حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

كتاب جديد هو قطاف الوباء والحجر

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة
TT

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

حياة ألبرتو مانغويل القارئ الأكثر شراهة

لم يكن «تاريخ القراءة» هو أول كتاب سطره الكندي - الأرجنتيني المولد، ألبرتو مانغويل، لكنه المؤلَّف الذي صنع شهرة صاحبه، بعد أن صدر عام 1996 وترجم إلى 35 لغة، ثم دخل لوائح الكتب الأكثر مبيعاً، ولوقت طويل. هكذا أصبح ألبرتو مانغويل بين ليلة وضحاها اسماً عالمياً مشهوراً، وعرف بأنه «الرجل الذي لا يكفّ عن القراءة» لا بل هو «القارئ الأكثر شراهة»، وبأنه «لا يكتب سوى عن الكتب»، وهو ما حقق له خصوصية وتمايزاً عن باقي كل كتّاب عصره.

لمحبي مانغويل

ولعشاق مانغويل أصدرت «دار الساقي» في بيروت، الترجمة العربية لكتاب «حياة متخيلة» الذي هو عبارة عن حوار طويل معه أجرته سيغلندة غايزل، وعربه مالك سلمان. وهو أقرب إلى سيرة ذاتية، يرويها بنفسه من خلال الإجابة عن أسئلة تتعلق بطفولته، وعلاقته بوالديه، وتأثير اللغات في الخيال، وعمله مع بورخيس وهو في السادسة عشرة من عمره يتلو عليه الكتب، وحبه للكتب، ودوره بصفته مدير المكتبة الوطنية في الأرجنتين، وصلته بالأدب بوصفه علاجاً، وما تأثير مربيته إيلين عليه، ومواضيع أخرى.

اللقاء بين مانغويل وغايزل كان مبرمجاً إجراؤه قبل الوباء، ولم يوقفه الوضع الصحي الاستثنائي الذي عاشه العالم. لا بل يبدو أن مانغويل أسعدته الإقامة القسرية في المنزل، وساعدته على أن يكون أكثر خصباً. فالكتاب يبدأ باعترافاته حول حبه ملازمة البيت، وحبوره بهذا النمط الحياتي المريح، هو الذي تعب من كثرة التسفار خاصة في السنتين اللتين سبقتا الوباء. «على الرغم من رؤية الألم والأسى من حولي فأنا في غاية السعادة في البيت. كنا نسكن على بعد شارعين من نهر هدسون، وكنت أمشي بمحاذاة النهر لفترة وجيزة، ثم توقفت عن ذلك. فأنا أعاني من الربو والسكر وأمراض أخرى كثيرة، ولا أريد المجازفة. طالما التزمت البيت منذ ولادتي التي صادفت يوم 13 مارس (آذار)، وأشعر بالامتنان لكل يوم أعيشه». وبطرافة يتمنى مانغويل لو يخصص العالم بعد انقضاء الوباء أسبوعاً كل شهر، يبقى فيه الناس في بيوتهم ولا يخرجون إلى أي مكان.

القارئ حين يصبح كاتباً

قدم مانغويل نفسه باستمرار على أنه قارئ أكثر مما هو كاتب. ولذلك سأل نفسه ذات يوم: «ما الذي أفعله كقارئ؟ وعندما شرعت في الكتابة، سرعان ما أدركت أن ثلاث صفحات لن تكفي، وسوف أحتاج إلى ثلاثمائة صفحة على الأقل، كي أجيب. كان عليّ أن أدقق في كل ما يأتي على ذهني. ما الذي يحدث في ذهني حين أقرأ؟ كيف ترتبط القراءة بالذاكرة؟ ولماذا نقرأ بصمت؟» بالطبع الإجابات التي صدرت في كتاب «تاريخ القراءة» عام 1996 حققت نجاحاً لم يكتب لأي مؤلف سابق لمانغويل، رغم أنه أصدر الروايات والترجمات والتأملات.

فما سرّ هذا النجاح؟ لعله تناول موضوعاً لم يتطرق إليه أحد من قبل بهذه الصيغة. جاء نصه فاتناً فعلاً. صحيح أن الكتب حول القراءة كثيرة، لكن تناولها من وجهة نظر القارئ هو الجديد في الموضوع، وكذلك بأسلوب شخص لا يعتمد على نظريات كبرى أو يستخدم مصطلحات معقدة.

