المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

أسئلة بسيطة تكشف لنا أعمق أسرارها

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات
TT

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات

نقرأ في بعض تفاصيل سيرة ويلارد غبس (Willard Gibbs)، الفيزيائي الأميركي الذي حقّق منجزات كبرى في حقل الفيزياء الإحصائية، وإليه يُعزى مفهوم «الإنتروبيا» (Entropy) ذائع الشهرة، أنّه سُئل - عندما كان أستاذاً للفيزياء في جامعة ييل الأميركية بدايات القرن العشرين - عن رأيه في تخفيض عدد دروس الرياضيات لصالح زيادة دروس اللغة؛ فأجاب غِبس باقتضاب مفرط: «الرياضيات لغة».

لا يكاد رأي غبس يختلف عن رأي كثيرين من المختصين بالفيزياء والرياضيات بشأن طبيعة الرياضيات؛ فهم يرونها لغة مثل باقي اللغات مع خصوصيتها المميزة في كينونتها الغارقة في الرمزية والقواعد المنطقية الصارمة؛ هذا أولاً، وثانياً تمثل الرياضيات لغة عالمية لم تبلغها أي لغة متداولة، وربما في هذا الشأن تتماثل الرياضيات مع الموسيقى، وثمة من يراها «موسيقى كونية مكثفة». حتى الفوضى (Chaos) محكومة بقانون رياضياتي!!

الرياضيات في جوهرها أحد المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان، وهي إحدى الخصائص اللصيقة بكلّ مجتمع متقدّم تقنياً في وقتنا الحاضر. كلّ مجتمع متقدّم من هذه المجتمعات لا بدّ أن تكون له «مدرسته الخاصة في التفكير الرياضياتي»، تماماً مثل حقول الأدب والموسيقى والتقنية والعمارة. يبدو هذا الأمر أقرب لقانون حتمي؛ لذا كانت دراسة الرياضيات من كلّ أوجهها (التعليمية والفلسفية والتطبيقية) ضرورة لازمة.

حتى نفهم أهمية الرياضيات بعيداً عن الأمثلة التقليدية السائدة سأقدّمُ شاهدة واحدة نعيشها ونختبرها كل آن. لو دققنا في طبيعة التقنيات عبر العصور لرأينا زيادة نسبة العنصر الرمزي في هذه التقنيات مع الزمن. يمكن القول إنّ مركز الاهتمام والتطوير التقني صار يبتعد عن المشخصات المادية الصلبة ويقترب من التشكيلات الرمزية المعقّدة. الهندسة (Engineering) مثلاً: كانت الهندسة المدنية بكلّ تفريعاتها (الهندسة الإنشائية وهندسة السدود والطرق والهندسة الجيوتقنية وهندسة الموارد المائية) هي اللون الطاغي على الهندسة في القرن التاسع عشر، ثم انحرف الاهتمام الأكبر نحو الهندسة الكهربائية في النصف الأول من القرن العشرين. أما مع بدايات الألفية الثالثة وما بعدها، فقد صار الذكاء الاصطناعي والبيانات الكبيرة والروبوتات وتعلّم الآلة هي العناوين الكبيرة للهندسات السائدة؛ تعليماً جامعياً، وتطبيقات صناعية، واستثمارات مليارية تنفق عليها الدول الكبرى بسخاء، وترى فيها بعض مفاتيح تفوقها الجيوستراتيجي. وليس خافياً أنّ هذه الهندسات تتأسس على أنماط خاصة من الرياضيات جوهرها البرمجيات والخوارزميات. هذه بعض الأسباب التي تدفع اليوم حكومات العالم المتقدّم لمراجعة خططها التعليمية، فيما يخص الرياضيات على كل المستويات (ما قبل الجامعية والجامعية والدراسات العليا وحتى مرحلة ما بعد الدكتوراه)؛ لأنّ أي نكوص أو تخلف ستترتب عليهما أثمانٌ باهظة التكاليف.

