«أمة على رسلها»... من الاستشراق إلى الاستشراق المضاد

تأملات لمها الفيصل في كتاب أصدره «مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

«أمة على رسلها»... من الاستشراق إلى الاستشراق المضاد

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

قد يبدو كتاب «أمة على رسلها» لمها الفيصل، الصادر حديثاً عن مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث بالرياض، والذي تضمن اثني عشر فصلاً في 274 صفحة، صغيراً نوعاً ما، قياساً بأطروحته وما تضمنه من أفكار على مقدار كبير من الأهمية والحساسية، إلا أن المؤلفة استطاعت في هذا العدد المحدود من الصفحات معالجة موضوعها بعمق وإحاطة، خاصة أنها عالجت في كتب سابقة لها عدة مواضيع إشكالية. وساعدها تمكنها من لغة أجنبية، كما هو واضح في هوامش الكتاب، الإفادة من مصادر ومراجع كثيرة، رفدت كتابها بمعلومات وإضافات نوعية.

ولئن وصفت المؤلفة كتابها بالتأملات، فإن ما بذل من جهد معرفي واضح المعالم، واستقصاء بحثي موسع، لكل محور من محاور الكتاب، جعل منه أطروحة رصينة ومتماسكة لا تنقصها العلمية. وقد شملت «تأملاتها» هذه آراء عدد كبير من المؤلفين والدارسين في الحضارة العربية، خصوصاً من الغرب، فلاسفة أو مؤرخين أو علماء نفس أو أدباء.

في هذا الكتاب تعيد الفيصل قراءة وتأمّل ما كتبه سلباً أو جوراً أو تهميشاً الاستشراق الغربي: مفكروه وشعراؤه وصولاً إلى تابعيه من المفكرين العرب، عن هوية اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وتتناول إيجابياً سمات هذه الهوية وخصائص نسيجها الاجتماعي، وتنصف تاريخياً وبنيوياً موقفها الحضاري.

وهي إذ تتأسى في الفصل الأول من الكتاب وعنوانه «حضارة العرب وارتباك المرجعيات»، على فداحة الأفول الحضاري للمجتمعات العربية في لحظتنا التاريخية الراهنة، فإنها ترد ذلك إلى أن الحصانة الداخلية التقليدية لهذه المجتمعات، كان يمكن أن تمثّل نوعاً من الحماية الذاتية.

ونحن نرى أن هذا الدمار الهائل ذو طابع بنيوي وذهني ومعرفي ونفسي في آن، وليس ذا بعدٍ واحد، ترجعه المؤلفة إلى تلك التجاذبات السياسية والجيو سياسية، والتجريف الثقافي الذي أحدثته الآيديولوجيات الغربية، التي في ظنها استتبعت النخب العربية ودعتْها إلى تبني مشاريع فاشلة. إن نظرة مها الفيصل عميقة وصائبة على المستوى النظري التجريدي، وعلى المستوى النفسي العاطفي، على أننا حين النظر إلى أسباب هذا الدمار على المستوى البنيوي والمادي، نجده راجعاً إلى أن سياسات واقتصاديات المجتمعات العربية المعاصرة وأنظمة حكمها، كانت في حالة من الاستتباع العفوي أو القسري لاقتصادات وسياسات الآيديولوجيات الرأسمالية الغربية.

وترى الكاتبة في أحد فصول الكتاب، المعنون «العرب هم ورثة العالم الهيليني»، أن بلاد العرب كانت قبل دخول الإسلام حواضن للفكر الإغريقي... وبعده قدمت قراءة منتقاة وعظيمة لإرث الإغريق أعادت إحياءه فترة الدولة العباسية وصححت عليه. وتعترف الفيصل، من خلال هذه السردية التاريخية، أن «يقظة فكرية اجتاحت الحضور الفكري العربي، ومكّنته من الأخذ والإضافة من هذا الإرث العظيم».

في ظل هذه الرؤية، تتوسع مها الفيصل في فصل آخر لا يقل أهمية، عنوانه «العرب ترجمان للحضارات»، التي تقول فيه إن «حركة الترجمة الواسعة التي قام بها العرب في عصر الخلافة العباسية لا مثيل لها في أي من الحضارات السابقة». وللحق لسنا متأكدين تماماً من هذه «المعلومة» التاريخية التي توردها الكاتبة، فالحضارات القديمة الصينية والهندية والآشورية وغيرها، كان بينها ذلك التواشج والاتصال المعرفي والثقافي فيما بينها، في لحظة من سيروراتها وصيروراتها، الحضارة العربية لم تشذّ عن هذه الأطر التاريخية وقانونيتها المنطقية، فضمن هذه الآليات الاتصالية المعرفية كانت تمضي في السياق الاتصالي نفسه، مع ثقافة الحضارات الأخرى ومنها الحضارة الهيلينية، والرومانية.