محبو مانغويل سيجدون في الكتاب الجديد صفحات عن طفولته التي قضاها وحيداً من دون أصدقاء أو أشقاء في سنه. فهو الطفل الأكبر الذي بقي بعيداً عن إخوته معظم الوقت. «لم أكن على احتكاك مع أي أطفال. لا أعرف لماذا لم يعرفوني إلى أطفال آخرين لألعب معهم؟». ويصف ظروف تلك المرحلة الحساسة من حياته بأنها «فريدة» لأنه عاش تقريباً بلا رعاية أب أو عطف أم، بل على يد مربيته إيلين حتى سن الثامنة. فالأم بدت أنانية، لا تعنى إلا بحياتها الاجتماعية، وحفلاتها، ولهوها الذي تقدمه على كل اهتمام بأطفالها. أما والده فلم يكن أحسن حالاً. كان يعيش حياة مزدوجة مقسماً بين عائلتين، وهو لا يعبأ بأطفاله ولا يعرف عن احتياجاتهم إلا القليل.

خير جليس في الوحدة كتاب

الوحدة عوضها ألبرتو بابتداع علاقة خاصة وحميمة مع الكتب. وهو ما دفعه للكتابة حول هذه العلاقة من وجهة نظر لا تخضع لأفكار معلبة. ويمكننا القول إن ألبرتو يقدم في الكتاب رأياً جريئاً للغاية حين يبدي نفوره من النظريات النقدية الحديثة: «لم أدرس النظريات الأدبية قط، ولم أقرأ أي دراسات أكاديمية. لا أقرأ دريدا، وليفيناس، وبورديو، وعندما حاولت قراءتهم لم أشعر بأي اهتمام كان». مانغويل ليس من محبذي آراء أولئك الذين يخترعون مصطلحات صعبة لتوصيف مفاهيم يعتقدون خطأً أنهم هم من اخترعوها.

لكن ألبرتو، في المقابل ينهل معارفه من كتّاب لهم رؤية رحبة مثل جورج ستاينر، وفلورونس دوبون، وغيرهم كثير.

ومعلوم أن أحد الذين أثروا بعمق في مانغويل هو أستاذه خورخي لويس بورخيس، فمنه تعلم الاستغناء عن النظريات الأدبية، «وأن المعرفة التي يقدمها الأدب تأتي من المتعة التي نستمدها من الكلمات والأفكار، ومن الطريقة التي يتم التعبير بها عن هذه الأفكار».

وإذا كانت مربيته إيلين التي أحبها حباً جماً هي التي شكلته حتى سن الثامنة، فإن بورخيس الذي التقاه لأول مرة وهو في سن السادسة عشرة، كان له الدور الأكبر في نشأته المعرفية. كان مانغويل يعمل يومها في محل لبيع الكتب، حيث تعرف إليه. وعندما فقد بورخيس نظره، في منتصف الخمسينات من عمره، اختار ألبرتو قارئاً له بصوت عالٍ بالإضافة إلى عشرات الأشخاص الآخرين. لم يكن يريد أن يقرأ له، من اختارهم، ما لا يعرف، وإنما ما كان قد قرأه قبلاً لإنعاش ذاكرته. استمر بورخيس بعد العمى بكتابة الشعر وبعد 10 سنوات، عاد لكتابة القصص بعد توقف. «كان يؤلفها في ذهنه ثم يمليها سطراً تلو سطر، وكأنه انتهى من كتابتها سلفاً».

إيلين المربية المثقفة

ربما إلى إيلين، مربيته التشيكية - الألمانية، يعود الفضل في تثقيف ألبرتو؛ إذ يروي أنه بالنسبة إلى إيلين لم يكن اللعب جزءاً من تربيتها، وإنما «كان من الطبيعي أن يعرف الطفل الجغرافيا والتاريخ والرياضيات، وأن يحفظ الأعمال الأدبية العظيمة عن ظهر قلب. كما علمتني بعض المهارات مثل الخياطة والطبخ»، ويشرح خلفيات اهتماماتها هذه: «كانت فكرة الثقافة هذه جزءاً أساسياً من الحياة العادية» بالنسبة لها. روت له كيف أن عائلتها كانت تجتمع وتقرأ المسرحية وتناقشها، قبل أن تذهب لمشاهدتها في المسرح.