يتطلب الاهتمام بالرياضيات ترغيباً بدراستها من قبل الحكومات، ومن بعض جوانب هذا الترغيب نشرُ كتب تعريفية بالرياضيات، بعيداً عن الطريقة البيداغوجية (التلقينية) المدرسية الرتيبة التي دفعت كثيرين من الطلبة إلى تطوير رؤية غير محببة تجاه الرياضيات، واعتبارها مادة صارمة لا تقبل سوى الإجابات اليقينية الصارمة (صح أم خطأ) بعيداً عن روح المغامرة والاستكشاف. أحد هذه الكتب التي تخدم هذا الغرض بكيفية ممتازة هو الكتاب الذي ألّفته إيوجينيا تشينغ (Eugenia Cheng) ونشرته أواخر عام 2023، الكتاب بعنوان: «هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات» (Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths).

الأستاذة إيوجينيا تشينغ بروفيسورة رياضيات بريطانية مولودة في هونغ كونغ عام 1976، معروفٌ عنها اهتمامها بالسياسات التعليمية، فضلاً عن كونها عازفة بيانو في الحفلات الموسيقية، وهي تقود جهوداً عالميةً لمكافحة الخوف من الرياضيات، كما تكرّس جزءاً كبيراً من جهودها لتعليم الرياضيات لغير المختصين بها. لها كتب عديدة حول طبيعة الرياضيات وتعليمها وفلسفتها.

تؤكّد المؤلفة في مقدمتها للكتاب أنّ كتابها هذا ليس كتاباً عن تقنية رياضياتية أو تاريخ الرياضيات؛ بل هو عن المشاعر التي يمكن أن تترافق مع تعلّم الرياضيات. تمضي في توضيح مشاعرها الشخصية فتكتب أنها حزينةٌ حقاً، لأنّ الرياضيات موضوعٌ صار مبعث هذا القدر العظيم من الاستقطاب المتنافر: البعضُ يرى الموضوع قريباً منه إلى حدّ أن يسمّي أعضاء هذا البعض أنفسهم «شعب الرياضيات» (Math People)، وفي المقابل ثمّة بعضٌ آخر مسكون بقناعة يقينية ثابتة بأنّ أعضاءه سيئون في الرياضيات. يجب علينا في هذا الموضع ألا نتناسى حقيقة جوهرية: القليلُ - والقليل للغاية فحسب - من خصائص السلوك البشري يمكن توصيفها بتوصيفات قاطعة على شاكلة أبيض أو أسود. قدراتنا البشرية غالباً ما تقعُ في نطاق طيف مستمر (Continuum)، لكنّ الشيء الأكثر أهمية فيما يخصُّ قدراتنا البشرية هو أنّ كل قدرة من هذه القدرات يمكن أن تصبح أفضل لو تلقّى المرء تدريباً جاداً بطريقة صحيحة. ليس من الضروري أن يدع المرء منّا ندوبَ ذاكرته الناجمة عن تجاربه المدرسية المؤلمة هي ما يشكّلُ رؤيته المستقبلية تجاه أي حقل معرفي وليس الرياضيات فحسب. تكتب المؤلفة في هذا الشأن:

«من جانبي أعلمُ من خبرتي التعليمية المتواترة أنني عندما مارستُ تجربة تعليم الرياضيات لأطفال بعمر الخامسة أو السادسة، فإنّهم أغلب الأحيان كانوا يتقافزون بهجة وفرحاً وإثارة، ولم يعرفوا تجربة الخوف من الرياضيات إلا في سنوات لاحقة. المعضلة الأساسية، كما أحسبُ، تكمنُ في تعجّلنا لنقل المحتوى التقني للرياضيات إلى الدارسين. نحن في العادة لا نمنحُ مشاعر الدارسين كفايتها من الاهتمام بمثل ما نفعلُ مع المحتوى التقني. المناهج التعليمية للرياضيات تفشلُ في تحبيب الأطفال بالرياضيات وزرع حبها فيهم. ليست هذه المثلبة مخصوصة على معلّمي الرياضيات فحسب؛ إذ لا يمكن تبرئة المنظومة التعليمية منها».

المنظومة التعليمية تقيسُ مقدرة الدارسين على أساس الإنجاز التقني وليس بهجة التعلّم؛ لكن في كلّ الأحوال فإنّنا لو اتخذنا مبدأ التركيز على المحتوى التقني على حساب المشاعر فليس من المحتمل أن تفوز مشاعر البهجة في سباق الأفضلية التعليمية على أساس قياس النتائج المتحققة من الفاعلية التعليمية كلها. الأسوأ من فقدان بهجة التعلّم هو أن تنتج لنا العملية التعليمية أناساً يخافون الرياضيات ويُشكّكون بقيمتها الفاعلة إلى حدّ يجعلهم غير قادرين على تطبيق تقنيات القواعد المنطقية والكمّية في العالم الواقعي.

