ناشرة مغربية تترجم قصص مصورة عن الاحتباس الحراري للعربية

معاذ زيادي وناشرته (الشرق الأوسط)
معاذ زيادي وناشرته (الشرق الأوسط)
TT

ناشرة مغربية تترجم قصص مصورة عن الاحتباس الحراري للعربية

معاذ زيادي وناشرته (الشرق الأوسط)
معاذ زيادي وناشرته (الشرق الأوسط)

لا يمكن وصف هذا العمل سوى بأنه مغامرة استدعت معجزة صغيرة لتتحقق. والمغامر هو معاذ زيادي وناشرته ليلى الشاوني. مهندس مغربي قرّر في لحظة حماسية أن يُترجم كتاباً فرنسياً ضخماً من نوع القصص المصورة، ومدافعة عن حقوق الإنسان تدير داراً للنشر في الدار البيضاء. ميزة الكتاب أنه للكبار واليافعين. يجمع بين العلم والأدب، ويشرح مشكلات الاحتباس الحراري بأسلوب المحاورات والقصص المصورة. وكانت الطبعة الفرنسية من كتاب «عالم غير منته» قد حققت رواجاً مدهشاً. وهو عمل مشترك بين مؤلفه جان مارك جانكوفيسي، المهندس والأستاذ الجامعي، وبين الرسام كريستوف بلان، «الشرق الأوسط» تواصلت مع معاذ زيادي فكان هذا الحوار:

* كيف تعرفت إلى عالم جانكوفيسي وبلان؟

- في بادئ الأمر كنت أعرف الكاتب جانكوفيسي من بعيد، ذلك أنني كنت أعمل مع مكتب استشاراته الهندسية في إطار مشاريع توكل إلى الشركات التي أعمل فيها. لكنني كنت أجهل الجانب الأدبي في شخصيته. وهو الجانب الذي أبرزه وبمهارة الرسام الفرنسي كريستوف بلان.

* لماذا أثار هذا الكتاب اهتمام آلاف القرّاء؟

- حال صدوره، أثارت هذه القصة المصورة ضجة كبيرة في فرنسا، ولقيت إقبالاً كبيراً من الشباب. بل إن بعض المعاهد والمؤسسات اقتنتها ووفّرتها لطلبتها وموظفيها لتحسيسهم بمشكلة موارد الطاقة والتقلبات المناخية. ومن جانبي، أعجبتني الطريقة التي اختارها الكاتب والرسام لإيصال الفكرة من خلال اعتمادهما على تقنية القصة المصورة (الكوميكس). لقد نجحا في تبسيط السيناريو عبر حوار بين شخصيتين: الكاتب الذي يلعب دور الخبير المتمكن، ثم الرسام الذي يلعب دور المتلقي الساذج، يأخذنا البطلان في رحلة معرفية متعددة المصادر، مليئة بروح الدعابة التي تخفي في طياتها موسوعة معرفية قيمة تفيد مختلف فئات القراء: القارئ الناشئ والشاب والكهل والمتقدم في السن، المتعلم والمثقف وقليل الحظ من الثقافة، كل واحد حسب حاجاته.

* كيف اهتديت للكتاب؟

- تعرفت عليه في إطار مناظرة نظمتها الشركة التي أعمل فيها. لقد أهدوا نسخاً منه لجميع رؤساء الأقسام. وقد أتممت قراءته في جلسة واحدة، فوجدت بين يدي عملاً علمياً جامعاً لكثير من المفاهيم المعرفية في مجلد واحد،وقد نجح بلان في وضع بصمة الرسم المناسب للمحتوى بمهارة عالية أعطت الكتاب نكهة خاصة.