في الرابعة، اكتشف مع إيلين القراءة: «شعرت بأنني ساحر، إذ يمكنني تحويل بقع الحبر إلى كلمات. ولم أعد بحاجة لانتظار إيلين لتقرأ لي كي أستمر في اكتشاف الحكاية». ما لا يمكن تجاهله أن إيلين كانت تفتقد إلى أي حس للفكاهة أو النكتة، لكن من ميزاتها أنها تركت له في النهاية حرية أن يكون ما يريد، وهو في غاية التقدير لتلك المساحة الحرة التي أعطيت له.

ولا بد من الإشارة إلى أن الكتاب يعود مرات عديدة، إلى تجربة الوباء والحجر، وانعكاساته على المجتمع. كما نقرأ طويلاً رأي مانغويل في الأدب والأدباء الذين أحبهم وتأثر بهم. ومن المواضيع المهمة قوله: «الكتابة ليست مشروطة بالفقر»، مشيراً إلى أن كتاباً ليسوا بالقلة كانوا ميسورين، والربط باستمرار بين الكتابة وفقر الكاتب مفهوم خطر يسمح للمجتمع بالقول: «لسنا بحاجة إلى تمويل الآداب والفنون؛ لأن الإبداع سيأتي في جميع الأحوال».

يبدي مانغويل إعجابه بالثقافة العربية – الإسلامية؛ إذ يقول: «لا أعتقد أن هناك أي ثقافة أخرى تحتوي على هذه العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والشعر. أحب استكشاف الأفكار الدينية، وذلك الانتقال من الفكر اليوناني إلى الإسلام. ولأنني لست مؤمناً فأنا لست مهتماً بالأوجه العقائدية للإسلام أو المسيحية أو اليهودية».

العيش في اللغات

يتكلم مانغويل عدة لغات بطلاقة. اللغة الأولى التي تحضره بشكل عفوي هي الإنجليزية، وعندما يكون في بلد يتحدث الإسبانية أو الفرنسية، فإن اللغة الطبيعية تتغير بعد بضعة أيام، هذا عدا الألمانية التي لم يعد يستخدمها وتعلمها من مربيته إيلين. أما في الكتابة فهو يكتب بالإنجليزية والإسبانية والإيطالية، وله كتب باللغات الثلاث.

ألبرتو مانغويل الذي يهجس بالكلمات، وعاش بين اللغات، وعرف بحبه للبلاغة، حين تعرض لجلطة دماغية عام 2013 عاش تجربة يصفها بـ«المذهلة»، ليس فقط لأن الجسر الذي يربط الكلمات في دماغه قد انهار، وأنه فقد العديد من قدراته قبل أن يستعيدها، وإنما الممتع في الأمر هو أن هذه التجربة الاستثنائية أتاحت له تأمل حركة دماغه في حالة لم يعهدها، وأن يفهم ويعاين قدرته على التعامل مع اللغة، في شروط لم تتح له من قبل. أما عن الكتابة «فباستثناء اللجوء المتزايد للصور اللغوية، لم ألحظ أي تغير، فربما كانت عملية الإصلاح التي حدثت في دماغي فعّالة بشكل كبير. فأنا أجد متعة كبيرة في قدرة المرء على الوقوف خارج ذاته ومراقبة نفسه وهو يفكر».


مقالات ذات صلة

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

ثقافة وفنون روايات رومانسية سريعة الاحتراق

روايات رومانسية سريعة الاحتراق

تميل الرومانسية إلى بناء نتائج إيجابية من قرارات فظيعة. وتدور رواية «الحقيقة وفقاً لأمبر» التي كتبتها دانيكا نافا حول بطلة تتخذ المزيد من القرارات السيئة

أوليفيا وايت
ثقافة وفنون سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

«حكايا لبنانية في الأزمة»... وباء وأوجاع وفواجع لكن أيضاً قوارب نجاة

بدأت الحكاية في أبريل (نيسان) 2020. كان زمن الحَجْر وغلبة العزلة، حين لمحت الصحافية اللبنانية جودي الأسمر تجّاراً في منطقتها يدّعون الالتزام بالإغلاق العام

فاطمة عبد الله (بيروت)
الولايات المتحدة​ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون على خشبة المسرح في قمة المرأة في العالم بحي مانهاتن في نيويورك 6 أبريل 2017 (رويترز)

