كتاب يتتبع «صحوة المصريين الحديثة»

باحثان مصريان يوقّعانه باسم مستعار

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

كتاب يتتبع «صحوة المصريين الحديثة»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

هذا كتاب مختلف؛ ليس فقط في مضمونه التاريخي بشقيْه الاجتماعي والثقافي، وإنما أيضاً في القصة التي تقف وراء اسم المؤلف. يحمل كتاب «صحوة المحكومين في مصر الحديثة... من رعايا إلى مواطنين»، الصادر حديثاً عن دار «الشروق» في القاهرة، بترجمة الدكتور محمد مدكور، توقيع محمود حسين؛ لكن ما حقيقة هذا الاسم؟ إنه الاسم المستعار المشترك الذي اختاره المفكران المصريان بهجت النادي وعادل رفعت، بعد استقرارهما في فرنسا نهاية الستينات من القرن الماضي. وقّعا بهذا الاسم أعمالاً ركزت على إبراز قدرة الإنسان على تحمل تبعات إرادته الحرة، وتمحورت كتبهما الرئيسية حول صحوة الشعب المصري الحديثة، ولقيتْ نجاحاً باهراً منذ كتابهما الأول الذي أكسبهما شهرة عالمية، وقد تُرجم إلى العربية بعنوان «الصراع الطبقي في مصر من 1945 إلى 1968».

يتتبع المؤلفان الخطوات المتعاقبة التي خطاها المصريون طوال القرنين الماضيين، في مسيرة تحولهم من «رعايا» في عهد الإمبراطورية العثمانية إلى «مواطنين»، عبر نظرة متكاملة إلى تاريخ مصر المعاصر، لا تقتصر على المقاييس السياسية والاقتصادية المعتادة، وإنما تشمل الأبعاد الدينية والنفسية لمختلف الجماعات والأفراد. ويتوالى في هذا السياق كثير من الثنائيات، مثل: «الحاكم والمحكوم»، و«التقليد والحداثة»، و«الجماعة والفرد»، و«اللاهوتية والعلمانية».

ويتوقف الباحثان أمام سعي الحكام لإضفاء مسحة من «الشرعية المقدسة» على سلطتهم، وهي مستمدة -على غير الحقيقة- من الموروث الديني، ليظهر الحاكم في صور مختلفة، مثل الحاكم بأمر الله، والزعيم الوطني، والأب الروحي للجماعة. ولقد شكّلت تلك الشرعية في يقين المحكومين أغلالاً باطنية كبّلت ضمائرهم وشلّت حركتهم المستقلة؛ إذ جعلتهم يذعنون نسبيّاً لمبدأ استعبادهم في بعض الفترات التاريخية.

في المقابل، هناك مفهوم «الوعي الذاتي» الذي أخذ المحكومون يكتسبونه خطوة بخطوة، وهم ينسلخون من تلك الهيمنة. وكانت الانتفاضات الرئيسية التي قام بها الشعب من حين إلى آخر هي اللحظات التاريخية المتميزة التي بزغ فيها إدراك المحكومين لذاتهم ومصالحهم، وتأكدت فيها إرادتهم المستقلة. وعلى سبيل المثال، بلورت ثورة 1882 التي قادها الزعيم أحمد عرابي ضد التدخل الأجنبي في البلاد الضمير المصري، ثم بلورت ثورة 1919 الضمير الوطني الديمقراطي للمصريين.

وينطلق الكتاب بداية من عام 1798، الذي يمثّل في تاريخ مصر منعطفاً حاسماً ولحظة انقطاع بين عصر ما قبل الحملة الفرنسية على البلاد، وعصر ما بعدها، لافتاً إلى أن قبل الحملة سادت في مصر نظرة شمولية ولاهوتية للعالم، وهيمنت بصورة مباشرة على الشؤون الدنيوية كافّة، فلا يقدر بشر على إحداث أي تغيير في نظام الأشياء. أما بعد الحملة فلقد عاشت مصر بداية تأزم هذه النظرة، وأخذت تتبنّى بصورة تدريجية ومتعرجة وأليمة نظرة جديدة تقوم على الاعتراف باستقلالية الشأن الدنيوي، وتحرره من التفسيرات التراثية الخاطئة.

يعبّر هذا المنعطف عن بداية الانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث، مما يضمّن تحولاً في مغزى الانتفاضات الشعبية، إذ كانت تتم قديماً لا لإحداث تغيير في نظام الأشياء، وإنما لإعادته إلى نصابه كلما هُدّد بالاهتزاز. أما في العالم المتأزم الآخذ في التكوّن، فبدأ المحكومون الطموح إلى تغيير العلاقة بينهم وبين الحكام.