ومن الواضح أن الكاتبة لا تعترف بأن بناء ونهوض الحضارة العربية، كان بفعل نظرية «التحدي والاستجابة»، كما هو مفهوم أرنولد توينبي الذي فسّر بها دور الاتصال المعرفي مع الحضارات الأخرى المحايثة، في تحقيق مستوى أعلى من النضج الحضاري. فهي ترى أن العرب هم ترجمان الحضارات، وأن ممكنات التحول الحضاري كانت متوفرة، وضمن حدود نظرتها التاريخية والدينية. فالنقل المعرفي عن الفكر اليوناني الإغريقي لم يكن نتيجة لصدمة التحدي، بقدر ما كان النقل استعادة لممكنات معرفية مطموسة بفعل الزمن والانقطاع التاريخي.

وتستعيد مها الفيصل، عبر فصول كتابها، لحظة حضارية متمايزة ومغايرة، عن تلك اللحظة الاستشراقية، التي عُرفت من خلالها الشخصية العربية وروحها البدوية الفطرية، وهي لحظة استشراقية معكوسة مناقضة ومهمومة، حسب تعبير المفكر صادق جلال العظم، تعيد تقويم الحقائق التاريخية وتصحح المفاهيم وتقرأ الوقائع والشواهد المطموسة قراءةً مختلفة غاياتها الانتصار لهويتها العربية وثقافتها ومنجزها الحضاري العريق. هي لحظة غير مستقطعة من سياقها ومنغلقة على ذاتها، بل لحظة استغرابية بامتياز؛ إذ إنها لحظة توكيد للبنية البدوية/الحضرية للعرب في جذرها ومكوّنها الأول، وموقعها وتأثيرها الكوني.

في الكتاب لا تخفي المؤلفة انحيازها لقضايا الهوية واللغة والدين وتمايز السمات والخصائص الاجتماعية والأنثروبولوجية للشخصية العربية، في تحليلها للتشكل الحضاري العربي، وتنكر على من تقوم مقاربته على نفي هذه الحقائق «المطلقة»، الأمر الذي قد يبعدها عن صورة التمظهر الحضاري في عقلنته التاريخية والأخلاقية والإبداعية المعاصرة. فهي تعيد مجدداً تحيين مفاهيم الأبوية البطريركية، في مقولتها «إن الآيديولوجيات الغربية عصفت بأذهان النخب العربية ودعتها إلى تبني مشاريع فاشلة، أدت إلى هدم الحصانة المجتمعية التقليدية المتمثلة في التجمعات الفطرية مثل القبيلة الرشيدة والأسرة الممتدة وأنظمة الحكم التقليدية بزعم محاربة الأبوية... حتى باتت كلمة الأبوية ذاتها صنواً للتجبر والظلم».

أرى أن هذا الانحياز المطلق لهذه المرجعية القبلية/الأبوية الأولى في واقعنا العربي - الإسلامي حتى اللحظة، لا يصمد كثيراً في عصر العولمة وعصر الذكاء الاصطناعي، وقد يقود التفكير الرغبي «الهووي» فيه إلى إخراج الحضور العربي التقليدي من التهميش إلى الحصار التاريخي، أي بمثابة حصره داخل دائرة «العقل الأسير لأوهام القومية» الضيقة، ناهيك عن انكسار الهوية القومية الحضرية الواحدة، في ظل تصاعد هويات عالمية جديدة، وفي ظل تحولات كيانية متسارعة للهوية الواحدة ذاتها، وتفتتها في هويات متعددة و«قاتلة»، حسب قول الروائي أمين معلوف.


مقالات ذات صلة

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

يوميات الشرق جذبت فعاليات المعرض وأنشطته الثرية والمتنوعة أكثر من مليون زائر (هيئة الأدب)

معرض الرياض الدولي للكتاب يختتم 10 أيام من الاحتفاء بالكتاب والثقافة

بحلول مساء يوم (السبت) انقضت الأيام العشرة من فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب 2024، وتم إسدال الستار على المعرض الذي انطلق تحت شعار «الرياض تقرأ».

عمر البدوي (الرياض)
كتب ميشيل فوكو

من «إيخمان في القدس» إلى «من أجل السماء»

حين تكون الضحية نتاجاً لثنائية متضامنة: غياب العقل وعبثية الشر.