إنّ فكرة كون أحدٍ ما سيئاً في الرياضيات - وكأن الطبيعة أرادته أن يكون سيئاً بطريقة قصدية مسبقة - هي فكرة بائسة إلى حدود بعيدة ولأسباب كثيرة؛ فهي توكلُ أمر التفوق الرياضياتي إلى الطبيعة بصورة كسولة، وتنكرُ في الوقت ذاته حجم الجهد الذي يتطلبه التفوق في الرياضيات. تعلّم الرياضيات يتطلب زمناً وجَلَداً ومطاولة بالتأكيد؛ لكنّ ذلك الجهد لا يتوجّب بالضرورة أن يكون حفلة تعذيب شاقة، وليس من مسوّغ مقبول ليكون كذلك؛ بل على العكس يمكن أن يكون تحدياً مقروناً بحس المغامرة، ومن ثمّ المكافأة اللذيذة بدلاً من حس الخذلان وفقدان رغبة الاستمرارية وبهجة التعلّم. المقاربة التعليمية المفتقدة لحس البهجة والمغامرة في تعلّم الرياضيات ستكون سبباً كافياً لدفع كثرةٍ من الدارسين للتوقف عن دراسة الرياضيات، وفي المقابل سيكون من اليسير على المنظومة التعليمية اعتبارُ هؤلاء غير مناسبين أو ممتلكين للوسائل المناسبة الكافية لدراسة الرياضيات. بعد كلّ هذا فإنّ الوسائل الرتيبة المُنفّرة في تعليم الرياضيات ستوفّرُ للمعلّمين وصانعي السياسات عذراً يجعلونه سبباً لعدم مراجعة سياساتهم التعليمية والارتقاء بها عبر جعلها أكثر مرونةً وإبداعاً، وكذلك لتصميم مقاربات تعليمية من شأنها إيقافُ هذا الهدر البشري الذي قد يجعل كثرة من الموهوبين كارهين للرياضيات بسبب سياسات التعليم المنفّرة.

بعد مقدمتها المسهبة للكتاب التي تحكي فيها المؤلفة عن جوانب من سيرتها الذاتية مع الرياضيات (حبها ونفورها ثم عودة حبها للرياضيات خلال أطوار مختلفة من مسيرتها التعليمية، مساعدة أمها لها في جعل الرياضيات موضوعاً محبباً، جوانب من دراستها الدكتوراه، كيف ساعدتها الرياضيات في عشق الموسيقى والفن بعامة) تمضي المؤلفة في متون كتابها الذي وضعته في ثمانية فصول: الفصول الأربعة جعلتها تنقيبات مفاهيمية وفلسفية في أسئلة قد تبدو ساذجة لكنها ذات طبيعة وجودية تأصيلية عميقة: من أين تأتي الرياضيات؟ لماذا تنجح الرياضيات في عملها؟ لماذا نمارس الرياضيات؟ ما الذي يجعل الرياضيات ممارسة مفيدة؟ بعد هذه الفصول التأسيسية للفلسفة الرياضياتية تقدّم المؤلفة أربعة فصول إضافية تتناول تفاصيل إضافية منها على سبيل المثال فصل تقدّمُ فيه حكايات رياضياتية، وهو فصل أجده عظيم الأهمية في تعشيق الحقول المعرفية بالممارسة السردية التي تُعدُّ خصيصةً جوهريةً للإنسان كيفما كان ولعه المعرفي واشتغاله المهني.