ويوضح الكتاب أنه قد يتصوّر المواطن المعاصر أن المحكومين آنذاك مكوّنون على غراره من الناحية الاجتماعية والنفسية، ولا يفترقون عنه سوى في حجم المعرفة العلمية ومستوى الوسائل المادية والفنية المتاحة لديهم، إلا أن التكوين التاريخي لرعايا السلطان العثماني اختلف عن تكوين المواطن المصري المعاصر من زوايا أساسية. وعلى سبيل المثال، اختلفوا في تكوينهم الاجتماعي؛ إذ لم ينتمِ رعايا السلطان إلى طبقات بالمعنى الحديث للمفهوم، أو إلى أي كيانات قومية قائمة على مصالح مشتركة تربط بين أفراد مستقلين ذاتياً، وإنما انتموا إلى جماعات تقليدية منغلقة على نفسها، فلم يتحلّ عضو الجماعة بهوية فردية مستقلة، ولم يتصور وجوده في العالم إلا من خلال انتمائه العضوي إلى الجماعة.

كذلك، ربما يتصوّر المواطن المعاصر أن رعايا السلطان كانوا يدركون انتماءهم المشترك إلى كيان تاريخي اسمه مصر، إلا أن ذلك لم يكن وارداً في وجدان هؤلاء الرعايا. كانوا بطبيعة الحال مطبوعين بسمات مشتركة متولدة من تاريخ مصر المتميز الطويل، ولكنهم يعيشونها دون أن يكونوا واعين بها، إذ لم تكن لديهم القدرة على إدراك الاستمرارية التاريخية والجغرافية المكونة للكيان المصري. لم تكن هوية المصريين آنذاك مصرية، وإنما كانت مقسمة إلى دائرتين منفصلتين: الدائرة الأولى «الأمة»، وهي دائرة روحانية دون معالم مكانية أو زمانية محددة في أذهان الرعايا، وأما الدائرة الثانية لهوية الرعايا فهي «الجماعة التقليدية»، وتحتوي على مساعيهم الدنيوية كافّة.

ويخلص الكتاب إلى أن الكيان المصري لم يظهر بوصفه حيزاً لهوية جماعية واعية إلا من خلال عملية تاريخية طويلة المدى، بعد أن شرع المحكومون في اكتساب استقلاليتهم الذاتية والفردية، وفي بلوغ وعي حديث تراكمي للزمن مكّنهم من احتضان البعد التاريخي للكيان المصري. وكان أول من نطق بمفهوم الوطن المصري بوصفه كياناً تاريخياً متميزاً عن «الأمة» هو رفاعة رافع الطهطاوي في الثلاثينات من القرن التاسع عشر. وكانت أول ممارسة لهذا المفهوم على نطاق جماهيري في أثناء ثورة عرابي سنة 1882. ففي كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» يوثّق الطهطاوي رحلته إلى باريس إماماً للبعثة العلمية التي أرسلها والي البلاد محمد علي، ويحوي الكتاب مقارنات هي الأولى من نوعها بين أحوال فرنسا وأحوال مصر التي ينبغي إصلاحها. وحين أسّس الرجل صحيفة «الوقائع المصرية» عام 1824، جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من أخبار الخلافة العثمانية.

أما أحمد عرابي فقد أسهم في بلورة أول وعي مصري على أرض الواقع بالهوية الوطنية، حين واجه بصفته قائداً عسكريّاً حاكمَ البلاد، معبّراً عن مطالب الجماعة الوطنية. وحين رد الخديو توفيق بغطرسة، قائلاً: «لا حق لكم في هذه المطالب، لقد ورثت هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساننا»، واجهه عرابي بالمقولة التاريخية الشهيرة: «لقد خلقنا الله أحراراً، ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، فوالله الذي لا إله غيره، إننا سوف لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم».