شرف الدين ماجدولين
كتب محمد مبوغار صار

القائمة الأولى لـ«الغونكور»... حضور مميّز للكتاب الأفارقة

بعد أيام من انطلاق الموسم الأدبي، كشفت أكاديمية «الغونكور» عن القائمة الأولى للكتاب المرشحين للفوز بالجائزة الأدبية هذه السنة.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب غلاف الرواية

الكاتبة السعودية عائشة مختار في «الريح لا تستثني أحداً»

تقدم الكاتبة السعودية عائشة مختار عملها «الريح لا تستثني أحداً» بوصفه «مُتتالية قصصية»، ينهض معمارها على فن القصة القصيرة المُكثفة

منى أبو النصر (القاهرة)
يوميات الشرق على مدى عشرة أيام تزين فعاليات معرض الكتاب العاصمة السعودية (هيئة الأدب)

علوان: معرض الرياض للكتاب أيقونة ثقافية وأكبر المعارض العربية في مبيعات الكتب

بات معرض الرياض الدولي للكتاب عنواناً للريادة الثقافية للسعودية منذ انطلاقه قبل خمسة عقود وتحقيقه سنوياً لأعلى عوائد مبيعات الكتب بين المعارض العربية.

عمر البدوي (الرياض)

الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة
TT

الحياة على هامش الوحدة

الحياة على هامش الوحدة

في مجموعته القصصية الجديدة «يجذب المعادن ويحب الكلاب»، يلعب الكاتب والقاص المصري محمد البرمي على مفارقات الوحدة، فيجعل صوتها هاجساً يطارد أبطال قصصه حدّ الاشتباك مع الجنون، ولا يبدو انتظار الحب هو الوجه الوحيد لوحدتهم، وإن كان غيابه يؤرق واقعهم، وتصوراتهم الذاتية عن الحياة.

صدرت المجموعة أخيراً عن دار «الكتب خان» للنشر بالقاهرة، وعبر 15 قصة يبدو الأبطال محاصرين داخل دوائرهم اليومية البسيطة والمعتادة التي يراهنون فيها على «الروتين» كصمام أمان يتشبثون بطقوسه الرتيبة من ساعات عمل مكتبية، تتبعها ساعات تحضير لليوم التالي، في دائرة زمنية مُغلقة على أصحابها، فبطل قصة «شارع سنان» الغارِق في روتين وحدته، وساعات العمل الطويلة، يتلمس مع انتقاله لسكن جديد البحث عن بدايات جديدة، فيتعامل مع المكان الجديد بشاعرية وهو يستمع لصوت أم كلثوم في شرفته باحثاً عن أي أثر للحياة وصِلات مع جيران جُدد، وسرعان ما يكتشف أنه ساكن وحيد في جزيرة معزولة جديدة، فينفتح السرد على مفارقات كابوسية، ويجد البطل نفسه مُتهماً بارتكاب جريمة في بيت أحد الجيران، فتبدو العزلة وكأنه تقوده إلى مراوحات ذهنية مشدودة بين الواقع والهلوسة.

مسرح الخيالات

يستعين الكاتب محمد البرمي بالأحلام بأبعادها الميتافيزيقية، ومساحة الضلالات والأوهام، كتقنية فنية في سرد مجموعته، وأداة يتحرى بها العالم الداخلي الثائر لأبطاله خلف القشرة الزائفة لتماسك علاقتهم مع العالم الخارجي، بما فيها العلاقات الحميمة، ففي قصة «أزواج وقتلة» ينطلق القاص من «كابوس» يتلبس الزوجة التي ترى في منامها أن زوجها يقوم بخيانتها وقتلها، فتنقلب حياتهما الهادئة بسبب هذا الكابوس المتكرر، وسط محاولات من الزوج لاستيعاب غرابته، ثم سرعان ما يلاحقه هو الآخر كابوس أن زوجته تقوم بقتله وهو يخونها مع غيرها، فتتحوّل عندها الأحلام لقرائن عبثية تقود حياتهما الواقعية إلى الجحيم، وتكشف ما بها من عطب وهشاشة تخص علاقتهما المشتركة، فيصف البطل حياته مع زوجته بـ«الروتين» مستنداً على حجة تبرر ذلك وهي «أن تستمر الحياة على روتينها أفضل من ألا تستمر»، ويجعل القاص محمد البرمي مخرج أزمة البطلين وهواجس القتل المُخيّمة عليهما تنتقل إلى فضاء فانتازي، حيث يتحوّل البيت إلى مسرح مفتوح على الخيالات، فتبدو الأحلام وكأنها تتوالد، حتى تبتلع الزوج والزوجة داخل فقاعة حلم مشترك لا يخلو من عبثية.

