دلال معوض: إنعاش الذاكرة الجماعية ضروري لتحقُّق العدالة

تحاول في كتابها «كل ما خسِرَتْ» أن «تُلملم شظايا الأرواح»

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب
TT

دلال معوض: إنعاش الذاكرة الجماعية ضروري لتحقُّق العدالة

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ثلاث سنوات على تهشّم بيروت بالمواد المتفجّرة في الرابع من أغسطس (آب) 2020. مرَّ العام الأول، فوجدت الكاتبة والإعلامية اللبنانية المقيمة في باريس دلال معوض، أنّ الوقت حان لسردٍ يأبى طمس الذاكرة. كتابها «كل ما خسِرَتْ»، الصادر بالإنجليزية عن «منشورات بلومسباري» البريطانية، يروي شهادات عشرين امرأة ضحايا الانفجار، وضحايا قوانين التمييز أيضاً. لماذا جمعت دلال معوض هذه الشهادات، ولماذا حصرتها بالنساء ولماذا بالإنجليزية، وما الهدف من كتابها هذا؟ هنا حوار معها:

• أي مشاعر اختلطت في داخلك وأنتِ تجمعين الشهادات؟

- كتبتُ لثقل إحساسي بذنب أنني نجوتُ ونجا مقرّبون مني. شعوري بأنني محظوظة ترافق مع هذا الذنب القاسي. أنهكني سؤالُ لِمَ مات بعضٌ ولم يمت بعضٌ آخر؟ مشاعر الذنب مرتبطة أيضاً بهجرتي من لبنان. البعض يقول لي، كُفّي عن السماح لهذا الإحساس بالتمادي، لقد قُمتِ بما يجدر فعله. والذنب على صلة شديدة بالغضب. قَلَبَ ذلك اليوم حياتي، بسببه غادرتُ مُحاولةً النجاة. الغضب كبير جراء عدم المحاسبة. خلال جلساتي مع السيدات، وطوال عملية الكتابة، خيَّم الحزن. الحكايات مؤلمة، فشعرتُ بعدم كفاية أن نجلس معاً وأستمع إلى القصص لأكتبها. أحتاج إلى المزيد. ثم تذكّرتُ أنّ دوري الصحافي يقتضي القيام بذلك فقط. أنا هنا لإيصال الصوت.

• في الكتاب هو الكثير منكِ رغم أنكِ لستِ بطلته الوحيدة. لِمَ حصرته بالنساء؟

- لم أقصد ذلك. لاحظتُ، خلال عملي الصحافي، أنّ أقوى القصص مصدرها النساء. كأنهنّ يبحثن دائماً عن مساحة للبوح. وتنبّهتُ إلى أنّ التاريخ العربي والغربي قلّما كتبته امرأة. التاريخ يُكتب من منظار الرجال، علماً بأنّ للنساء دوراً أساسياً في مجرى الأحداث. لا ندرك بالفعل دورهنّ في التاريخ اللبناني القديم والحديث لأنّ المرأة لم تُدوِّن. أردتُ أن يمتلكن هذه السردية ضمن مساحة خاصة.

• المسألة تتعلق بالناجيات، وتتصل أيضاً بالهوية والانتماء وازدواجية القوانين. كيف حوّلتِ أصوات النساء إلى صرخة كبرى ضدّ أشكال الموت اللبناني؟

- الكتاب ليس عن الرابع من أغسطس فقط. هو حكاية انهيار لبنان الحديث من خلال قصص نساء يجسّدن الألم الجماعي؛ ألم كل الشعب. «كل ما خسِرَتْ»، لا تعود للنساء فقط. المؤنث ينطبق على لبنان الدولة، وعلى بيروت المدينة. تتحدّث السيدات عن الانهيار الاقتصادي، وعن وضع المرأة لجهة الأحوال الشخصية والقوانين المجحفة. إنهنّ ضحايا حقبات عنف، والتاريخ يعيد نفسه لحتمية غياب المحاسبة. تبدأ الحوارات من الانفجار، ثم أدخل وكل سيدة في منعطفات.

