في مجال المطالبة بحقوق المرأة قبل قاسم أمين وكتابه «تحرير المرأة»، وشغلت الساحة الأدبية في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وتتساءل فاطمة الخواجا، محققة رواية «غادة الزاهرة» في طبعتها الجديدة الصادرة عن «دار نلسن» في بيروت، كيف أمكن تجاهل ليس فقط زينب فواز، ودورها المحوري وغزارة إنتاجها، ومكانتها في زمنها؛ بل كوكبة من النساء العربيات اللواتي توّج بهن القرن التاسع عشر، حيث تمّ إغفال ذكرهن، رغم أنهن شاركن بقوة وبزخم، في حركة النهضة العربية؟

نفض الغبار عن الإرث الأدبي النسوي

ونتيجة لذلك، فإن غالبية القراء، يعرفون الحركة النسائية الأدبية بدءاً من خمسينات القرن الماضي، من أمثال نوال السعداوي وغادة السمان وليلي بعلبكي، والأكثر اطلاعاً فقط هم الذين سمعوا عن ملك حفني ناصف، وصفية زغلول، وعائشة تيمور، وأخريات ممن سبقوهن.

ولنفض الغبار عن هذا الإرث الأدبي النسائي، الذي لم يُعطَ حقه، تسعى «جمعية نساء ذوات ثقافة مزدوجة»، منذ نشأتها في 2003، إلى إعادة نشره وترجمته لتقديمه لجمهور القراء العرب والأجانب في قالب يساعد على فهم مضمون النص كما مرامي كل كاتبة، وأهدافها الإصلاحية.

وبعد أن دعمت وساهمت هذه الجمعية النسائية في إصدار رواية زينب فواز والعديد من الكاتبات الأخريات، خاصة المنسيات، لا تزال ترحب بتلقي اقتراحات وأعمال لباحثين متميزين، خاصة في مجالات الكتابة النسائية في القرن التاسع عشر، من أدب، وصحافة، وشعر، ومقالات قد تكون سقطت سهواً أو عمداً، وذلك لرفد المكتبة العربية بكل حقول المعرفة النسائية التي سادت في تلك الحقبة من الزمن.

الصحافية التي تصور بمقلتيها

واكتشفت محققة «غادة الزاهرة»، خلال بحثها عن زينب فواز، أنها ليست فقط شاعرة وأديبة، بل أيضاً ناشطة اجتماعية وصحافية من العيار الثقيل «تهاجم كرومر وتؤيد سعد زغلول، وتردّ على الكتّاب مصوبة نظرتهم إلى المرأة». وتعتبر المحققة أن زينب فواز كانت «سفيرة الصحافة النسائية إلى القصور الخديوية والبيوتات الأرستقراطية، تصور بمقلتيها أفراحهم وتخطّ بقلمها مقتنيات جهاز العروس لتنقله إلى القراء على صفحات المجلات».

«غادة الزاهرة» التي صدرت أول مرة عن «المطبعة الهندية» في القاهرة، في 231 صفحة، و37 فصلاً، حملت اسماً ثانياً هو «حسن العواقب»، وتوالى إصدارها، أثناء حياة الكاتبة، عدة مرات بسبب نفادها، وكان آخرها عام 1903. وهي طبعة يمكن العثور عليها اليوم في «دار الكتب والوثائق القومية» في القاهرة.

ومن حينها باتت الرواية تنفد وتختفي، ثم يأتي من يتذكرها ويعيد طباعتها، فقد أعاد إصدارها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» عام 1984 ضمن سلسلة «التراث العاملي»، حيث اعتبرت فوزية فواز، كاتبة مقدمة الطبعة، أن صاحبة «غادة الزاهرة» اقترن اسمها بأسماء الكبار الذين نبغوا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين».

كما أصدرت «الهيئة العامة للكتاب» طبعة أخرى، مصرية هذه المرة، عام 2013 ضمن سلسلة «رائدات الرواية العربية» كتب مقدمتها حلمي النمنم، وجاء على غلاف هذه الطبعة أنها «أول نص روائي عربي»، مما نسف ريادة محمد حسين هيكل وروايته «زينب» التي صدرت عام 1913، وأرخ بصدورها كبار النقاد لولادة أول رواية باللغة العربية، وتناولتها الأقلام طويلاً بالنقد والتشريح، والاهتمام، فيما لم تحظ رواية «غادة الزاهرة» بالعناية عينها.

وزينب فواز من قرية تبنين جنوب لبنان، من عائلة فقيرة. عملت لدى آل الأسعد، وكان علي بك الأسعد هو حاكم الإمارة، خلال الحكم العثماني. وعند آل الأسعد، وتحديداً عند زوجة الحاكم، تعلمت القراءة والكتابة، وتزوجت أحد أفراد الحاشية، ولكنها انفصلت عنه سريعاً. سافرت بعدها إلى دمشق وتزوجت ثانية وأيضاً طلقت، قبل أن تتعرف هناك على ضابط مصري، لتتزوج للمرة الثالثة، وتذهب معه إلى الإسكندرية؛ حيث درست الصرف والبيان والعروض على يد حسن حسني الطويراني صاحب جريدة «النيل»، كما درست على يد الشيخ محيي الدين النبهاني النحو والإنشاء، ثم ارتحلت إلى القاهرة. ورغم زيجاتها الثلاث لم ترزق بأولاد.