تؤكّد المؤلفة كخلاصة جوهرية لكتابها:

«إنّه لأمرٌ يوجع قلبي حقاً عندما أرى النظام التعليمي الحالي وهو يجعلُ من بهجة غامرة لأطفال بأعمار الخامسة، وهم يتعلّمون الرياضيات لأوّل مرة في حياتهم، تستحيلُ خوفاً ونفوراً من الرياضيات عندما يبلغون الثامنة عشرة. حقيقةٌ واحدةٌ أراها بكل الوضوح ولن أجادل أبداً بشأن مصداقيتها: لو كنتَ ترى نفسك تنتمي لجماعة (أنا سيئ في الرياضيات) فاعلم أنّ قناعتك هذه ليست لأنّك عجزت عن فهم الرياضيات، بل لأنّ تعليم الرياضيات لم ينجح في جعلك تتحسس جمال الرياضيات وعظمتها، وقبل هذا أهميتها العملية في عالمنا المعاصر».

هل الرياضيات واقعية؟ كيف تقودُنا أسئلة طفولية بسيطة للكشف عن الحقائق الأعمق للرياضيات

Is Maths Real? How Simple Questions Lead Us to Mathematics’ Deepest Truths

المؤلفة: إيوجينيا تشينغ

Eugenia Cheng

الناشر: Basic Books

عدد الصفحات: 336

تاريخ النشر: 2023



في الحبّ... وفلسفته

إيريس مردوك
إيريس مردوك
TT

في الحبّ... وفلسفته

إيريس مردوك
إيريس مردوك

الحب! ليس بيننا على الأغلب من لم يعِشْه فيما مضى، أو يعيشه اليوم. نراه في كل مكان يُحتفى به على أساس أنه «التجربة الأكثر أهمية في الحياة الإنسانية». أتساءل: هل يوجد ثمة من يجادل بالضد من الحب؟ وسواءٌ منَحَنا الحبُّ متعة عظمى أم تسبّب لنا بمعاناة رهيبة، فإنّ قليلين وحسبُ هم الذين ينكرون أنّ الحب هو ما يمنح الحياة معنى وهدفاً جديريْن بالاحترام، وإنّ غياب الحب يحيل الحياة صحراء موحشة. هناك كثير من الشكوك السائدة عن الإرباكات والتناقضات التي يحتويها مفهوم الحب، وغالباً ما نتساءل: كيف يمكن لهذه الخصلة الإنسانية العظيمة أن تكون لها نتائج غير مرغوب فيها وعصية على الفهم البشري؟ وإذا كان «الحب هو كل ما تحتاجهAll You Need is Love » كما تخبرنا كلمات أغنية فرقة البيتلز، فلماذا يبدو أحياناً أن الحبّ ينساب في مسارات خاطئة تقود إلى آلام ومعاناة مؤذية؟ وكيف يمكن لشيء مثل الحب، يبدو في غاية الوضوح، أن يتسبّب في آلام وتناقضات على قدر عظيم من الإيذاء؟ يبدو أن السببَ يكمن في أنّنا لا نفهم الحب على قدر وافٍ من الكفاية والتمعّن والاستبصار الفلسفي.

كيركيغارد

يبدو الحب نوعاً من دفقة «تسونامي» تضرب كيان الفرد، وتدفعه للإتيان بأنماط سلوكية ربما ما كان سيفعلها لو كان في حالة أخرى توصف بالهادئة والمعقلنة. شاعت هذه القناعة لدى كثير من الفلاسفة منذ عصر الإغريق حتى اليوم، ممّن يرون في الحب عرضاً من أعراض الهوس العقلي المندفع بغير لجام. من المثير في هذا المقام، قراءة المقطع التالي الوارد في كتاب «الحب: مقدّمة موجزة» المنشور عن جامعة أكسفورد للفيلسوف رونالد دي سوسا Ronald De Soussa:

«ثمة صِدامٌ من نوعٍ ما بين المثال الصحي للتوازن المرتجى للحب مع المثال السائد عن الحبّ، لأنّ الحب ليس ممّا يمكن تعديله وتخفيف حدته بسهولة. الحب البالغ حد التولّه يدفعنا إلى الحافات الموغلة في التطرف على صعيدَيْ الشعور والسلوك. ثمة ملحوظة تعني - ربما - أنّ الحب بطبيعته حالة من اللاتوازن التخريبي، وربما حتى غير الصحي، ويمكن ملاحظة أن عدداً ليس بقليل من الكُتّاب في أدب العصور المتأخرة، قد شجبوا الحب، ورأوا فيه حالة مرضية (باثولوجية)».