* كيف جاءتك فكرة ترجمته إلى العربية؟

- قرأت في الصحف خبراً عن ترجمة الكتاب إلى الألمانية وترحيب الكاتب بتلك النسخة، ذلك أن الكتاب ينتقد السياسة الألمانية فيما يخص الطاقة. فكرت بنسخة عربية واتصلت بجانكوفيسي لأطرح عليه الفكرة، لا سيما أن معظم الطاقات الأحفورية المستغلة عالمياً تنتج في دول عربية، وقد بات من الضروري في ضوء موضوع الاحتباس الحراري وبدأ تلك الدول في تحويل اقتصادها إلى أفق جديدة أكثر استدامة،ومن جهة أخرى، فإن التركيبة السكانية للدول العربية تتشكل من نسبة عالية من الشباب. وتبعاً لذلك فإنها أكثر الديموغرافيات في العالم التي ينبغي أن تهتم بهذا الموضوع المستقبلي والمصيري بالنسبة لها. من جهته، رحب جانكوفيسي بالفكرة التي طرحتها عليه وقدمني إلى ناشره (دارجو) وشرعنا في العمل لإنجازه قبيل مؤتمر (الأطراف كوب 28) الذي نُظم في الإمارات العربية المتحدة في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.

غلاف كتاب «عالم غير منتهٍ» (الشرق الأوسط)

* هل أنت من متابعي كتب القصص المصورة بشكل خاص؟

- اكتشفت هذا الفن الأدبي منذ الصغر، بل كانت تلك أولى قراءاتي. كانت مكتبة الطفولة تحتوي على كتب جاءتنا من القاهرة وبيروت وبغداد، مثل قصص الشاطر حسن، وسلسلة «رائد» بساط الريح وغير ذلك. وقد يرجع الفضل في ذلك إلى والدتي التي كانت تقرأ لي القصص المصورة قبل منامي، وإلى والدي الكاتب والقاص المغربي أحمد زيادي الذي كان يشتري لي خلال أسفاره إلى المشرق العربي الكتب والمجلات العربية للأطفال. أذكر منها «المزمار»، و«مجلتي»، و«العربي الصغير» و«ماجد» و«سمير» وغيرها.

* لا شك أن قراءاتك منحتك لغة عربية سليمة؟

- كنت آنذاك تلميذاً في مدرسة ابتدائية فرنسية في الدار البيضاء تابعة للتعليم الخاص الكاثوليكي، وكان جلّ زملائي فيها يقرأون القصص المصورة بالفرنسية ويجهلون عالم القراءة الذي كنت أنتمي إليه جهلاً باتاً. كنت أعيش غريباً في ذلك الوسط، وقراءاتي هي همزة وصل لي مع أطفال افتراضيين من سني، في العراق ولبنان ومصر والأردن. كنا نتراسل ونتبادل المعلومات الجغرافية والطوابع البريدية. وقد أسهمت تلك الكتب والمجلات في تمتين معرفتي للغة العربية وآدابها. ولما كبرت قرأت المنفلوطي، والحكيم، ومحفوظ، وتعرّفت على الأدب الفرنسي في المدرسة الثانوية، ومن ثَمّ الأدب الإسباني. أما القصص المصورة فقد اكتشفتها في المرحلة الجامعية ولم تكن للصغار بل للبالغين. وفي تلك الفترة كانت العربية غائبة عن هذا الصنف الأدبي، لأن الفكرة الشائعة أنه صنف للصغار. هذا مع العلم أن كثيراً من موضوعات القصص المصورة الصادرة بالفرنسية أو الإنجليزية تهمّ العالم العربي، وقد أنجز قسماً منها كتّابٌ ورسامون عرب، أذكر مثلاً «البيانو الشرقي» للبنانية زينة أبي راشد، أو «عربي المستقبل» الذي صدر في ستة أسفار للسوري رياض سطوف، أو «حشومة» للمغربية زينب فاسيكي.

* أليس من الغريب أن يخوض مهندس تجربة الترجمة؟

- بالتأكيد نظرة المهندس هي التي جلبت الاهتمام إلى الموضوع، وأيضاً لأنني كنت في الآونة الأخيرة، في إطار عملي الوظيفي، بصدد إنجاز مخطّط التنمية المستدامة في مجال تصميم وإنشاء المراكز التجارية في أوروبا. وعندما بدأت في النظر إلى ما كانت تتسبب فيه تلك المشروعات في الزيادة من حدة انبعاثات الغازات الدفيئة، شعرت بالمسؤولية التي يجب أن يتحلّى بها المهندس الذي لا تقتصر مهمته على إيجاد حلول علمية للمشاريع التي يُنجزها، بل عليها أن تكون أيضاً صديقة للبيئة. ومن هنا فإن ترجمة هذا الكتاب لتوفيره في لغة يتكلم بها عشرات الملايين من القراء تدخل أيضاً في إطار هذه المسؤولية المهنية للمهندس.