دلال معوض

• يبدو كأنكِ خشيتِ من أن تُنسى الفاجعة، فسارعتِ إلى التدوين كفعل اعتراض على الإفلات من العقاب؟

- أحد أهداف الكتاب هو التوثيق من أجل المحاسبة. أردته بمثابة ذاكرة جماعية تحتضن أوجاع اللبنانيين. ليس السياسيون ولا موثّقو التاريخ أو الخبراء هم مَن يدوّنون. العمل على الذاكرة الجماعية من خلال حفظ الشهادات، خطوة ضرورية في مسار المحاسبة. جزء من هذا الكتاب هو أيضاً صرخة للالتفات إلى لبنان. كتبته بالإنجليزية ليصل بعيداً. المجتمع الدولي ينسى الانفجار، كذلك جزء من اللبنانيين. أريد العالم أن يتذكّر.

لم تنتهِ الحرب الأهلية ولا يزال التاريخ اللبناني يعيد نفسه لانتفاء العمل على الذاكرة الجماعية. الكتاب يحاول إعادة تشكيلها بأصوات الموجوعين، لعلّ العدالة تتحقّق. لا أخفي أنني خشيتُ من تبدُّد ذاكرة النساء وتلاشي التفاصيل. شعرتُ، بعد عام من الدمار، أنّ الوقت مناسب لطرق الباب. يُقال إنّ المرء يبدأ باستيعاب الصدمة بعد ستة أشهر من المأساة. وفق علم النفس، هذه فترة زمنية ملائمة للحديث عما حصل. نساء كثيرات تكلّمن للمرة الأولى وأخرجن التفاصيل والمشاعر والوجع.

لاحظتُ، خلال عملي الصحافي، أنّ أقوى القصص مصدرها النساء. كأنهنّ يبحثن دائماً عن مساحة للبوح

• كيف اكتملت القصص؟

- عرفتُ بعض النساء من عملي الصحافي، وواحدة قادتني إلى أخرى. قابلتُ أكثر من 30 امرأة قبل التوصّل إلى الشهادات العشرين. قلّة فقط رفضت الكلام. أذكر امرأة طاعنة في السنّ لم تُرد التذكُّر. معظم النساء فتحن قلوبهنّ، فدامت بعض الجلسات ساعات. تركتهنّ يتكلّمن بحرّية ويتولّين إدارة الحوار. زرتُ سيدة خسرت ابنتها في الانفجار. تحدّثنا فأخبرتني عن تعرّضها للعنف المنزلي. حقوق المرأة في لبنان تصدّرت موضوعات كثيرة. تحوّلت المقابلات إلى جلسات علاج. بكين كثيراً، فارتبكتُ حيناً وبكينا معاً أحياناً. الأكيد أنهنّ لم يكنّ قد تخطّينَ بعد.

• أكثر القصص التي أثرت فيكِ...

- تردُ في الفقرة الثالثة من الكتاب، وهي قصص نساء ضحايا الانفجار، وفي آن، ضحايا قوانين التمييز. قصة ليليان شعيتو (دخلت في غيبوبة طويلة وحُرمت من رؤية ابنها). هذه التراجيديا لم تفارقني.

• كم هو شاق، نبش الجروح!

- لم أنبش جروحهنّ، بل فعل الجرح ذلك من تلقائه. لم يكن صعباً الولوج إلى الأعماق. شهادات نساء لبنانيات وأخرى لعاملة منزل ولاجئات سوريات، جعلتني ألمس معاناة المرأة، أكانت لبنانية أم أجنبية.

• هل تشعرين براحة بعد الكتابة؟

- الكتاب جزء من مسار البحث عن الراحة، وهو يساعد في الشفاء. تجعلني القصص وعملية الاستماع إليها وكتابتها، كما كتابتي جزءاً من قصتي، في حالة أقرب إلى الركود النفسي. لكنها غيرها الراحة. رغم أنني لم أفقد عزيزاً ولم يُجرح جسدي، فإنني أسوة بهؤلاء النساء، أبحث عن العدالة. لا أحد يبلغ السكينة والحقيقة لم تُعرف بعد.


مقالات ذات صلة

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق «جدة تقرأ» عنوان معرض الكتاب 2024 (المركز الإعلامي)

الكتاب الورقي ينتصر على الأجهزة الرقمية في معرض جدة

في ظل التطور التقني والاعتماد المتزايد على الكتب الإلكترونية، حسم زوار معرض جدة للكتاب 2024 الجدل لصالح الكتاب الورقي

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية
TT

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري تتعلق بفترة الحملة الفرنسية على مصر وما قبلها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

ويعد الكتاب الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» بالقاهرة بمثابة قراءة نقدية لسيرة واحد من أشهر المؤرخين المصريين في العصر الحديث عموماً والحملة الفرنسية التي عاصرها بشكل خاص وهو عبد الرحمن الجبرتي (1756 - 1825) صاحب الكتابين الشهيرين «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» و«مظاهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس».

