«سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني

عالم بريطاني يدعو لإعادة التفكير في موروثات «الاستشراق الوبائي»

«سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني
TT

«سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني

«سردية الطاعون»... الواقع والمتخيل الفني

يطرح كتاب «الطاعون: الصورة والخيال من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة» بحثاً ثقافياً موسعاً في عالم هذا المرض الأكثر فتكاً في تاريخ البشرية، مقتفياً في ذلك تصويره في الأدب والفن بشكل عام. وحسب المحرر، عالم الأنثروبولوجيا البريطاني كرستوس لنتيرس، فإن الكتاب يهدف لحث المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا لفهم العلاقة بين صورة الطاعون والخيال المُتصل به.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «البحر الأحمر للنشر» بالقاهرة، وهو من ترجمة الدكتور أحمد الشيمي الذي يطرح في مقدمة الكتاب ملامح عن خصوصية مرض الطاعون الذي لم يكن اختباراً صعباً للمرضى وحدهم، ولكن لأهالي المرضى أيضاً؛ حيث الوباء لا يسمح للناس بأن يتواسوا ولا أن يتزاوروا؛ بل يدفعهم للتنكر بعضهم لبعض، والفرار بعضهم من بعض، وكأنه صورة من صور يوم القيامة.

ويتناول الشيمي لمحة من هذا الرعب في رواية «الديكاميرون» للإيطالي جيوفاني بوكاشيو، الذي رصد مشاهده في منتصف القرن الرابع عشر: «الخوف تمكَّن من القلوب، والرعب سرى في النفوس. تفرق الإخوة بعضهم عن بعض، وعن أخواتهم البنات، والأعمام عن أبناء إخوتهم، والزوجات تركن أزواجهن. وهناك ما هو أسوأ من ذلك كله وأقسى على النفس، وهو أن الآباء والأمهات يتقززون من أبنائهم ولا يزورونهم ولا يأبهون بهم، كأنهم لا يعرفونهم، ولم ينحدروا من أصلابهم».

لم يكن هذا المشهد الذي تناوله بوكاشيو خيالياً؛ بل رصده بنفسه في فلورنسا الإيطالية، في الفترة التي اجتاح فيها الوباء أجزاء كبيرة من القارة الأوروبية، وامتدت شروره لتصل إلى فلسطين ومصر وشمال أفريقيا، فمات 25 مليوناً في أوروبا وحدها، ومثلهم في البلاد المجاورة؛ حيث الطاعون «لم يحل في بلد إلا أباده، ولا في شجر إلا أحرقه، ولا في نظام سياسي أو اقتصادي إلا قلبه رأساً على عقب، ولا في إيمان إلا هزه من الأعماق، ولا في عقيدة إلا وضربها بالشك والريبة» كما يقول الدكتور أحمد الشيمي في تصديره للكتاب.

توثيق وتأمل

يفتح الكتاب أفقاً لتأمل التوثيق الأدبي لبلاء الطاعون، فقد جعل نجيب محفوظ، «عاشور»، بطل ملحمته «الحرافيش» يرصد أثره على حارته التي غلب عليها الحزن المفجع والنحيب: «يسير النعش وراء النعش. في كل بيت نواح، وبين ساعة وأخرى يُعلَن عن ميت جديد. لا يفرق هذا الموت الكاسح بين غني وفقير، قوي وضعيف، امرأة ورجل، عجوز وطفل، إنه يطارد الخلق بهراوة الفناء»، ألم يُلقِّب نجيب محفوظ عاشور بـ«الناجي» لأنه نجا من هذا الوباء؟

وعالمياً، عكس الأدب تمثيلات الطاعون من بوابة عبثية الحياة وشدة هشاشتها، بداية من «أوديب ملكاً» لسوفوكليس، وألبير كامو في «الطاعون»، وماري شيللي في «الإنسان الأخير»، وديفو في «يوميات الطاعون».