مقالات ذات صلة

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون بيدرو ألمودوفار (إ.ب.أ)

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة يؤلف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»،

نيكولاس كيسي
يوميات الشرق الصور الثابتة في أي كتاب مدرسي تتحوَّل نماذج تفاعلية ثلاثية البُعد (فرجينيا تك)

الذكاء الاصطناعي يضخّ الحياة بالكتب المدرسية الجامدة

طوّر فريق من الباحثين في جامعة «كولورادو بولدر» الأميركية نوعاً جديداً من الكتب المدرسية التفاعلية التي تتيح تحويل الصور الساكنة نماذجَ محاكاة ثلاثية البُعد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «شيء مثير للاهتمام جداً» (رويترز)

نسخة نادرة من مخطوطة «الأمير الصغير» للبيع

ستُطرح نسخة نادرة من المخطوطة الأصلية لرواية «الأمير الصغير» للكاتب أنطوان دو سانت أكزوبيري، للبيع؛ وهي التي تحتوي على تصحيحات وتعليقات مكتوبة بخطّ المؤلّف.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب القوة في موازين الحياة

القوة في موازين الحياة

يسعى كتاب «لعب الأدوار بقوة» للكاتبة والباحثة الأميركية، ديبورا جرونفيلد، إلى تفكيك مفهوم «القوة»، بما له من حمولات سيكولوجية، واجتماعية، وسياسية، وإنثروبولوجية

منى أبو النصر (القاهرة)

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية
TT

كل الحروب سياسية... والاستراتيجية الرديئة تزيدها سوءاً

الحرب الكورية
الحرب الكورية

اشتهر كارل فون كلاوزفيتز، كبير فلاسفة الحرب في الغرب، بملاحظته أن الحرب امتداد للسياسة، كما أشار إلى نقطة ثانية، وهي أن الحرب تابعة للسياسة، ومن ثم فهي تتشكّل من خلالها، مما يجعل «تأثيرها ملموساً حتى في أصغر التفاصيل العملياتية».

نحن نرى هذا اليوم في الشرق الأوسط، حيث قد تسترشد محاولات إنقاذ الرهائن الفتاكة، والاغتيالات الكبرى، كتلك التي أودت بحياة حسن نصر الله زعيم «حزب الله»، بنقاط سياسية بقدر ما تسترشد بالرغبة في إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن. وعلى الجانب الآخر من المعادلة، يبدو أن أحدث سرب من الصواريخ الباليستية الإيرانية، التي انفجر معظمها من دون ضرر فوق إسرائيل، كان عملاً من أعمال المسرح السياسي الذي يهدف في المقام الأول إلى رفع المعنويات على الجبهة الداخلية.

من المفيد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وآية الله علي خامنئي من إيران، ناهيكم عن الرئيس الأميركي المقبل، أن يقرأوا كتاب جفري فافرو «حرب فيتنام: تاريخ عسكري» (652 صفحة، دار «بيسك بوكس» للنشر).

إنه يُلقي أفضل نظرة عامة على المغامرة الأميركية في جنوب شرقي آسيا، ومن المؤكد أنه سوف يصبح كتاباً معيارياً عن تلك الحرب، وبينما نتابع المعاناة الجارية في الشرق الأوسط، فإن هذا الكتاب يقدّم لنا أيضاً دروساً قوية بشأن المخاطر المترتبة على شن حرب مفتوحة من دون إستراتيجية حقيقية.

تركّز أغلب كتب التاريخ عن حرب فيتنام على الدبلوماسية والسياسة في الصراع، بالعودة إلى العمليات العسكرية للأحداث الرئيسية فقط، مثل هجوم «تيت» ومعركة مدينة «هوي»؛ إذ يتبع واورو، المؤرخ في جامعة نورث تكساس، نهجاً أكثر تنويراً.

ووفقاً لرأي فافرو، كان التدخل الأميركي في فيتنام بمثابة درس كبير في كيفية تجنّب شنّ الحرب، وقد أدى الاعتقاد الطائش في فاعلية القوة النارية المحضة، إلى حملات القصف الأميركية المدمِّرة التي كما يقول واورو: «أدّت إلى إحراق سُبع أراضي جنوب فيتنام» و«خلقت خمسة ملايين لاجئ داخلي»، على أمل دفع قوات «فيت كونغ» الفيتنامية إلى العراء، ورفض الخصم الشيوعي القتال بهذه الطريقة، بل كانوا يشتبكون سريعاً، ثم ينسحبون عندما يردّ الأميركيون بوابل عنيف من نيران المدفعية والغارات الجوية. في الأثناء ذاتها، كلما حاول الرئيس ليندون جونسون - الذي لم يدرس مبادئ كلاوزفيتز - فصل الحرب عن السياسة، بالكذب بشأن تكاليفها ورفض تعبئة الاحتياطي العسكري؛ صارت الحرب أكثر سياسية، وهيمنت على الخطاب الأميركي، ثم عصفت به خارج الرئاسة.