هيلاري كلينتون تنتقد نتنياهو وطلاب جامعة كولومبيا في كتاب جديد

في كتابها الجديد، انتقدت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لتَحَمُّله «صفر مسؤولية» عن هجوم 7 أكتوبر.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
كتب مايا ويند

كيف تنخرط الجامعات الإسرائيلية في حرب إلغاء الفلسطينيين؟

ساهمت التظاهرات الطلابيّة التي شهدتها جامعات ومؤسسات تعليمية في دول الغرب احتجاجاً على العدوان المستمر على قطاع غزّة في إلقاء الضوء على نكبة الفلسطينيين

ندى حطيط

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس
TT

في البدء كان الزمان

غريمي فوربس
غريمي فوربس

لم أزل أذكر الضجة الكبرى التي رافقت نشر كتاب «موجز تاريخ الزمان» للفيزيائي الراحل ستيفن هوكنغ عام 1987. مثّل هذا الكتاب حينها انعطافة محسوسة وعملية في تاريخ النشر العلمي على النطاق الشعبي الواسع؛ إذ فضلاً عن شخصية كاتبه ذي العقل الحر والجسد المقيّد بعجلات أربع فإنّ طبيعة المادة المعروضة فيه كانت مثالاً متوازناً للمقدرة على المواءمة العملية بين متطلبات الكتابة الفيزيائية الصارمة وشروط المقروئية الواسعة. كانت «دار المأمون» العراقية المختصة بالترجمة أوّل دار نشر عربية سارعت في ترجمة هذا العمل بعد قرابة السنتين من نشره؛ فقد صدر أوائل عام 1990 أو ربما أواخر عام 1989، ولم يكن مترجمه (باسل محمد الحديثي) فيزيائياً بل كان مختصاً بالهندسة الكهربائية وهندسة الحاسوب والسيطرة والنظم الهندسية. الدهشة الفلسفية والمساءلة الفكرية للأسئلة الكبرى في الكون ليست حصرية على فئة دون أخرى من المهنيين أو العامة.

غلاف «فلسفة الزمان»

قرأتُ الكتاب حينها بشغف، وكان كتاباً رائعاً بكلّ الاعتبارات، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هوكنغ بدا وكأنّه آلة احتسابية لا تستطيبُ أيّ ميل فلسفي، هذا إذا لم نَقُل إنّه يرى الفلسفة اشتغالاً غير منتج. قد يستطيع فيزيائي أن يتملّص أو يناور على المداخلات الفلسفية الضرورية عندما يتناول مادة تقنية خالصة، لكن كيف له ذلك وهو يتناولُ مفهوماً غارقاً في لجج التفكّر الفلسفي العميق: الزمن Time الذي يحسبه فيزيائيو عالمنا المعاصر أسبقية على كلّ ما سواه من مكان أو مادة أو حركة. كلّ مفهوم أو فكرة أو موجود مادي إنما هو مقترن اقتراناً شرطياً بالزمان ودالة له. نحن في النهاية مخلوقات الزمان وغارقون فيه. لم أستطِب هذه النكهة العدائية لهوكنغ تجاه الفلسفة، ثم أفصح الرجل لاحقاً عن موقفه الكاره للفلسفة باعتبارها غير كفؤة في تناول الموضوعات مثلما يفعل العلم. هذا رأي هوكنغ بالتأكيد، وثمة كثيرون من أعاظم الفيزيائيين يخالفونه الرأي، مثلما أنّ هناك قلّة يعاضدونه، ومنهم ريتشارد فاينمان، الذي كتب، في كتابه السيري المترجم إلى العربية «أنت تمزح بالتأكيد سيد فاينمان»، أنّ أسوأ يوم في حياته هو ذلك اليوم الذي صارحه فيه ابنه برغبته في دراسة الفلسفة.