ويبدو أبطال المجموعة غير قادرين على التكيّف أو استيعاب المسافة بين الأمنيات والمستحيلات، فبطل قصة «وقائع مقتل السيدة مرسيدس» الذي يعمل أميناً للمخازن يعيش تحت مظلة خياله وشطحاته، فهو يستمتع بتأليف حكايات خرافية ساذجة، ويؤمن في قرارة نفسه أن الشيء الوحيد الذي ينقصه ليصبح «ماركيز» هو دعم زوجته له كما فعلت «مرسيدس» مع زوجها الأديب العالمي الشهير، فيظل البطل على مدار القصة يتأرجح ما بين لوم نفسه ولوم زوجته على عدم كتابته للأدب السحري الخيالي، فيقول: «لماذا لا أكتب رواية؟ طالما أنني أعايرها دائماً بأنها ليست مرسيدس، فلماذا لا أكون ماركيز»، ويبدو في حالة مناورة دائمة مع أحلام يقظته، واضعاً زوجته محل اتهام لعدم لمعان موهبته وتركه «يصنع عالماً يشكله كما يريد»، ويفجر السرد مفارقته الساخرة، كاشفاً أن البطل لم يقرأ لماركيز في حياته، وأنه لم يطالع سوى منشور على «فيس بوك» يتحدث عن دعم مرسيدس لماركيز خلال كتابته لرواية «مائة عام من العزلة»، بما يحيل إلى الأحلام الخيالية التي تعززها وسائل التواصل، والحواجز التي تبنيها تلك الأحلام بين البشر وواقعهم.

استقبال الحب

كما يستعير البطل هنا قناع «ماركيز» في محاولة لاستشعار جدارته، فيجعله السرد مُعادلاً للكشف عن تصورات البطل عن نفسه، فإن السارد في قصة «الفتاة التي تُشبه إيمي واينهاوس» يؤسس آصرة بين النجمة البريطانية الراحلة إيمي واينهاوس أو «إيمي الحزينة»، كما يصفها الراوي، و«زينب» بطلة القصة التي يجمعها شبه بالمغنية البريطانية التي ماتت في أوج نجوميتها: «رغم صخبها، امرأة حزينة تموت في السابعة والعشرين من عمرها، علاقات الحب البائسة الأحزان التي لا تنتهي، الاضطراب الذي يحتل مساحة لا بأس بها داخلنا»، ويُخرج السارد من رحم قصة إيمي واينهاوس البائسة قصة أخرى لبطلة تشبهها شكلاً، وسرعان ما يجمعهما الخيال الأدبي في مصير الموت المُبكر، وحسرة الحب.

فهكذا، ينقسم أبطال المجموعة بين أبطال يتخبطون بحثاً عما يريدونه من الحياة، وآخرين يؤرقهم وعيهم التام بما يريدون، فبطل قصة «سبيل محمد علي» يريد أن يتبادل الحب مع فتاة وهو يقترب من الثلاثين من عمره، مأزوماً بالصراع بين مشاعر الحب ورغبة الجسد، والشعور بالذنب، في سياق مجتمعي ضاغط يجعله يتطرف في استقبال الحب.

أما بطل قصة «يجذب المعادن ويُحِب الكلاب» فيستبصر أزمته بشاعِرية تُفلسف الشدائد والفقد، فالبطل يتوقف أمام استقبال جسده خلال فتراته الأخيرة لشرائح ومسامير معدنية شتى، إثر إصلاحات وصيانة لكسور العظام وعطب الأسنان، فيجتر لحظة إصابته برصاصة خلال ثورة يناير المصرية، التي ظلّت في جسده بعد نصيحة طبيب بعدم إخراجها، وتركها ليتأقلم الجسد معها، فيبدو تحسس مكان الرصاصة كل مرة وكأنه تحسس لما تحمله معها من «ذكريات حزينة وأيام قاسية وأحلام ضائعة»، وعلى مدار القصة يبدو البطل في محاولة لتأمل ذاته «الجاذبة» للكسور والآلام، و«المطرودة» من الحب، بصيغة أقرب للاستسلام والتقبّل، تماماً كنصيحة الطبيب لفكرة التعايش مع «الرصاصة»، فيستعيض عن فشله في قصة حبه بتربية «كلب» يتواصل معه عاطفياً ويصفه بـ«شريكي في الحياة»، ليمدّ القاص خيطاً سردياً مرهفاً يجمع بين الحيوان والجماد، وبينهما الإنسان حائر في المنتصف، في مجموعة قصصية لافتة تتمتع برائحة سردية خاصة.