لقبت ﺑ«درة الشرق»، ونشرت مقالاتها في «النيل» و«الأهالي» و«المؤيد»، و«اللواء»، و«الفتى» وغيرها. ودعت إلى تعليم المرأة والإصلاح الاجتماعي، واعتُبرت من رائدات التيار النسوي، حيث قادت المعارك والمناظرات التي تدافع عن حقوق المرأة، وترفض كسر إرادتها، وفرض الحجاب عليها ومنعها من ممارسة دورها الاجتماعي، وقصر نشاطها على البقاء في المنزل. كما أنها طالبت مواطنيها بالتبرع للجزائر يوم تعرضت لأزمة اقتصادية كبرى، وهددتها المجاعة.

كتابة الواقع لا تخيله

وبالعودة إلى رواية «غادة الزاهرة» التي هي مثار جدل، فليست من نوع الروايات التي عرفناها مع تطور الحركة الروائية العربية، ولا يمكن أن تقارن بالصنف التخيلي أو الرومانسي، أو الذي يعكف على استقراء خفايا الدواخل الإنسانية، أو إبراز طوايا النفس وأسرارها، من خلال حركة الشخصيات.

وهذا بديهي، حين نتحدث عن الرواية الأولى، وهي قصة حقيقية تعرفها زينب فواز، وروتها ساردة أحداثها، خافية الأسماء والبلدان «حرصاً على شرف البيوت الكريمة التي دنّسها بعض أبنائها الذي هان لديه بذل شرفه في سبيل نوال شهرته». وتدور أحداث القصة في جنوب لبنان، أيام الحكم العثماني، في المكان الذي عاشت فيه زينب طفولتها ونشأت. أما الشخصيات فهم من أبناء تبنين وحكامها.

وفي مقدمة الرواية تشرح زينب فواز سبب عكوفها على كتابة هذا النوع الأدبي؛ لأن الرواية في رأيها «مرآة الأفكار، وتزول بلذتها غمام الهموم والأكدار، وتأخذ منها النفوس على قدر عقولها من الذكرى والاعتبار، وكان أجلّها قدراً وأسماها منزلة ومكاناً ما قرب من الواقع أو مثل حقيقة الوقائع».

«غادة الزاهرة» هي حكاية صراع مرير مليء بالشرّ، بين الأميرين تامر وشكيب على حكم منطقة جبل شامخ، وفيها من القيم الثقافية والاجتماعية الكثير ويظهر بقوة أثر تلك العلاقات والصراع الثقافي. وتعتبر الرواية بالنسبة للباحثين وثيقة أدبية وحتى شبه تاريخية، لفهم الحياة الاجتماعية، والعلاقات التي كانت سائدة في تلك الفترة في المنطقة.

ويلحظ القارئ أن الروائية عمدت إلى مزج حكايتها بالقصائد، بحيث أصبح الشعر جزءاً أصيلاً من نصها. ولا تتردد في جعل شخصياتها يجيب بعضها بعضاً شعراً، في شيء من المواءمة بين الأحداث والنبض الشعري للنص. هكذا يمتزج القصّ بالشعر، وكأنما يكمّل بعضهما بعضاً. وقد يعود ذلك لكونها شاعرة، أو لأنها أرادت أن تخلط نوعين أدبيين من باب التجريب، وكل هذا ممكن.

قصة الرواية

وفي الرواية نتابع حكاية أبناء العمومة شكيب وتامر. الأخير هو الأكبر سناً، وبالتالي تعود إليه الإمارة، لكنه لا يتحلى بالخلق ولا بحسن المعشر، فخطر لعمهم أن يوكل المهمة لشكيب؛ لأنه الأقدر عليها. لكن النتيجة البديهية، وتامر هو الأكبر والأحق عرفاً، وفي نفسه ما عرفناه عنه من شرّ وقدرة على حياكة الحيل وإيقاع الأذى، أنه سيبذل كل ما في وسعه ليمنع شكيب من بلوغ مراده، بأن يتآمر، ويدبّر الدسائس، ويشعل الحقد في القلوب عليه، ويكلّف من يستطيع لتنفيذ المؤامرات والتخلص من غريمه أي ابن عمه.

أما اللغة فهي وصفية، لكنها جزلة. فقد تمتعت أديبتنا بقوة في التعبير، وفصاحة وبيان، وقدرة على الانسياب في العبارة، وإن كان البعض يمكن أن يجد كتابة فواز قد أصبحت قديمة ويصعب فهمها أحياناً، إلا أنها لا تخلو من جمال.

من الظلم الحكم على رواية زينب فواز بمقارنتها بالروايات الحديثة المحترفة. إنما لا بد من الإشارة إلى أنها مع ذلك ترجمت إلى لغات أجنبية، ويستشهد بها من قبل المستشرقين عند التأريخ للرواية العربية. كما أن ثمة عناية خاصة بدورها في كتابة التراجم للنساء، وخاصة كتابها «الدرّ المنثور في طبقات ربّات الخدور» الذي أرخت فيه لـ256 امرأة. و«مدارك الكمال في تراجم الرجال»، وكتبت مسرحية هي «الهوى والوفاء» التي أعيدت طباعتها عدة مرات، و«كوروش ملك فارس» ومجموعة مقالات صدرت بعنوان «الرسائل الزينبية»، هذا عدا قصائدها وحسّها الشعري العالي.


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.