* أرى أنك تعدّ هذا الكتاب من النوع الأدبي رغم أنه يتناول قضية علمية؟

- أعتقد أن الأدب يلعب دوراً كبيراً في إيصال الأفكار العلمية. وأكبر دليل على ذلك كتابات جانكوفيسي نفسه. لقد نشر كتباً علمية تقليدية عدّة، لكن القصة المصورة هي التي تصدّرت مبيعات كتبه ومبيعات الكتب في فرنسا. فالأدب يمتاز بخاصية الخيال والتصور والإبداع، ويُساعد العلم لاكتشاف مشروعات يحقّقها في المستقبل. ومن الأمثلة على ذلك رواية توفيق الحكيم «رحلة إلى الغد» التي أصدرها عام 1957 مستبقاً فيها وصول الإنسان إلى القمر عام 1969، فلولا الأدب ما وصل العلم.

* ألم تكن ضخامة الكتاب عقبة في وجه الترجمة؟

- كان التحدي الأكبر هو إيجاد ناشر في الوطن العربي يقبل المجازفة بشراء الحقوق من الناشر الفرنسي، وتحمّل تكلفة الترجمة والرسم. فكثير من الرسومات والأشكال الموجودة في الكتاب قد عُرّبت. وهناك مشكلات الطبع والتوزيع لكتاب من 200 صفحة من القطع الكبير وبالألوان. لكل تلك الأسباب كادت المغامرة أن تنتهي بالإحباط. ثم حدثت المعجزة الصغيرة عندما التقيت بالسيدة ليلى الشاوني، مديرة دار «الفنك» المغربية، وهي مناضلة وناشطة حقوقية داعمة لحقوق المرأة والحرية. فقد رحبت بالفكرة، ورأت أن تغيرات المناخ من القضايا التي ينبغي النضال من أجلها، وأن نشر النسخة العربية يدخل في إطار الالتزام الذي لا بدّ أن يتحلّى به الناشر المسؤول.

* هل كان من اليسير ترجمة لغة الحوارات العلمية؟

- أسهمت قراءاتي الطفولية للقصص المصورة في منحي حيوية مكّنتني من إنجاز حوارات بسيطة في متناول شريحة واسعة من القراء على اختلاف أعمارهم. ذلك أن المعلومات المتوفرة مفيدة للقارئ العربي البالغ بصرف النظر عن توجهاته المهنية وميوله. ثم إن الأسلوب البسيط والدّعابات والرسومات تجعله يسافر بحنين إلى مرحلة طفولته. وبالنسبة للناشئة فإنهم سيجدون في الكتاب تبسيطاً يسمح لهم بفهم المحتوى والمشاركة أيضاً في صياغة آرائهم في موضوع مؤثر على السياسة والاقتصاد، ويرقى بهم سريعاً إلى سن المسؤولية. لقد حاولت تجنّب استعمال الهوامش، وحاولت جاهداً ألا أُترجم المعنى بتغيير القالب، على عكس النسخة الأميركية التي غُيّرت فيها النصوص والطرائف والمعطيات التاريخية لتقريبها من واقع القارئ الأميركي.

* هل أنت متفائل بوصول هذا الجهد إلى فئة واسعة من القراء؟

- الكتاب موجّه للجميع. وكما تقول العبارة الفرنسية الشهيرة: «من عمر سبع سنوات إلى سبع وسبعين سنة». وهو يشكّل قراءة عائلية ويصلح مرجعاً في المدارس والجامعات وأيضاً في الإدارات والشركات. لقد سهّلت النُّسخة الفرنسية الحديث عن موضوعات موارد الطاقة والتقلبات المناخية، وكانت محفزاً على طرحها للنقاش، وتبادل الآراء، واتخاذ المواقف التي من شأنها الحد من ويلات انبعاثات الغازات الدفيئة والاحتباس الحراري. فالمواطن هو أولاً مستهلك، وفي يديه حل لمشكلة عالمية. وهذا الكتاب يبيّن كيف يسهم الفرد في إيجاد حلّ يساعد البشرية على أن تنعم بغدٍ أفضل.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».