نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»

«القراءة بالأذنين» توازي «القراءة بالعينين»

نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»
TT

نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»

نمو قياسي لـ«الكتاب الصوتي» بفضل «الذكاء الاصطناعي»

تتطور المنتجات الصوتية بشكل غير مسبوق، بفضل الذكاء الاصطناعي، الذي بات يوفّر آلياً ساعات من النصوص المسموعة، بكلفة منخفضة. وهو ما سمح، في السنوات الخمس الأخيرة، بتسريع إنتاج الكتب الصوتية بأعداد كبيرة وجودة عالية.

تدل الأرقام على أن الكتب الصوتية الرقمية هي أسرع القطاعات نمواً. ففي عام 2023، ارتفعت إيراداتها في الولايات المتحدة بنسبة 9 في المائة، وحققت 2 مليار دولار. فيما ارتفعت الإيرادات بما نسبته 24 في المائة خلال الفترة نفسها في بريطانيا، وهذا يحصى من خلال عمليات تنزيل الكتب، التي ارتفعت في المملكة المتحدة بنسبة 17 في المائة، بين عامي 2022 و2023.

يبقى أن رصد نمو الكتب الصوتية العربية أكثر صعوبة، لكن القيمين عليها يؤكدون أن الإقبال يتزايد، لكن الغالبية الساحقة تستفيد من الكتب المجانية والمقرصنة، التي تنتشر كالنار في الهشيم، مما يجعل فهم مدى الإقبال أكثر صعوبة. وهي مشكلة تطول المنتجات الرقمية الصوتية، لا سيما الكتب في مختلف اللغات، مما يعيد أزمة حقوق المؤلف إلى نقطة الصفر، مضافاً إليها هذه المرة حقوق الناشر، الذي يرى كتابه الذي صرف عليه أمواله، يوزَّع صوتياً، بعد أن كان يُقرصَن إلكترونياً وورقياً، دون أي اعتبار. كما أن شكوى الناشرين تتصاعد؛ بسبب عدم شفافية المنصات التي لا سبيل للتأكد من حساباتها، أو مراقبة عدد مرات التنزيل عليها.

الترويج على قدم وساق

وتقدّر منصة «سبوتيفاي» أن نمو صناعة الكتب الصوتية يمكن احتسابه بـ20 في المائة سنوياً بدءاً من سنة 2022. لكن الظاهرة ليس متروكة للظروف. فهناك عمل حثيث على الترويج للكتب الصوتية بلغات أجنبية عديدة، من خلال إقناع القارئ بأنها وسيلة أخرى للمعرفة من خلال القراءة بالأذنين، التي لا تختلف كثيراً في فائدتها، عن القراءة بالعينين.

ويستعان من أجل دعم هذه الأفكار بدراسات متتالية تظهر جدوى أن تستمع للكتب إن كنت لا تقرأها، أو أن تقوم بالأمرين معاً. فثمة دراسة نشرت مؤخراً تبين أن الاستماع لا يقل أهمية وتأثيراً على الشخص من القراءة نفسها. وثمة ترويج للكتب الصوتية، من خلال دراسات أخرى حول العلاقة الجدلية بين الاستماع للكتب وتحفيز بعض السلوكيات. ثمة دراسة بينت أن الاستماع لكتاب يعين على النوم، والاستغراق السريع، مع توصية باعتماد السير الذاتية، والقصص البوليسية حين لا تكون عنيفة، باعتبارها من بين الأفضل لجلب النعاس. ولتسويق أكبر تربط إعلانات بعض المنصات الأميركية، وبينها «أوديبل»، بين رياضة الركض والاستماع إلى نصوص الكتب المقروءة، وكذلك اقترحت المنصة عناوين معينة، اعتبرت أنها تحفّز على النشاط وتزيد من متعة الذين يمارسون هذا النوع من الرياضة.