ويشير الكتاب الذي يقع في 564 صفحة، إلى أن وباء الطاعون الذي ضرب أفريقيا وآسيا في منتصف القرن الرابع عشر (1346- 1353) قتل نحو 40 في المائة إلى 60 في المائة من سكانها، بينما «الموت الأسود» يشير للجائحة الأولى لوباء الطاعون الثاني الذي استمر على صورة سلسلة من النوبات المتكررة على مدى قرون عدَّة، فأصبح «الطاعون الأسود حدثاً تاريخياً عظيم الشأن». ومن ثم يطرح الكاتب سؤالاً حول جذور تعبير «الطاعون الأسود»، بداية من اسمه المستمد من البقع السوداء والأنسجة الميتة التي كانت تظهر على أجساد بعض ضحايا الطاعون، إلا أنه يرى أن هذا التعريف الإكلينيكي ليس هو المرجع الوحيد لهذا التعبير الذي تبدو له أصول ثقافية خاصة، فنسبته إلى اللون الأسود تم تداولها بشكل خاص في القرن التاسع عشر، وهو يبدو مصطلحاً مثقلاً بحمولة آيديولوجية هيمن فيها الفهم الأوروبي لتاريخ الطاعون في القرن التاسع عشر.

حكايات متنوعة

يشار إلى أن كتاب «الموت الأسود» لمؤرخ الطب، الطبيب الألماني يوستوس هيكر، الصادر عام 1832، قد رسخ فكرة المرض بوصفه قوة من ضمن القوى التي تحرك التاريخ البشري، وهو الكتاب الذي نظرت له أوروبا بوصفه المرجع الأهم في تاريخ الأوبئة. ويلفت الكاتب النظر إلى أن السياق الزمني الذي كتب فيه هيكر كتابه كان ضمن سياق الرومانسية الأوروبية في ذلك القرن، بما في ذلك الميل إلى تمجيد الماضي البعيد في العصور الوسطى، واستثمار العواطف الفردية وحكايات البطولة في سرد التاريخ.

ويُعدُّ كتاب «الموت الأسود» في الوقت نفسه بداية الدراسات الأكاديمية التاريخية الحديثة حول الطاعون. ويرى مؤلف كتاب «الطاعون: الصورة والخيال...». أن هيكر لم يكن فقط مسؤولاً عن صياغة وإشاعة مصطلح «الموت الأسود» وإنما كان مسؤولاً أيضاً عن التأسيس للنغمة العاطفية المتصلة بعلم الأوبئة التاريخية، أو ما يُسمى علم «الأوبئة القوطي»، بتركيزه على الموت والمرض والهلاك.

ولم تكن علوم الأوبئة القوطية تتجه نحو المركز الأوروبي فقط، بقدر ما كانت استشراقية بشكل كبير.

ويُعرِّف الكتاب «الاستشراق الوبائي» بأنه مجموعة الممارسات الخطابية التي انطلق منها الأوروبيون الغربيون في تصوير الشرق بوصفه موطناً للأوبئة، واستمرت هذه النظرة الاستشراقية على مدار القرن الـ19؛ حيث يشير الكتاب لأكثر من مثال لتصوير علماء الوبائيات الأوروبيين الغربيين للطاعون بوصفه «مرضاً شرقياً»، والشرق بوصفه مصدر «الموت الأسود»، وبالتالي مصدر جميع الطاعونات السابقة. فعلى سبيل المثال، في نهايات القرن الـ18، يسجل عالم الأوبئة الألماني سبرنغل، في كتابه «دليل علم الأمراض»: «إن الطاعون شائع في الشرق شيوعاً كبيراً؛ لأن الأتراك يلقون بالطعام في الطرقات، ويتركون جثث الحيوانات تتعفن في الشوارع». ويكتب في موضع آخر: «أغلب المرات التي تفشى فيها الطاعون أتت إلى أوروبا من الشرق، من أمكنة مثل القسطنطينية وإزمير والقاهرة وأصفهان». ويقول الكاتب إن مثل هذه الأحكام لم تعد مقصورة على كتب علم الأوبئة الأوروبي في القرن التاسع عشر وحسب، وإنما أصبحت حقائق راسخة فيما كُتب من تاريخ الأوبئة الحديث حتى عهد قريب.

يُعرِّف الكتاب «الاستشراق الوبائي» بأنه مجموعة الممارسات الخطابية الخاطئة التي انطلق منها الأوروبيون الغربيون في تصوير الشرق بوصفه موطناً للأوبئة

مسار سردي

ويبدو أن تلك الرؤية المحددة قد خدمت الغرب في ترسيخ مسار سردي يأخذنا في النهاية إلى نهوض أوروبا الغربية، بينما يبدو «الموت الأسود» وكأنه منعطف مصيري أو تحدٍّ كان يتحتم على المجتمع الأوروبي قهره والانتصار عليه، ليصبح جزءاً من «تاريخ التفوق الأوروبي»؛ حيث يبدو «الموت الأسود» نازلة من نوازل الزمن التي ابتُلي بها الأوروبيون من الخارج، ولا يمكن أن تكون قادمة من الداخل بأي حال من الأحوال، دون اعتراف بأنه ربما يعود للانتشار في مكامنه المحلية بأوروبا، ليصبح «الموت الأسود»، حسب تعبير الكتاب: «مسطرة تقاس بها الأوبئة التي سجلها التاريخ الأوروبي بعد ذلك».