يشير عيسى في البداية إلى أن الصعوبات في اكتشاف منهج الجبرتي كمؤرخ تتحدد من خلال عدد من الحقائق، منها أن بعض الباحثين يصنفون الرجل في خانة «الإخباريين» ويرون أن كتابيه مجرد «يوميات» كُتبت في أوانها أو هي «إضمامة» تضم جهد مخبر صحافي غير نشيط.

والجبرتي عند هؤلاء صحافي تلك الأيام التي أرخ لها، وبينما يتحفظ بعضهم فيكتفون بإطلاق الحكم مع بعض قيود على كتاب «مظهر التقديس» فيقولون إن الجبرتي كان فيه كاتب مذكرات أكثر منه مؤرخاً، فإن هذا الحكم يشمل عند آخرين «عجائب الآثار» وبلا تحفظات فهو عندهم كتاب ليس من التاريخ في شيء إنما هو مذكرات وروايات قيد المؤلف شواردها بغير ترتيب ولا تنسيق، تصلح أن تكون مادة للمؤرخ مع شيء غير قليل من الصعوبة والعناء. ولأن «الإخباريين» في رأي البعض ليسوا أصحاب منهج أو موقف، فإن البحث في ذلك عند الجبرتي أمر غير وارد.

ويتفرع عن هذه الصعوبة أن الجبرتي كان معاصراً لمرحلة تزيد على خمسة وأربعين عاماً، كما تشكل أكثر من ثلث الزمن الذي أرخ له، فبعض من ترجم لهم كانت تربطه بهم وشائج وصلات بين صديق له وشيخ تلقى عنه العلم، فضلاً عن تلامذة أبيه وأنداده، حتى أن بعض الحوادث التي أرخها كان طرفاً فيها. وهو ما يجعل جهده كمؤرخ معيباً بالمعاصرة، وهي حجاب يحول دون الرؤية الموضوعية وينقله إلى حيث يصبح مجرد «شهادة معاصر» وليس تأريخاً، وبالتالي فلا محل لاكتشاف منهج أو رؤية، إضافة إلى أن الموقف يتعقد لأن الجبرتي نفسه قليل التعليقات ومعظم أخباره صماء لا يتجاوزها إلى مقارنتها أو تحقيقها أو تفسيرها، وهو يصوغ أحكامه غالباً في كلمات مبتسرة تنطوي تحت مظلة الأحكام الأخلاقية، من مثل: هذا التصرف «ظلم» أو «سخافة» أو «خزعبلات»، وهذا الأمر «شنيع جداً». وهذا الشخص «لعين» أو «كافر»، وبعضها عبارات لا تعكس رأياً في الحدث ولكن استكمالاً للخبر.

لكن صلاح عيسى الذي كتب هذا الكتاب في السبعينيات، وينشر لأول مرة بعد وفاته يعود بحسه كمؤرخ ويؤكد أن تصنيف الجبرتي في خانة «الإخباريين» بشكل مطلق هو خطأ بلا جدال، ولكننا مع افتراض صحته لا نرى أن الإخباريين ليسوا أصحاب منهج أو موقف. والواقع أن اختيار أخبار معينة وإهمال غيرها والحرص على الترجمة لأفراد معينين وترك الآخرين، لهو سلوك يعكس بحد ذاته وجهة نظر ضمنية. وعلى سبيل المثال، فإن الجبرتي في «مظهر التقديس» أغفل من حوادث شهر ربيع الأول 1216. وفق التقويم الهجري، وشهر ربيع الثاني من العام نفسه أكثر من نصف حوادثهما. وعاد في كتابه الثاني «عجائب الآثار» فأورد حوادث الشهرين متكاملة بحسب جهده في التجميع.

ويفسر حجب هذه الأخبار ثم إيرادها موقفاً له، فقد كانت كلها تسجيلاً لقبائح وجرائم ارتكبها العثمانيون عندما دخلوا القاهرة مرة أخرى. وبصرف النظر عن دلالة هذا فيما يتعلق بموقفه من العثمانيين، فهو أيضاً يعكس دلالة على أن الخبر ليس دائماً عرضاً لواقع أصم، ولكنه اختيار من هذا الواقع وما يتحكم فيه هو وجهة النظر أو المنهج، بل إن ترتيب بعض مباحث الكتاب نفسها يمكن أن يكون ذا دلالة.