طرح الفلاسفة، ابتداءً من أفلاطون في حواراته المعروفة وحتى عصرنا هذا، نظرياتٍ كثيرة حول الحبّ، من شأنها أن تُثير فينا كثيرًا من التساؤلات. إذا كنا نحبّ الناس لصفاتهم، على سبيل المثال، فهل من المقبول أن نحبّ أي شخصٍ له الصفات نفسها، أو أن نُمسِكَ عن حب شخصٍ ما إذا تغيرت صفاته؟ وإذا كنا نُقدّر، بدلاً من ذلك، صفات من نحبّ فقط لأننا نحبّه، فلماذا لا نُوسّع نظرتنا المُحِبّة إلى مزيد من الناس بدلاً من جعلها مخصوصة بفرد واحد؟

الحبّ شعورٌ يصيبنا بإرباك لا يمكننا التفلّت من تأثيراته أو تغافل التفكير فيه. على سبيل المثال، تشيرُ إحصائية حديثة إلى أنّ الناس في الولايات المتحدة يبحثون عن كلمة «حب» على «غوغل» نحو 1.2 مليون مرة كلّ شهر، وأنّ ما يقربُ من رُبْع هذه العمليات البحثية تسأل «ما هو الحب»، أو تطلب «تعريفاً للحب». يبدو الحب خصيصة ملازمة لحياة كلّ كائن بشري.

يُخبرنا علم الأعصاب بأن الحبّ ناتج عن مواد كيميائية (نواقل عصبية) مُعيّنة في الدماغ. على سبيل المثال، عندما تُقابل شخصاً عزيزاً، فيُمكن حينئذ لهرموني الدوبامين Dopamine والنورإبينفرين Norepinephrene، أن يُحفّزا فيك استجابة مكافأة تجعلك ترغب في رؤيته مرة أخرى. الأمر مشابه تماماً عندما تتذوّقُ الشوكولاته وترغب في مزيد منها لاحقاً.

مشاعرك هي نتيجة هذه التفاعلات الكيميائية. عندما تكون بجانب شخص تُعجَبُ به، أو صديقٍ مُقرّب منك، قد تشعر بشيء من الإثارة والانجذاب والفرح والمودّة. تشعرُ بالسعادة عندما ترى من تحبّ يدخل الغرفة التي تجلس فيها. مع مرور الوقت تشعر بالراحة والثقة. يختلف شعور الحب بين الوالدين والطفل عن حبّ رجل وامرأة بالغيْن، ويختلف شكلا الحب هذان عن حبّ الشوكولاته مثلاً. الفرق هو في طبيعة الناقل الدماغي (بمعنى اختلاف التجربة الكيميائية الحيوية التي تجري وقائعها في الدماغ).

ولكن، هل هذه المشاعر الناتجة عن تفاعلات كيميائية حيوية في أدمغتنا هي كل ما يُمثّله الحب؟ هل الحب محضُ شعور أم تجربة حسّية أم عاطفة منبعثة من أعماقنا؟ أظنُّ أنّ المقاربة الاختزالية التي تردُّ الحبّ إلى ناتج تفاعلات كيميائية دماغية تبدو قاصرة عن فهم الحبّ وتمثّلاته في حياتنا، وهذا تماماً ما جعل الحبّ ميدان دراسة فلسفية خارج أنطقة المختبرات والمشاهدات العيانية الصارمة.

اهتمّ الفلاسفة - بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة - بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ، وهم (الفلاسفة) يتشاركون قناعة بأنّ الحب أوسعُ من مجرد شعور مستثار بدافع كيميائي.

اعتقد الفيلسوف اليوناني أفلاطون أنّ الحبّ قد يُولّد مشاعر كالانجذاب والمتعة، وهي مشاعر خارجة عن سيطرتك؛ لكنّ هذه المشاعر - العامّة وغير الموجّهة تجاه فرد بعينه - أقلّ أهمية من علاقات الحب التي تختار تكوينها بسلوك قصدي، وربما تشير هذه الحقيقة إلى خاصية أنانيّة متأصّلة في الحب الحقيقي: لا ترغب في أن يشاركك أحدٌ فيمن تحب.