ويدعو الكتاب إلى إعادة التفكير في موروثات الاستشراق الوبائي هذه، أو «الآفة» كما يصفها، ورصد دورها في كثير من الخيال التاريخي الحديث حول جوائح الطاعون، وأثرها الثقافي أيضاً.


مقالات ذات صلة

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

ثقافة وفنون «المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

«المسرح الألماني المضاد»... رد الاعتبار لتجربة راينر فاسبندر

رغم وفاته في سن السادسة والثلاثين، فإن الكاتب المسرحي والمخرج السينمائي والممثل الألماني راينر فيرنر فاسبندر (1945 - 1982) ترك وراءه كنزاً من الإبداع

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يشهد استحداث ممر تكريمي للشاعر الأمير بدر بن عبد المحسن (وزارة الثقافة)

تجلّيات الثقافة والفكر تُزيّن معرض الرياض الدولي للكتاب

المعرض يُعدّ تظاهرة ثقافية وفكرية سنوية بارزة بالمنطقة تجسّد منذ عقود الإرث الثقافي للمملكة وترسّخ ريادتها في صناعة الثقافة وتصدير المعرفة.

عمر البدوي (الرياض)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
يوميات الشرق تبدأ فصول من المعرفة والفكر والثقافة على مدى 10 أيام من عمر المعرض (واس)

رحلة معرفية جديدة تنطلق في معرض الرياض الدولي للكتاب 2024

تنطلق (الخميس)، التظاهرة الثقافية الدولية للكتاب، تحت شعار «الرياض تقرأ»، التي تبدأ معها فصول من المعرفة والفكر والثقافة.

عمر البدوي (الرياض)
كتب دليل من أجل الحكم الرشيد

دليل من أجل الحكم الرشيد

أسئلة مهمة يطرحها هذا الكتاب بشأن السمات والمهارات وطرائق التفكير التي تصنع القائد الناجح، ويقترح عليهم مؤلفه من وحي خبرته الشخصيّة أموراً ينبغي للقادة فعلها - أو تجنُّب القيام بها - للحصول على صيت خالد في التاريخ.

ندى حطيط (لندن)

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو
TT

التنوير... لماذا يخشاه أشباه المثقفين العرب؟

ديدرو
ديدرو

يعتقد الناس أحياناً أن التنوير مجرد ترف فكري خطر على بال بعض المثقفين الأوروبيين أن يخترعوه ويتسلوا به لكي يخرجوا من الدين على سبيل المشاكسة ليس إلا. بل ويتوهم البعض أنهم اخترعوه لكي يتفاخروا به على الآخرين: أنا تنويري وأنت غير تنويري إلخ... كل هذا شيء زهيد وسخيف. في الواقع إنه ظهر تلبية لحاجة تاريخية ملحة جداً وعاجلة. لقد كان علاجاً ناجعاً لمشاكل طائفية أو مذهبية مزقت المجتمعات الأوروبية على مدار القرون السابقة. ومعلوم أن فرنسا عانت من الحروب المذهبية ما عانته. كما وعانت من التعصب الأعمى الكاثوليكي على وجه الخصوص. فالأغلبية الكاثوليكية دمرت الأقلية البروتستانتية تدميراً بعد أن اتهمتها بالهرطقة والكفر والخروج على «صحيح الدين»، أي على المسيحية الصحيحة التي لا يمكن أن تكون إلا كاثوليكية، حسب وجهة نظرهم. كان الكاثوليك يعدّون أنفسهم آنذاك بمثابة الفرقة الناجية في المسيحية. هم وحدهم في الجنة وباقي الفرق في النار. ولهذا السبب حاولوا استئصال البروتستانتيين. يكفي أن نتذكر هنا مجزرة سانت بارتيليمي التي اندلعت في باريس يوم 24 أغسطس (آب) عام 1572: أي قبل خمسمائة سنة تقريباً. وقد اندلعت في العاصمة أولاً قبل أن تنتقل إلى الأقاليم البعيدة وكبريات المدن كبوردو وتولوز وليون وسواها. (بين قوسين يجمع المؤرخون على أنه ذهب ضحيتها ثلاثون ألف شخص. وهو رقم ضخم بالنسبة لذلك الزمان ويساوي الآن ثلاثمائة ألف شخص على الأقل).