أساليب تسويقية تتزامن مع ظهور دراسات تدعمها وتمنحها المصداقية، علماً بأنه من الصعب معرفة مدى دقة المعلومات في كل مرة، أو جدّية هذه الدراسات.

كل هذا يأتي بعد أن أصبح إنتاج الكتاب الصوتي متاحاً بسرعة مذهلة، بفضل الذكاء الاصطناعي التوليدي. وإن كانت الشركات المنتجة لا تتحدث بصراحة ووضوح عن استغلالها لبيانات أصوات موجودة لديها لإنتاج كتب جديدة، فمن المرجّح، حسب التقديرات، أن آلاف الكتب أصبحت موجودة، في الأسواق عبر استخدام الذكاء الاصطناعي، باستغلال أصوات بشرية دون أن يُدفَع لأصحابها أي مقابل.

ومؤخراً أعلنت «أمازون» عن وجود 40 ألف كتاب صوتي على منصتها «أوديبل» المتخصصة بالبودكاست والكتب الصوتية، التي تم إنتاجها بواسطة الذكاء الاصطناعي.

وقد أطلقت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 خدمة تتيح للكتّاب نشر أعمالهم صوتياً، عبر الذكاء الاصطناعي. وهو ما سمح لكثير من المؤلفين تحويل كتبهم إلى صيغة جديدة بتكلفة وجهد مغريين.

وكان تسجيل الكتاب يحتاج لأيام وأسابيع وجهود كبيرة، وتكاليف عالية، إذا ما لجأ الكاتب لمن يقوم عنه بهذه المهمة. أما اليوم، فيتحدث المؤلفون الذين قاموا بتسجيل كتبهم عبر القراءة الآلية، عن حاجتهم إلى ساعة واحدة فقط لإتمام المهمة. وتقدم «أمازون» للمؤلف 40 في المائة من مدخول ما تسوقه، وإن كان بعض المؤلفين يشككون في صدقية تعاطي المنصات معهم، نظراً للمداخيل المتواضعة التي يجنونها.

انخفاض بالتكاليف والجهد

وبفضل الذكاء الاصطناعي أمكن خفض تكلفة إنتاج كتاب صوتي من 2500 دولار إلى 400 دولار تقريباً.

وقبل «أمازون» بأشهر كانت «غوغل» قد أعلنت عن الخدمة نفسها، عارضة عشرات الأصوات، بعدة لغات؛ بحيث أصبح بإمكان المؤلف أن يستخدم أكثر من صوت، وباللغة التي يختارها. وهذه التقنيات التوليدية، أتاحت إنتاج عشرات آلاف الكتب المسموعة، التي تسوّق ويروّج لها، وتجد بشكل متزايد طلباً عليها، خاصة بين الشباب الذين هم دون الـ35 من العمر.

ورغم التطمينات التي تنشرها المنصات، مؤكدة أن هذه الخدمة السحرية ليست موجودة لتحل مكان المؤدين المحترفين، أو تستغني عن القراءة البشرية التي تبقى مهمة وأساسية، وإنما هي تسعى فقط لتوسيع الإمكانات، ولا تريد للآلة أن تحل محل الإنسان، إلا أن الاعتراضات تتسع بين محترفي الأداء الصوتي.

محترفو الصوت في خطر

هذه التبريرات باتت تتكرر باستمرار، لكنها لا تُطمْئن أصحاب المهن المتضررة، مثل الممثلين ودور النشر وأصحاب استوديوهات الإنتاج. بل على العكس، تتعالى اعتراضات هؤلاء، ويعتبرون أن الذكاء الاصطناعي إنما ينطق بأصوات سبق لهذه المنصات أن استخدمتها لأناس من لحم ودم، وها هي تستفيد مما لديها من بيانات. ويكفي أن يتم التلاعب قليلاً بالصوت، عند إعادة استخدامه كي يتم التمويه، ولا تطلب موافقة من صاحبه الأصلي أو يتقاضى أجراً. وبات بالإمكان مزج عدة أصوات آلياً للحصول على صوت جديد، مختلف عنها جميعاً. فالآلة لا يمكنها خلق صوت من العدم.