الزمان في سياق الفلسفة العلمية

لم يكن كتاب «موجز تاريخ الزمان» أوّل عهدٍ لي بالفلسفة العلمية أو فلسفة الفيزياء (وفلسفة الزمان والمكان على وجه التخصيص). سبق لي في سبعينات القرن العشرين أن قرأتُ كتاب «نشأة الفلسفة العلمية» لفيلسوف العلم الألماني هانز رايشنباخ، الذي ترجمه الفيلسوف الراحل فؤاد زكريا. لطالما أعجبتُ كثيراً بترجمات وأعمال الدكتور زكريا وجهوده الفلسفية التنويرية وانتخابه لأعمال معروفة بثرائها الفكري والفلسفي. أمضيتُ أياماً رائعة مع كتاب رايشنباخ الذي نقرأ فيه موضوعات على شاكلة: قوانين الطبيعة، هل توجد ذرات؟، التطوّر، المعرفة التنبؤية، هاملت يناجي نفسه، طبيعة علم الأخلاق، مقارنة بين الفلسفة القديمة والجديدة. كتاب رايشنباخ - كما أرى - أكثر إمتاعاً بكثير من كتاب هوكنغ، فضلاً عن النكهة الأدبية والفلسفية الرائقة السائدة فيه. ثمة فصل في الكتاب عنوانه: ما الزمان؟ ومن هنا كانت نقطة الشروع لي في التدقيق بمفهوم الزمان على المستوى الفلسفي. علمتُ في سنوات لاحقة أنّ رايشنباخ ألّف كتاباً كاملاً عنوانه «The Philosophy of Space and Time»، لكنّه لم يترجم إلى العربية للأسف، ولم نكن في القرن الماضي بقادرين على اقتناء كلّ ما نرغب بقراءته من كتب لأسباب عملية معروفة.

الفلسفة وأبعاد الزمن

لو سلّمنا بمقولة الفيلسوف كانْت، عن استحالة تعريف أبعاد الزمان الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فإننا سنغرق في بحار المقولات الفلسفية ونتبدد ونبدد الزمان في تساؤلاتنا. وضَعَ كانْت أمامنا شرط المستحيل؛ فالماضي هو الذي تبدّد وما عاد موجوداً، والمستقبل هو ما لم يَحِن أوانه بعدُ؛ فلا يتبقى من ممكن خاطف كالبرق الخُلَّب إلا الحاضرُ، وهو ليس الوقت كله، لكنه الزمان الذي تدركه الحواس ويعيه العقل وتعبره أجسادنا الحية في حركتها أو سباتها.

يكتب القديس أوغسطين: الزمان هو أكثر من شيء واحد، فهو بُعْدُ الوعي الذي يتوجه انطلاقاً من الحاضر نحو المستقبل في الانتظار، ونحو الماضي في التذكر، ونحو الحاضر في الانتباه؛ وعلى هذا فالحاضر هو برهة انتباهنا لوجودنا في المكان والزمان، أو كما يقول برغسون: «لا وجود للماضي ولا للمستقبل. ليس الوقت إلا هذا الشعور بالتعاقب لهذه اللحظات الآنية، وإنّ ذكاءنا هو الذي يفهم الوقت انطلاقاً من اللحظة الآنية، يربطه بالمكان لأنّ الآنية ليست من طبيعة الزمان، وإنما من طبيعة المكان. في مقابل هذا الزمان الفيزيائي هناك الزمن النفسي (الديمومة). الديمومة ليست آنية، هي متصلة لأن الشعور في حاضره غير منفصل عن ماضيه وهو مقبل في الوقت نفسه على المستقبل، كما أنها (الديمومة) ليست قابلة للقياس ومتجانسة. هذا هو الزمان قبل أن يتصرف فيه ذكاؤنا ويفككه إلى لحظات متمايزة».

الزمن عند هايدغر هو ما يحقق لنا الوجود؛ فهو يرى أن الزمان يقذف الإنسان باستمرار، وهو ما جعله الوحيد الذي يوصف بأنه موجود. الوجود لا يعني الخضوع للزمان، وإنما أن يقذفك الزمان دوماً نحو المستقبل، ونحو الممكن، ويكون عليك الاختيار وتبريرُ الاختيار. هذا هو القلق الوجودي الملازم للكائن البشري.

لكن ثمة اقتران يبدو حتمياً في حدود خبرتنا البشرية بين الزمان والمكان. استطاع آينشتاين في نظريته النسبية العامة، وبضربة تنمّ عن أستاذية لامعة، ربط الزمان والمكان في مفهوم واحد هو الزمكان Space-time، لكن يبدو أنّ الزمان يتقدّمُ على المكان. هذه العلاقة الشرطية بين الزمان والمكان هي الأساس الفلسفي الذي تنبثق منه كلّ تساؤلاتنا العميقة بشأن وجودنا البشري. نحن في النهاية كينونات مادية توجد في محيط متصل من الزمكان، ومحكومون بشروطه، وليست كل مفاهيمنا عن الكينونة والهوية والعلاقات البشرية سوى تجسيدات لوجودنا في هذا الزمكان.