اهتمّ الفلاسفة ــ بصرف النظر عن تخصصاتهم الفلسفية الدقيقة ــ بالطرق المختلفة التي فهم بها الناس الحبّ عبر التاريخ

وبالمثل ولكن بمقاربة محدّثة، ادّعى أرسطو، تلميذُ أفلاطون، أنّه على الرغم من شيوع العلاقات المبنية على مشاعر كالمتعة والانجذاب؛ غير أنّها أقلُّ فائدة للبشرية من العلاقات المبنية على حسن النية والفضائل المشتركة. السبب في ذلك اعتقاد أرسطو أنّ العلاقات المبنية على المشاعر تدوم فقط طالما استمرت المشاعر، ولا تملك خاصية التشارك الأخلاقي الذي يسمو على الزمان ومحدّدات الظروف والتغيّر المتوقّع في الرغبات والأمزجة الذهنية والتوجهات النفسية: تخيلْ مثلاً أنك شرعت في علاقة ثنائية مع شخص لا تجمعك به سوى حقيقة أنكما تستمتعان بلعب ألعاب الفيديو. إذا حصل وتوقّف أيٌّ منكما عن الاستمتاع بالألعاب، فلن يبقى أي شيء يُبقي العلاقة بينكما متماسكة. هذه هي الحقيقة الواضحة: كلُّ علاقة تتأسّسُ على المتعة المجرّدة فإنّها تزول مع زوال العنصر المسبّب للمتعة لدى أحد الأطراف، أو لدى الطرفيْن معاً. قارن علاقة المتعة هذه مع علاقة الحب. الفارق بيّنٌ وشديد الوضوح. يرغب الطرفان اللذان تجمعهما علاقة حبّ بالبقاء معاً؛ ليس بدافع متعة مشتركة بل لإعجابهما بعضهما ببعض كما هما.

يقدّم دليل أكسفورد المرجعي لفلسفة الحب The Oxford Handbook of the Philosophy of Love، الذي نشرته جامعة أكسفورد عام 2024، مجموعة واسعة من المقالات الأصلية حول طبيعة الحب وقيمته. جمع المحرّران كريستوفر غراو Christopher Grau وآرون سموتس Aaron Smuts (وهما فيلسوفان جامعيان لامعان) كتابات نخبة من الفلاسفة من بينهم باحثون بارزون وشباب يشرعون في تشكيل مسارهم الفلسفي. يضمّ الكتاب ثلاثة وثلاثين عنواناً (موزّعة على خمسة أبواب) تتناول قضايا الحب ومعضلاته، بالإضافة إلى فلاسفة بارزين أسهموا في فلسفة الحب، مثل أفلاطون وكيركيغارد وشوبنهاور وآيريس مردوك. تتراوح الموضوعات المتناوَلَة بين القضايا المحورية حول طبيعة الحب وتنوعه، وإمكانية تبريره عقلانياً، وما إذا كان شعوراً، وأهمية الحب في القانون والاقتصاد والأخلاق والإرادة الحرة. كما يتضمن المجلّد مقدمة للموضوع، فضلاً عن مقالات حول علاقة الحب بالغيرة والدين والمعرفة والتكنولوجيا الحيوية، وكثير من الموضوعات الأخرى. اختصّ المحرّران الجزء الأخير من الدليل، وعنوانه تقاطعات Intersections، لبحث العلاقة المشتبكة بين الحب وموضوعات أخرى؛ مثل: الحب والقانون، والحب والمعرفة، والحب والأدب، والحب والدين، والحب والحرية. سيكون هذا الدليل الشامل مرجعاً أساسياً للمتخصّصين في فلسفة الحب، ودليلاً مفيداً لمن يتطلّعون إلى معرفة المزيد عن هذا المجال من غير ضرورة مسبّقة لأن يكونوا فلاسفة متمرّسين.

أرى أنّ جزءاً حيوياً من أهمية هذا الكتاب (وسواه من كتب الدليل المرجعي Handbooks) يكمن في أنّه يوفّرُ للقارئ طيفاً واسعاً من العناوين التي يستطيع انتقاء ما يشاء للاستزادة من قراءتها والتفكّر فيها. تتعاظم هذه الأهمية في عصرنا المتفجّر بفيوض لا تنقطع من المعلومات والمعرفة اليومية، التي بمستطاعها إغراقُنا في سيول من العناوين المفكّكة غير المترابطة التي لا ينتظمها خيطٌ معرفي.