ويرى صلاح عيسى أنه برغم أن معاصرة المؤلف للحقبة التي يرويها عنصر له تأثيره، فإن هذا التأثير يقل كثيراً هنا، لأننا نعلم أن الجبرتي لم يسجل أخباره هكذا في حينها تاركاً إياها مادة خام دون تنسيق أو تعديل. لافتاً إلى أن الدافع للجبرتي على كتابة تاريخه معروف فقد كلفه أستاذه الزبيدي في عام 1779 حين كان الجبرتي في الخامسة والعشرين من عمره بمساعدته في الترجمة لأعلام المائة المنصرمة من مصريين وحجازيين، والمراحل التي مر بها تاريخ القرن الثالث عشر الهجري، ثم دوّن بعد ذلك يوميات للمراحل التي عاصرها. المهم في هذا كله ّأن النص الذي تركه لنا الجبرتي ليس هو نص تدويناته اليومية التي كان يسجلها، ولكنه عمل تفرغ له فيما بعد لإعادة تنسيق ما كتب وتبويبه وكان وقتها قد جاوز الخمسين من عمره.

كما أن بعض الظواهر التاريخية كانت قد استكملت ملامحها، وهو بالقطع ما أتاح للجبرتي فرصة للتخلص من تأثير المعاصرة في حدودها الضيقة ومكنه من استخلاص نتائج ربما لم تكن واضحة أمامه وهو يسجل الأحداث اليومية وقت حدوثها ونقل عمله بدرجة محدودة من إطار الأخبار الأصم إلى أفق أكثر رحابة.

ولأن التاريخ عند الجبرتي هو تحقيق لإرادة عليا لا يملك الإنسان الفكاك منها وكل ما حدث له من مظالم هو «انتقام سماوي» لخروجه عن الناموس، فقد كان طبيعياً أن ينظر إلى التكوين الاجتماعي باعتباره خاضعاً لتركيب طبقي حديدي يخضع فيه الصغير للكبير والدنيء للشريف والأدنى للأعلى. في هذا الصدد يبدو الجبرتي أكثر تزمتاً من أي شيء آخر، فكل شيء لا يداني عنده الإخلال بالتصميم الاجتماعي المستقر، فعلى المماليك وهم القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية المتنامية والقادمة من خلفية العبودية والرق أن يتبعوا التقاليد تجاه أمرائهم، فإذا ما خرجوا عنها أثاروا غضبهم. ومن ثم يرى الجبرتي أن من الأحداث التي تستحق الرواية أن المماليك قد تزوجوا وصار لهم بيوت وخدم ويركبون ويغدون ويروحون ويشربون وفي أيديهم شبكات الدخان من غير إنكار وهم في الرق ولا يخطر ببالهم خروجهم عن الأدب لعدم إنكار أسيادهم وترخيصهم لهم في الأمور.

لم يكن غريباً أن يكون من أعمال «هيئة الديوان»، التي كان الجبرتي من أعضائها على عهد قيادة الجنرال مينو للحملة الفرنسية، أن يحذر القائد الفرنسي الذي خلف نابليون بونابرت من الثورة الشعبية، وأن يصوغ تحذيره في أن الثورة يقوم بها الدهماء فلا يخسرون شيئاً، وإنما يخسر الذين يملكون المال أو النفوذ، فقد ذكر أن أعضاء الديوان المذكور دعوا مشايخ الحارات والأخطاط وحذروهم مما يترتب على قيام المفسدين وجهل الجاهلين، وأن مشايخ الحارات هم المأخوذون بذلك كما أن من فوقهم مأخوذ عنهم، فالعاقل يشتغل بما يعنيه.

ومع ذلك، لا يبدو الجبرتي في تأريخه لثورة 1805 التي قام بها المصريون ضد الاحتلال الفرنسي للبلاد، معارضاً لها، بل إننا نستشعر روحاً من التعاطف في روايته لأحداثها، فقد خلت عباراته من أوصاف «الأشرار» و«أوباش الناس» في وصف الجماهير. وفي كل المناقشات التي دارت بين قادة الثورة والوالي العثماني والتي كان الثوار فيها يستندون إلى أن من حقهم بمقتضى الشريعة أن يعزلوا ولي الأمر إذا سار فيهم بالظلم، بدا الجبرتي موافقاً على هذا الرأي ووصف رفض الوالي له بأنه «خلاف وعناد».