لم يكن أداء أميركا أفضل مع الهجمات المستهدفة، وكما هو الحال مع أجهزة البيجر المتفجرة التي استخدمتها إسرائيل، فإن برنامج «فينكس» من إعداد وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لاغتيال أعضاء «فيت كونغ» قد «ركّز على (القبض أو القتل)»، كما كتب واورو، وأدى إلى سقوط ضحايا أبرياء، كما أنه لم يؤدِّ إلى الاقتراب من نهاية الحرب؛ لأن البرنامج بأكمله كان مبنياً على «أرقام ملفقة»، كما يوضح المؤلف، «وليس على الواقع الحقيقي»، وكان البرنامج عبارة عن طريقة أخرى لقتل الناس من دون فهم الحرب.

جعلتني قراءة التاريخ الرائع الذي كتبه فافرو أفكّر في نتيجة لازمة جديدة لنظريات كلاوزفيتز: كلما كانت الاستراتيجية أقل تماسكاً في الحرب، أصبحت أكثر تسييساً، دخلت الولايات المتحدة الحرب لأسباب سياسية ودبلوماسية غامضة (الظهور بمظهر الصرامة أمام خصوم الحرب الباردة ليس نهاية المطاف). بعد عقدين من الزمان كان الغزو القصير والفوضوي لجنوب «لاوس» من قِبل القوات البرّية الفيتنامية الجنوبية والقوة الجوية الأميركية بمثابة «مسرحية سياسية، وليس حرباً»، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية عام 1972، لم تكن هناك نهاية في الأفق، وكان الدافع وراء الهجوم هو رغبة الرئيس ريتشارد نيكسون في جعل الأمر يبدو وكأن فيتنام الجنوبية تتولّى زمام الأمور في القتال، وبدلاً من ذلك، زاد من زعزعة استقرار المنطقة، ولم يفعل شيئاً يُذكر لقطع خطوط إمداد العدو.

لحسن الحظ، خلال الحرب العالمية الثانية استخدمت الولايات المتحدة السياسة لخدمة المجهود الحربي بدلاً من العكس، وإن لم يكن الجميع يرَون الأمر على هذا النحو. في كتاب «أميركا أولاً: روزفلت ضد ليندبيرغ في ظل الحرب» (444 صفحة، دار «دوبلداي للنشر»)، يُصوّر إتش دبليو براندز، نجم الطيران الشهير تشارلز ليندبيرغ، الذي تحدث عن النزعة الانعزالية في البث الإذاعي الوطني، بوصفها أمراً ساذجاً، ولكن صادقاً، في حين يُصوّر الرئيس فرانكلين روزفلت بأنه مخادع بشكل ملحوظ في جهوده لدفع الولايات المتحدة إلى الحرب.

لكن في الواقع، كان فرانكلين روزفلت هدفاً كبيراً لهذه التهمة؛ إذ تعهد الرئيس أثناء حملته الانتخابية للفوز بولاية ثالثة غير مسبوقة، قائلاً: «لن يُرسَل أبناؤكم إلى أي حروب خارجية»، وكان جيمس، نجل روزفلت، يتساءل عن سبب اتخاذ والده هذا الموقف، فقال والده موضحاً: «جيمي، كنت أعلم أننا ذاهبون إلى الحرب، كنت متأكداً من أنه لا يوجد مخرج من ذلك، كان لزاماً أن أثقّف الناس بشأن الحتمية تدريجياً، خطوة بخطوة»، ربما يكون هذا مخادِعاً، لكن هذه السياسة ساعدت الأميركيين على المشاركة في المجهود الحربي، كان كلاوزفيتز ليفخر بذلك.

في الوقت نفسه، عندما يرفض ليندبيرغ الدعوة إلى هزيمة ألمانيا في أواخر يناير (كانون الثاني) 1941، يُعيد إلى الأذهان رفض دونالد ترمب دعم المعركة الأوكرانية ضد العدوان الروسي، ويلاحظ براندز، وهو مؤرخ في جامعة تكساس فرع أوستن، ليونةَ ليندبيرغ إزاء ألمانيا النازية، ولكن - في رسم صورة متعاطفة للرجل - يستبعد عديداً من التفاصيل التي تظهر في كتب أخرى، مثل السيرة الذاتية تأليف «إيه سكوت بيرغ»، الفائزة بجائزة بوليتزر لعام 1998.