لكن تبقى لأصوات كبار المؤدين والنجوم أهمية معنوية في تسويق الكتب المسموعة، ورفع سعرها. وإذا كان الحصول على أصوات مشاهير أحياء، مكلف إلى حد يجعل شركات الإنتاج تفكّر تكراراً في الجدوى قبل التعاقد معهم، فمما لا يخطر على بال أن ثمة لجوءاً إلى إعادة استعمال أصوات المشاهير الموتى. وقد تم بالفعل التواصل مع ورثة نجوم للحصول على موافقتهم لاستخدام أصواتهم في الذكاء الاصطناعي التوليدي، ليس لقراءة الكتب فقط، بل لأغراض قد تكون إعلانية أو تعليقات وما أشبه. فإعادة استخدام الصوت المسجل يتساوى فيه الأحياء كما الأموات، فلمَ لا يكون اللجوء إلى صوت، يأنسه المستمع وقد ألف بحّته، بأقل تكلفة ممكنة.

توظيف أصوات الموتى

لا تزال الأصوات المعروفة ذات النبرة المألوفة قادرة على اجتذاب المستمعين، كما أن الصوت البشري أقوى تأثيراً وحيوية واحترافية من الصوت المعالج رقمياً. لهذا حين يكون تسجيل كتاب مأمون الربح، لا تبخل المنصات في السخاء، حتى ولو كبرت التكاليف؛ لأن كتاباً «بست سيلر» بصوت أحد المشاهير، على منصة معروفة قد يتحول إلى مصيدة لاجتذاب القراء المستمعين، ليطّلعوا على مزيد من الكتب ويكتشفوا الرغبة في تنزيلها.

فبدءاً من العام المقبل، سيكون في متناول المستمعين المجلدات الـ7 من سلسلة هاري بوتر يؤديها 100 ممثل بأصواتهم. وهذا إنتاج ضخم ومكلف، يستغرق وقتاً وجهداً، ويحتاج لتنفيذه تقنيات عالية، من أجل ضمان إصدار مميز يستحق دفع مقابله للاستماع إليه.

بات بالإمكان مزج عدة أصوات آلياً للحصول على صوت جديد، مختلف عنها جميعاً. فالآلة لا يمكنها خلق صوت من العدم.

هاري بوتر بصوت 100 فنان

وقد ترددت الكاتبة جي كي رولينغ طويلاً قبل إعطاء موافقتها على هذا المشروع، نظراً لأن كتبها متوفرة صوتياً، مقرصنة ومنتشرة على نطاق واسع، بالمجان وكذلك على المنصات. كان لا بد من عرض مميز جداً، كي يستحق الجهد المبذول من أجله.

مما يؤسف له أن من فاتتهم متعة القراءة من العرب لا يبدو أنهم يحاولون تعويض النقص المعرفي لديهم، باللجوء إلى الاستماع. فالكتاب الصوتي لا يُروَّج له بالقدر الكافي، ويبدو غائباً عن الساحة، مع أن ثمة من وجد فيه حلاً لنقص الوقت، أو متعة أثناء القيام ببعض النشاطات، وهؤلاء لا يزالون قلة. بعض الهيئات الرسمية قامت بجهد في هذا المجال، غير أن باقي التسجيلات المتوافرة، في كثير منها، تتم على أيدي هواة، وتفتقد للقراءة السليمة، أو النبرة الجذابة، وربما الصوت الجميل والوضوح الكافي. أكثر من ذلك، نحن بحاجة لرصد سلوك المستمعين الفعليين، لمعرفة أعدادهم، ومتطلباتهم، خصوصاً أن غالبيتهم يعتمدون تسجيلات مقرصنة، يتم تبادلها على مجموعات خاصة من وسائل التواصل الاجتماعي.