جان جاك روسو

كان الهدف في البداية تصفية قادة الطائفة البروتستانتية وليس الشعب البروتستانتي ككل. وقد أمر الملك الكاثوليكي شارل التاسع بإيقاف المذبحة منذ اليوم الأول. ولكن عامة الشعب الهائجة المشحونة بالتعصب شحناً من قبل الأصوليين ورجال الدين لم تستمع لأوامره فذبحوا البروتستانتيين بشكل أعمى حيثما ثقفوهم أو وجدوهم. وهكذا خرجت الأمور عن حد السيطرة. ومعلوم أنه عندما يُطلق للغرائز الطائفية العنان فلا أحد يعرف أين تتوقف ولا كيف... لن تتوقف قبل أن يشبع الدم من الدم... وهذا أكبر دليل على أن الشعب كان أكثر تعصباً من قائده أو مليكه. إذ حتى الملك الكاثوليكي المبجل جداً عجز عن إيقاف الشعب الهائج!

عندما يتذكر الفرنسيون المعاصرون ذلك لا يكادون يصدقون ما حصل. والسبب هو أنه لم يعد هناك أي أثر للتعصب الطائفي في فرنسا الحداثية العلمانية المعاصرة. فالبروتستانتيون والكاثوليكيون أصبحوا جميعاً مواطنين درجة أولى ومتساوين في الحقوق والواجبات أمام دولة القانون والمؤسسات. لقد حلت العصبية الوطنية أو القومية الفرنسية كلياً محل العصبيات الطائفية الضيقة. وهذا معاكس لما يحصل في المشرق العربي حالياً حيث لا وجود تقريباً للعصبية الوطنية الجامعة، وإنما كل المحبة والتعصب للطائفة. والسبب هو أنه لم يظهر حتى الآن فكر تنويري في العالم العربي، فكر قادر على تفكيك العصبيات الطائفية الراسخة رسوخ الجبال كما فعل فلاسفة التنوير في فرنسا وعموم أوروبا. لم يظهر فولتير عربي ولا سبينوزا عربي ولا كانط عربي... إلخ. وما دام الأمر كذلك فسوف تستمر الطائفية في الهيمنة على عقول الناس، بخاصة عامة الشعب البسيط، بل وحتى قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين.

لقد أراد الحزب الكاثوليكي الأصولي الطائفي المتعصب جداً أن يفني البروتستانتيين ويستأصلهم عن بكرة أبيهم. وهي المجزرة التي صفق لها بابا روما آنذاك معتبراً إياها بمثابة الانتصار المبارك الميمون للإيمان الصحيح. قال بالحرف الواحد: الحمد لله اليوم انتصر الإيمان الحقيقي على الزندقة والكفر... وفور سماعه بالنبأ أمر بإقامة صلاة الشكر في جميع كنائس روما حيث قرعت الأجراس في كل مكان احتفالاً بالنصر. راح يرفع آيات الابتهال إلى الله تعالى لأنه أنقذ أرض فرنسا الكاثوليكية الطاهرة من رجس الهراطقة البروتستانتيين لعنهم الله!

لولا هذه المجازر، لولا هذا الجو المشحون بالتعصب الطائفي والمذهبي، لما ظهر فولتير ولا ديدرو ولا جان جاك روسو ولا الموسوعيون ولا كل فلاسفة الأنوار. لقد ظهروا كرد فعل على هذا الفهم الطائفي المتعصب والمرعب للدين المسيحي. وهو فهم أصولي يخلع المشروعية الإلهية على المجازر الطائفية بل ويعدّها تقرباً إلى الله تعالى. وبالتالي فهناك فهم طائفي للدين وفهم غير طائفي. هناك فهم آخر للدين ممكن غير فهم «الإخوان المسلمين» والخمينيين وبقية الظلاميين. هذا شيء لم يُستوعب بعد في العالم العربي بل ولا يخطر على البال. ولا أقصد بال الجماهير الأمية الغفيرة المعذورة، وإنما أقصد بال المثقفين أيضاً إلا من رحم ربك! ولكن المسيحية الأوروبية تجاوزته بسنوات ضوئية بفضل جهود فلاسفة الأنوار.

