حكاية اليهودي اللبناني الذي علقت روحه في المرآة

لينة كريدية تروي «العرجون اللّجين» على لسان رجل ميت

حكاية اليهودي اللبناني الذي علقت روحه في المرآة
TT

حكاية اليهودي اللبناني الذي علقت روحه في المرآة

حكاية اليهودي اللبناني الذي علقت روحه في المرآة

في روايتها الخامسة «العرجون اللجين»، وتعني «الغصن الفضي»، تترك لينة كريدية العنان لمخيلتها، تسرح بها حيث تشاء. لكن الظريف، في هذا العمل، هو أن الكاتبة وجدت طريقةً سورياليةً ذكيةً تسمح لها، بعبور العصور، واجتياز مئات السنين، والمرور على عشرات الشخصيات الأدبية والتاريخية، التي من الصعب أن تجتمع بين دفتين، خصوصاً حين يتعلق الأمر بقصة، عادة ما تكون محدودةً في الزمان والمكان.

ومن المصادفات أن يكون بطل الرواية الرئيسي وراويها الذي حوله تدور كل الأحداث، في هذا الظرف الذي نمر به بالذات مع حرب غزة، هو أبراهام يهودي لبناني، من بين القلة النادرة التي بقيت ولم تهاجر، وظلّ في لبنان حتى أدركه الموت.

تبدأ الرواية بكلام أبراهام: «علقت في المرآة... فمنذ توفيت، لم أستطع مغادرة هذا المنزل. لا أعرف السبب». نعرف بعد ذلك أننا نقرأ حكاية الميت أبراهام، الذي علقت روحه في المرآة، لأن أصحاب البيت لم يغطوها بملاءة، كما يتوجب الأمر، حسب الاعتقاد اليهودي، فبقيت روحه بعد الموت عالقة بها. «وما استطاعت روحي أن تنفذ من جحيم الأرض إلى ما بعدها». هكذا تكرّ سبحة الحكي، خصوصاً وأن الميّت لا يكفّ عن القصّ ونبش الذكريات.

الرواية تتضمن أيضاً حوارات متتابعة بين أبراهام ومرآته، وبينه وبين نفسه وهو يراقب ورثته، يتقاسمون تركته، ويتناهشون المال، وكل ما هو ثمين، غير عابئين بالمكتبة أو بما خلفه والداه عزرا وروان من ممتلكات ذات قيمة معنوية أو عائلية، يفترض أن تكون موضع اهتمامهم.

مناسبة للكاتبة لتعود إلى حياة اليهود في بيروت، ومن ثم، تحكي معاناة الذين بقوا، واضطرت عائلة أبراهام الذي نال دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون وعاد إلى لبنان، وقد بدأت الحرب الأهلية، وقضت على ما قضت، للانتقال من حي اليهود في وادي أبو جميل في قلب العاصمة إلى المنطقة الشرقية لبيروت، تحت وطأة القصف، حيث اضطرت لأن تخفي ديانتها الأصلية وتتظاهر بأنها أرثوذوكسية، كي تقي نفسها الأذى، وقد تصاعد العداء لإسرائيل، وتنامى المدّ القومي. «أبي يتجّر بالساعات ويصلحها، وتعمل أمي في الخياطة الراقية لأهم سيدات المجتمع، يبذلان جهداً لتعليمنا أنا وأخوتي، ولا علاقة لنا بكل ارتجاجات المنطقة، فلم نحن عالقون بهذه الشبهة؟».

روح أبراهام السجينة تتحرر بالسفر في الأزمنة. لا نعرف لماذا كان للميت كل هذه الحيوات المتناسلة؟ ننتقل معه إلى حرب داحس والغبراء، نلتقي بعنترة العبسي. عندها تقهقه المرآة: «في الحرب الجميع خاسر. كان الدم في ماء الواحة عكراً، فلا يرى أحدٌ وجهه. حتى نرجس المغرور هجر انعكاسه في بطنها، وارتحل إلى عكاظ، واستقر في سوقها ساكناً في نفوس جميع العرب، وسكن في قصائدهم». ثم نرتحل معه إلى صدر الإسلام، والخلافات والفتن التي اشتعلت بعد وفاة النبي. يروي أبراهام لمرآته: «عبرت حياتين خلال تسعين سنة مع الدولة الأموية. أما الدولة العباسية التي استمرت 767 عاماً فما عدت أذكر كم خيبة أو حياة أو فتحاً شهدت». كانت رحلة العبور طويلة ومرهقة، طاف بها على الأندلس وشبه الجزيرة الإيبرية، ورأى محاولات تأسيس ممالك منفصلة، تم دفع ثمن إخمادها باهظاً. لم يكن سعيداً بما رأى بل متبرماً وساخطاً، شاعراً بعبثية لا توصف، خصوصاً وأنه لم يقتنع بواجب الحرب أو الاستشهاد. «السيناريو ذاته يتكرر بوجوه عديدة. في كل حياة عشتها، استمر العرب على المنوال نفسه مع تعديلات طفيفة شكلية».

هو ابن الحرب اللبنانية، اليهودي الذي وجد في ولادة إسرائيل، «الجيب الاستيطاني الجهنمي» كارثة على اليهود. «لأنها ضد الدين وتضرب عمق الفكرة اليهودية عن القصاص الذي ينبغي لنا أن ندفعه ثمناً لأخطائنا. لقد ضللنا الطريق، ولا بد أن نرتضي حساب الرب». لكنه لم يسلم من الأذى حتى حين اختار أن يبقى في وطنه، أو حتى أن يرفض فكرة قيام إسرائيل من أساسها.