مقالات ذات صلة

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

كتب خالد السلطاني

حداثةٌ وما بعد حداثة من بوّابة العمارة

لا يمكنُ للمشتغل في تاريخ الثقافة وفلسفات الحداثة وما بعد الحداثة في عالمنا العربي إلّا أن يدقق كثيراً وطويلاً في الحقيقة التالية....

لطفية الدليمي
كتب غلاف كتاب «نحو تفكير كردي جديد»

«نحو تفكير كردي جديد»

صدر حديثاً عن «دار الزمان» كتاب جديد للباحث الكردي السوري حواس محمود بعنوان «نحو تفكير كردي جديد».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون هدى عمران

هدى عمران: أتسلى بمصير شخصياتي عبر لعبة ذكية مع القارئ

تُولي الشاعرة والكاتبة المصرية هدى عمران شغفاً لافتاً بالمغامرة الفنية، والانفتاح على التجريب كلعبة تُعيد بها تشكيل الحكاية، واستكشاف عالمها الشعوري

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

إريش كستنر يطرح سؤال الأخلاق بين الحربين العالميتين

تُعيد ترجمة عربية لرواية «فابيان - قصة رجل أخلاقي» للكاتب والروائي الألماني إريش كستنر (1899 – 1974) تأمل الهُوة السحيقة في ألمانيا خلال الفترة بين الحربين العا

منى أبو النصر
ثقافة وفنون إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

إعادة نشر أول رواية مكتوبة باللغة الكرديّة

صدرت حديثاً عن «منشورات رامينا» في لندن، بالتعاون مع «وكالة حرف» في الرياض، طبعة جديدة لرواية «السيّدة خاتي» للكاتب الكرديّ علي عبد الرحمن بترجمة قادر عكيد.

«الشرق الأوسط» (لندن)

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات
TT

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

نقرأ في بعض تفاصيل سيرة ويلارد غبس (Willard Gibbs)، الفيزيائي الأميركي الذي حقّق منجزات كبرى في حقل الفيزياء الإحصائية، وإليه يُعزى مفهوم «الإنتروبيا» (Entropy) ذائع الشهرة، أنّه سُئل - عندما كان أستاذاً للفيزياء في جامعة ييل الأميركية بدايات القرن العشرين - عن رأيه في تخفيض عدد دروس الرياضيات لصالح زيادة دروس اللغة؛ فأجاب غِبس باقتضاب مفرط: «الرياضيات لغة».

لا يكاد رأي غبس يختلف عن رأي كثيرين من المختصين بالفيزياء والرياضيات بشأن طبيعة الرياضيات؛ فهم يرونها لغة مثل باقي اللغات مع خصوصيتها المميزة في كينونتها الغارقة في الرمزية والقواعد المنطقية الصارمة؛ هذا أولاً، وثانياً تمثل الرياضيات لغة عالمية لم تبلغها أي لغة متداولة، وربما في هذا الشأن تتماثل الرياضيات مع الموسيقى، وثمة من يراها «موسيقى كونية مكثفة». حتى الفوضى (Chaos) محكومة بقانون رياضياتي!!

الرياضيات في جوهرها أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، وهي إحدى الخصائص اللصيقة بكلّ مجتمع متقدّم تقنياً في وقتنا الحاضر. كلّ مجتمع متقدّم من هذه المجتمعات لا بدّ أن تكون له «مدرسته الخاصة في التفكير الرياضياتي»، تماماً مثل حقول الأدب والموسيقى والتقنية والعمارة. يبدو هذا الأمر أقرب لقانون حتمي؛ لذا كانت دراسة الرياضيات من كلّ أوجهها (التعليمية والفلسفية والتطبيقية) ضرورة لازمة.