هذا التطور اللاهوتي الهائل، هذه الثورة الفكرية التنويرية، لم تحصل حتى الآن إلا في أوروبا والمسيحية الأوروبية. ولكن البابا الأسبق بقي أصولياً أحياناً على الرغم من علمه الغزير. والدليل على ذلك أنه كان يعدُّ البروتستانتيين وربما الأرثوذكس مسيحيين بشكل ناقص لا بشكل كامل على عكس الكاثوليكيين. بمعنى آخر، فإنه ظل يعتقد في قرارة نفسه أن الفرقة الناجية الوحيدة في المسيحية هي المذهب الكاثوليكي البابوي الروماني الذي يمثل الأكثرية أو الأغلبية العددية. هذا لا يعني أنه ظل يكفر المذاهب المسيحية الأخرى غير الكاثوليكية، كما كان يفعل أسلافه في القرون الماضية. لا، أبداً. لكنه يعني أنه لم يتخلص كلياً من رواسب العصور الوسطى ولاهوتها القديم على عكس المفكر الكاثوليكي التحريري الرائع هانز كونغ.

التنوير العربي سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة


وهل تعتقدون أنه لولا حرب الثلاثين عاماً التي اجتاحت ألمانيا وكل أوروبا كان سيظهر لايبنتز وليسنغ وكانط وفيخته وهيغل وبقية التنويريين الألمان العظام؟ ثلث سكان ألمانيا قتلوا في تلك الحرب الطائفية الرهيبة التي جرت بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين. لهذا السبب قرر فلاسفة التنوير الاشتباك مع الإخوان المسيحيين وتفكيك تفسيرهم الانغلاقي والطائفي المتعصب للدين المسيحي. لهذا السبب قرروا تفكيك فتاواهم الدينية اللاهوتية القاتلة أو التي تخلع المشروعية «الإلهية» على القتل والذبح. وهي الفتاوى ذاتها التي لا تزال تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية حتى اللحظة.

لا يمكن أن نفهم ملحمة الحداثة وصعودها الصاروخي في أوروبا إن لم نأخذ كل هذه الحقائق بعين الاعتبار. أحياناً يقول بعض المثقفين العرب: يا أخي ما علاقتنا بالتنوير؟ ما حاجتنا إليه؟ يا أخي التنوير ظهر في أوروبا إبان القرن الثامن عشر قبل 200 سنة فهل تريدون إعادتنا إلى الوراء مدة قرنين أو أكثر؟ هل نحن بحاجة إلى تيار فكري مضى وانتهى؟ عندما يقولون ذلك فإنهم يرتكبون مغالطة رديئة أو سفسطة مجانية ليس إلا. إنهم يريدون قطع الطريق على التنوير، ومنع حصوله في العالم العربي والإسلامي ككل. وهذا يعني إدامة العصر الطائفي إلى ما لا نهاية. وهم بذلك متواطئون ضمناً مع «الإخوان المسلمين» وبقية الرجعيين ولكنهم لا يتجرأون على التصريح بذلك علناً مخافة أن يقال عنهم إنهم ضد الحداثة والعصر والتطور. ونحن نسألهم: التنوير مضى وانتهى بالنسبة لمن؟ هل مضى وانتهى بالنسبة للشعوب الأفغانية الطالبانية والعربية والتركية والإيرانية والباكستانية، أم مضى بالنسبة للشعب الفرنسي والألماني والإنجليزي وبقية الشعوب الأوروبية المتطورة التي لم تعد تعاني من أي مشكلة طائفية أو مذهبية؟ هذا السؤال كافٍ لإفحامهم وتبيان خطأ موقفهم ومغالطاتهم ومكابراتهم. ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نستنتج شيئاً واحداً: وهو أن التنوير لا يزال أمام المثقفين العرب لا خلفهم على عكس المثقفين الأوروبيين. نستنتج أننا لن نستطيع الإفلات من استحقاق التنوير مهما حاولنا أو فعلنا. نستنتج أن هناك تفاوتاً تاريخياً كبيراً بين المجتمعات المسيحية الغربية والمجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. نستنتج أن التنوير العربي قادم لا ريب فيه. لكنه لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي وإنما ستكون له فرادته وعبقريته الخاصة. لن يؤدي إلى الإلحاد المطلق، كما حصل في الغرب، وإنما سيؤدي إلى المصالحة التاريخية بين الدين والفلسفة، بين الإيمان والعقل، بين الإسلام والحداثة.