فلسفة الزمان في كتاب حديث

لم تعد فلسفة الزمان مبحثاً فرعياً في سياق دراسة فلسفة العلم. تأسست مراكز بحثية مستقلة لدراسة فلسفة الزمان في كبريات الجامعات العالمية الرصينة، وصارت كتب كثيرة تنشَرُ بحثاً واستقصاء للتطورات الحثيثة في مفهوم فلسفة الزمان وتأثيراتها المؤكدة في إعادة تشكيل رؤيتنا العلمية للعالم، وربما فلسفة الزمان تتماثل في أهميتها مع فلسفة العقل ونظرية المعرفة في علاقة كل منهما مع التطورات الحاصلة في علم الحاسوب والذكاء الاصطناعي.

من الكتب الحديثة المنشورة في فلسفة الزمان كتابٌ ألّفه البروفيسور غريمي فوربس Graeme A. Forbes ونشرته حديثاً دار نشر «راوتليدج» العالمية، ضمن سلسلتها المعروفة الأساسيات The Basics. الأستاذ فوربس مختص بفلسفة الزمان، عمل لأكثر من عقد في قسم الفلسفة بجامعة كنت البريطانية قبل أن يتقاعد عن التدريس فيها عام 2022.

الكتاب طبق فلسفي بتوابل لذيذة ستثير شهية كلّ من تمرّس بالقراءات الفلسفية الخاصة بالموضوعات التأصيلية الأساسية: أصل الزمان والمكان، أصل الوعي، أصل الكون، أصل الحياة. ولما كان الزمان سابقاً لكلّ هذه الموضوعات وشرطاً لوجودها فسيكون من الضرورة اللازمة إيلاؤه قدراً غير يسير من الاهتمام والمساءلة.

بعد مقدمة تمهيدية يبدأ الكتاب بموضوعة جوهرية لكلّ كتاب يتناول فلسفة الزمان، أقصد بذلك مفهوم التغيّر Change. التغيّر هو حجر الأساس في بناء كلّ فلسفة منتجة للزمان، ومنها يمكن الانطلاق لإثراء الموضوع، وهذا هو ما فعله المؤلف تماماً في فصول لاحقة تناول فيها: اختبار التغيّر، واختبار الذات، ثمّ يتناولُ موضوعات النسبية والآنية، وسهم الزمان، والسفر عبر الزمان، الانحياز الزماني، إعادة كتابة التاريخ، العيش في الحاضر.

عقب مقتبس من مقطع شعري لإليوت، يكتب المؤلف في مقدمته:

«لم أحاولْ أبداً إخفاء شخصيتي أو آرائي عن القارئ. تتبدى آرائي في عدد من الكيفيات، منها: اختيارُ الموضوعات. العديد من المقدمات المكتوبة عن فلسفة الزمان تركّز بؤرتها البحثية على الميتافيزيقا أو فلسفة الفيزياء فحسب. فعلتُ هذا مثلما فعلوا، لكنني لم أكتفِ به، بل اجتهدتُ لتضمين موضوعات أخرى مثل فلسفة التاريخ؛ لأنني أرى أنّ موضوعات التاريخ يجب أن تكون مبعث إثارة وتفكّر لدى كلّ من يشتغلُ في نطاق فلسفة الزمان...».

يبدو الكتاب مُعدّاً عن منهاج دراسي جامعي لأنّ الصبغة البيداغوجية (التعليمية) واضحة فيه. أرى في هذه الخصيصة مصدر قوة للكتاب لأنّه سيفي بمتطلبات التعلّم الذاتي التي صارت سمة شائعة في معظم الكتب المنشورة حديثاً. يبدو أنّ المؤلفين المعاصرين باتوا يتلمّسون روح العصر الحديث حيث التعلّم الذاتي Self-Study سيكون النمط الشائع للتعلّم فيه عمّا قريب، وبخاصة مع انفتاح الفضاء الرقمي على فضاءات لا محدودة من البيانات الكبيرة ومصادر المعلومات.

فلسفة الزمان: الأساسيات

Philosophy of Time: The Basics

المؤلف: غريمي فوربس

Graeme A. Forbes

الناشر: Routledge, Taylor & Francis Group

السلسلة: The Basics

عدد الصفحات: 224

السنة: 2024