لا يذكر براندز، على سبيل المثال، أن ليندبيرغ رفض في مايو (أيار) 1940 الحديث عن مخاطر انتصار النازية، بوصفه «ثرثرة هستيرية»، أو أنه، في العام نفسه، ألّفت زوجة الطيار آن مورو ليندبيرغ كتاب «موجة المستقبل»، وفيه جادلت بأن العهد الجديد ينتمي إلى أنظمة استبدادية، وكان ذلك الرجل يحمل مثل هذه الولاءات المُرِيبة حتى بعد بيرل هاربر، كما قال ليندبيرغ (في تصريحات أغفلها براندز أيضاً): «إن بريطانيا هي السبب الحقيقي وراء كل المتاعب في العالم اليوم».

إن مثل هذه الإغفالات تجعل كتاب براندز يبدو وكأنه مُوجَز متحيّز إلى ليندبيرغ أكثر من كونه كتاباً تاريخياً نزيهاً. كتب براندز يقول: «لقد أصاب ليندبيرغ كثيراً في حملته ضد الحداثة، لكنه أخطأ في أمر واحد كبير- فهو لم يرَ أن الأميركيين كانوا على استعداد للتدخل في الصراعات الخارجية». وأودّ أن أزعم أن ليندبيرغ كان مخطئاً أكثر من ذلك؛ فقد عبث بمعاداة السامية، وهو شيء ينتقص براندز من أهميته، وعلى نحو مفاجئ بالنسبة لطيار شهير، لم يكن يبدو أن لديه الكثير من البصيرة في دور القوة الجوية في الحرب، وحتى في القراءة الأكثر تعاطفاً، لا بد أن كلاوزفيتز كان ليحتدم غيظاً.

الجنرال البروسي العجوز هو موضوع تحليل جديد لاذع، وربما شديد التحريض من ناحية «أزار غات»، المؤرخ الفكري في جامعة تل أبيب. في كتابه «أسطورة كلاوزفيتز: أو ملابس الإمبراطور الجديدة» (228 صفحة، دار «كرونوس للنشر»)، يزعم غات أن كتاب كلاوزفيتز «عن الحرب» مؤثر بصورة رئيسية؛ لأنه مُحير للغاية. ويَخلُص إلى أن «الكثير من سمعة الكتاب تستند إلى سوء فهم دائم لما يعنيه في الواقع».

هناك في الأساس اثنان من كلاوزفيتز؛ الأول ألّف في وقت مبكر من حياته المهنية الكثير من كتب «عن الحرب»، بينما يسعى إلى فهم انتصارات نابليون السريعة والساحقة على بروسيا، والآخر كان يحاول بعد سنوات رسم مسارٍ لاستعادة بروسيا مكانتها في أوروبا، ولكن بدلاً من تأليف كتاب ثانٍ، كما يقول غات، عاد الضابط البروسي ونقّح كتاب «عن الحرب» بطرق تتناقض على نحو جَلِيّ مع بعض الأجزاء الأسبق من نفس الكتاب. بدأ كلاوزفيتز بكتابة أن النصر يعتمد على هزيمة سريعة للعدوّ في معركة كبيرة واحدة. وفي وقت لاحق أدرك أن العديد من الأطراف الفاعلة، سيما الأضعف منها، قد يكون لديها سبب لإطالة أمد القتال. وشرع في التنقيح، لكنه لم يكن لديه الوقت لعلاج هذا التضادّ قبل وفاته عام 1831.

وبينما كنت أقرأ كتاب غات، ظللتُ أفكّر في أنه لم يدرك النقطة الأكثر أهميةً؛ قد تشوب الأعمال الكلاسيكية حالة من النقص إلى حد بعيد؛ إذ تطرح أسئلة أكثر مما تقدّم من إجابات، وهو ما كان بمثابة طريق أكثر أماناً للاستمرار عبر الزمن. في الواقع، كانت واحدة من أشهر ملاحظات كلاوزفيتز تتعلّق بطرح الأسئلة، وهو يقول إنه قبل أن تتصاعد أعمال العنف يجب على القادة المفكرين أن يسألوا أنفسهم: ما نوع هذه الحرب؟ وما الذي تريد أمّتي تحقيقه؟ وهل يمكن أن تحقّق ذلك فعلاً؟

هذه اعتبارات جيدة. إن مواصلة حرب استنزاف لا نهاية لها، سواء في جنوب شرقي آسيا، أو في الشرق الأوسط، من غير المرجّح أن تؤدي إلا إلى المزيد من الفوضى والموت، وعلى نحو مماثل، لو تعامل قادة أميركا بجدّية مع نهاية المسألة قبل غزو فيتنام، ناهيكم عن العراق أو أفغانستان، ربما كانت حروبهم لتسير على نحو أفضل كثيراً، أو ربما لم تكن لتحدث على الإطلاق.

-------------------

خدمة: «نيويورك تايمز».