حتى نفهم أهمية الرياضيات بعيداً عن الأمثلة التقليدية السائدة سأقدّمُ شاهدة واحدة نعيشها ونختبرها كل آن. لو دققنا في طبيعة التقنيات عبر العصور لرأينا زيادة نسبة العنصر الرمزي في هذه التقنيات مع الزمن. يمكن القول إنّ مركز الاهتمام والتطوير التقني صار يبتعد عن المشخصات المادية الصلبة ويقترب من التشكيلات الرمزية المعقّدة. الهندسة (Engineering) مثلاً: كانت الهندسة المدنية بكلّ تفريعاتها (الهندسة الإنشائية وهندسة السدود والطرق والهندسة الجيوتقنية وهندسة الموارد المائية) هي اللون الطاغي على الهندسة في القرن التاسع عشر، ثم انحرف الاهتمام الأكبر نحو الهندسة الكهربائية في النصف الأول من القرن العشرين. أما مع بدايات الألفية الثالثة وما بعدها، فقد صار الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة والروبوتات وتعلّم الآلة هي العناوين الكبيرة للهندسات السائدة؛ تعليماً جامعياً، وتطبيقات صناعية، واستثمارات مليارية تنفق عليها الدول الكبرى بسخاء، وترى فيها بعض مفاتيح تفوقها الجيوستراتيجي. وليس خافياً أنّ هذه الهندسات تتأسس على أنماط خاصة من الرياضيات جوهرها البرمجيات والخوارزميات. هذه بعض الأسباب التي تدفع اليوم حكومات العالم المتقدّم لمراجعة خططها التعليمية، فيما يخص الرياضيات على كل المستويات (ما قبل الجامعية والجامعية والدراسات العليا وحتى مرحلة ما بعد الدكتوراه)؛ لأنّ أي نكوص أو تخلف ستترتب عليهما أثمانٌ باهظة التكاليف.

يتطلب الاهتمام بالرياضيات ترغيباً بدراستها من قبل الحكومات، ومن بعض جوانب هذا الترغيب نشرُ كتب تعريفية بالرياضيات، بعيداً عن الطريقة البيداغوجية (التلقينية) المدرسية الرتيبة التي دفعت كثيرين من الطلبة إلى تطوير رؤية غير محببة تجاه الرياضيات، واعتبارها مادة صارمة لا تقبل سوى الإجابات اليقينية الصارمة (صح أم خطأ) بعيداً عن روح المغامرة والاستكشاف. أحد هذه الكتب التي تخدم هذا الغرض بكيفية ممتازة هو الكتاب الذي ألّفته إيوجينيا تشينغ (Eugenia Cheng) ونشرته أواخر عام 2023، الكتاب بعنوان: «هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات» (Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths).

الأستاذة إيوجينيا تشينغ بروفيسورة رياضيات بريطانية مولودة في هونغ كونغ عام 1976، معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليمية، فضلاً عن كونها عازفة بيانو في الحفلات الموسيقية، وهي تقود جهوداً عالميةً لمكافحة الخوف من الرياضيات، كما تكرّس جزءاً كبيراً من جهودها لتعليم الرياضيات لغير المختصين بها. لها كتب عديدة حول طبيعة الرياضيات وتعليمها وفلسفتها.

تؤكّد المؤلفة في مقدمتها للكتاب أنّ كتابها هذا ليس كتاباً عن تقنية رياضياتية أو تاريخ الرياضيات؛ بل هو عن المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات. تمضي في توضيح مشاعرها الشخصية فتكتب أنها حزينةٌ حقاً، لأنّ الرياضيات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريباً منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم «شعب الرياضيات» (Math People)، وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينية ثابتة بأنّ أعضاءه سيئون في الرياضيات. يجب علينا في هذا الموضع ألا نتناسى حقيقة جوهرية: القليلُ - والقليل للغاية فحسب - من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفها بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشرية غالباً ما تقعُ في نطاق طيف مستمر (Continuum)، لكنّ الشيء الأكثر أهمية فيما يخصُّ قدراتنا البشرية هو أنّ كل قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريباً جاداً بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع المرء منّا ندوبَ ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسية المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبلية تجاه أي حقل معرفي وليس الرياضيات فحسب. تكتب المؤلفة في هذا الشأن:

«من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليمية المتواترة أنني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة، فإنّهم أغلب الأحيان كانوا يتقافزون بهجة وفرحاً وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيات إلا في سنوات لاحقة. المعضلة الأساسية، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيات إلى الدارسين. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليمية للرياضيات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيات وزرع حبها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليمية منها».