الراوية تسلط الضوء على حياة عائلة يهودية قررت البقاء ومقاومة التيار، وبالمناسبة تتعمق ببعض العادات والممارسات اليهودية، من خلال حياة أبراهام وعائلته، والأجواء المحيطة به. ثمة في الرواية أحداث وقعت بالفعل وشخصيات، كانت موجودة في بيروت، ومارست دوراً في تلك المرحلة، من بينها شولا كوهين. فقد جعلت الكاتبة هذه المرأة اليهودية التي عرفت بسيرتها المتهتكة جارة لعائلة أبراهام. وشولا في الرواية كما في الواقع كانت قد ساهمت في تشجيع العديد من اليهود اللبنانيين على الرحيل، وسهلت لهم مهمتهم، كما أنها تدبرت أمرها لتنقل لهم أموالهم، وتهتم ببيع عقاراتهم. وقد حاولت شولا المستحيل مع عزرا والد أبراهام كي يبيع ممتلكاته، وصورت له إسرائيل أرض الفردوس، وضمنت له تهريبها سراً، لكنه لم يقتنع أن يعيش في بلد، يبغضه فيه جواره كله.

في صيف 1961 طوق الأمن العام اللبناني منزل شولا واقتادها مكبلة، وتبين أن لها عصابة من ثلاثة عشر عضواً من الداعرات المحترفات الجاسوسات إضافة إلى مهربين وموظفين آخرين، كانوا قد ألحقوا أذى كبيراً بلبنان، بأمنه ومصارفه وتسببوا بخسائر فادحة، جرّاء التهريب. لكن شولا كانت قد ورطت معها أسماء مهمة من المجتمع المخملي اللبناني، أثناء حفلاتها الصاخبة والمتهتكة، فطمست الكثير من المعلومات، وأفرج عنها بصفقة تبادل مع محتجزين في إسرائيل.

لا بد من الاعتراف للروائية بجرأة الخوض في تجربة فيها الكثير من المخاطرة، حين قررت أن تستغني عن الحبكة الروائية وتجعل بطلها مجرد روح حبيسة

لا بد من الاعتراف للروائية بجرأة الخوض في تجربة فيها الكثير من المخاطرة، حين قررت أن تستغني عن الحبكة الروائية، وتذهب تسرد خواطرها، وتجعل بطلها مجرد روح حبيسة، تسافر في آلة الزمن وتشهد وتروي وتعلق وتتأسف، وتراجع مسارها وأخطاءها ورغباتها. كل هذا متمفصل مع لعبة ثانية، هي لعبة المرايا، حيث يلتقي أبراهام في تسافره عبر العصور بمرايا كثيرة، هو العالق بمرآته اليهودية كما يسميها، منها مرآة فينوس، ومرآة «أليس في بلاد العجائب»، ومرآة نرجس، ومرآة دراكولا الخفية، لأنه كان يخاف مواجهتها، ويخشي رؤية انعكاس وجهه وأنيابه فيها.

الرواية هي خليط من سرد يتداخل مع حوارات لا تنتهي بين الميت وذاته، ومع مرآته وكل أولئك الذين يسترجعهم. فهو يعيش رحلتين في وقت واحد، رحلة إلى الماضي، عابراً الذاكرة البعيدة لحيواته المتتالية «قادماً بعد عشرين قرناً وعقدين من مولد المسيح» في محاولة للانعتاق، ورحلة أخرى إلى المستقبل برفقة عرّاف يجتاز به البوابات السومرية السبع، في رحلة الموت إلى الحساب. كل هذا وهو عالق في منزله وفي مرآته تحديداً، لا يعرف كيف يتحرر من هذا السجن، حتى يكاد ينسى أنها مجرد مرآة. هي نفسها تقول: «ما عدت أرى أبراهام ينظر إلي كمرآته اليهودية، لقد انحرف فكره، وأصبحت أنا مرآة هاري بوتر، ينظر بعينين زائغتين إلى مرآة تعكس أمنياته، وما يود أن يراه».

الحوارات تقوده لأن يتحدث مع شخصيات تاريخية وكتّاب بينهم أغاثا كريستي، وصديق العمر نبيل الذي كان قد فقده فجأة حين سقط في الحمّام، بعد أن خانه قلبه وتركه وحيداً.

الميت إذن، في هذا السجن الغريب، برمزيته اليهودية الدينية، يأخذنا في رحلة تمتد على أكثر من مائة صفحة، يروي خلالها قصة عائلته ووطنه، وأزمات منطقته من قبل الإسلام إلى اليوم، بعيني شخص، انتهى يهودياً، لكنه مرّ قبل ذلك، بمراحل دينية، وإنسانية وفكرية مختلفة، كأنه هو نفسه بانوراما لهذه الخلطة السوسيولوجية العجيبة، لمنطقة تعجّ بالشعوب والأديان، والخلافات، والفتن، والمآسي.


مقالات ذات صلة

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

كتب مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

مختبر فلسطين... قنابل يدوية بدل البرتقالات

يتجاوز الصحافي أنتوني لونشتاين، الخطوط المحلية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، في كتابه الاستقصائي «مختبر فلسطين: كيف تُصَدِّر إسرائيل تقنيات الاحتلال إلى العالم»

عبد الرحمن مظهر الهلّوش (دمشق)
كتب سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».