المنظومة التعليمية تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضلية التعليمية على أساس قياس النتائج المتحققة من الفاعلية التعليمية كلها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العملية التعليمية أناساً يخافون الرياضيات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيات القواعد المنطقية والكمّية في العالم الواقعي.

إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيئاً في الرياضيات - وكأن الطبيعة أرادته أن يكون سيئاً بطريقة قصدية مسبقة - هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوق الرياضياتي إلى الطبيعة بصورة كسولة، وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلبه التفوق في الرياضيات. تعلّم الرياضيات يتطلب زمناً وجَلَداً ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدياً مقروناً بحس المغامرة، ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلاً من حس الخذلان وفقدان رغبة الاستمرارية وبهجة التعلّم. المقاربة التعليمية المفتقدة لحس البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيات ستكون سبباً كافياً لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقف عن دراسة الرياضيات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليمية اعتبارُ هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذراً يجعلونه سبباً لعدم مراجعة سياساتهم التعليمية والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونةً وإبداعاً، وكذلك لتصميم مقاربات تعليمية من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيات بسبب سياسات التعليم المنفّرة.

بعد مقدمتها المسهبة للكتاب التي تحكي فيها المؤلفة عن جوانب من سيرتها الذاتية مع الرياضيات (حبها ونفورها ثم عودة حبها للرياضيات خلال أطوار مختلفة من مسيرتها التعليمية، مساعدة أمها لها في جعل الرياضيات موضوعاً محبباً، جوانب من دراستها الدكتوراه، كيف ساعدتها الرياضيات في عشق الموسيقى والفن بعامة) تمضي المؤلفة في متون كتابها الذي وضعته في ثمانية فصول: الفصول الأربعة جعلتها تنقيبات مفاهيمية وفلسفية في أسئلة قد تبدو ساذجة لكنها ذات طبيعة وجودية تأصيلية عميقة: من أين تأتي الرياضيات؟ لماذا تنجح الرياضيات في عملها؟ لماذا نمارس الرياضيات؟ ما الذي يجعل الرياضيات ممارسة مفيدة؟ بعد هذه الفصول التأسيسية للفلسفة الرياضياتية تقدّم المؤلفة أربعة فصول إضافية تتناول تفاصيل إضافية منها على سبيل المثال فصل تقدّمُ فيه حكايات رياضياتية، وهو فصل أجده عظيم الأهمية في تعشيق الحقول المعرفية بالممارسة السردية التي تُعدُّ خصيصةً جوهريةً للإنسان كيفما كان ولعه المعرفي واشتغاله المهني.

تؤكّد المؤلفة كخلاصة جوهرية لكتابها:

«إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقاً عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة، وهم يتعلّمون الرياضيات لأوّل مرة في حياتهم، تستحيلُ خوفاً ونفوراً من الرياضيات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقةٌ واحدةٌ أراها بكل الوضوح ولن أجادل أبداً بشأن مصداقيتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة (أنا سيئ في الرياضيات) فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيات، بل لأنّ تعليم الرياضيات لم ينجح في جعلك تتحسس جمال الرياضيات وعظمتها، وقبل هذا أهميتها العملية في عالمنا المعاصر».

هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات

Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths

المؤلفة: إيوجينيا تشينغ

Eugenia Cheng

الناشر: Basic Books

عدد الصفحات: 336

تاريخ النشر: 2023