سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

ثريا التركي تحكي رحلتها من «عنيزة» إلى كاليفورنيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا
TT

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

سيرة أول امرأة سعودية تتخصص في عِلم الأنثروبولوجيا

في كتابها «حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا»، الصادر أخيراً عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة، تطرح الدكتورة ثريا التركي سؤال الهُوية والثقافة من خلال اقتفائها للجذور التي تتواصل معها ببصيرة مشهدية فائقة، تحكي من خلالها سيرتها الذاتية كأول سعودية تتخصص في مجال الأنثروبولوجيا بعد دراستها لها في أميركا، وتدريسها لها فيما بعد في جامعاتها العريقة مثل هارفارد وكاليفورنيا وجورج تاون وبنسلفانيا، لتصير من أوائل السيدات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه في بلادها وسط سياق مجتمعي كان يتحفظ على تعليم الفتيات، لا سيما التعليم العالي.

تبدأ ثريا التركي الحكاية من سيرة الطفلة «ثريا» التي كانتها، وتفتحت عيناها على الحياة بوصفها: «الابنة الصغرى لشيخ نجدي وربة منزل حجازية»، ورغم الوجهات الجغرافية المتباعدة التي تتوالى في كتابها المكرس لرحلتها الممتدة بين الثقافات والمدن والمؤسسات التعليمية، فإن مدينة «عنيزة» السعودية تظل البؤرة المركزية بين تلك الوجهات، ففيها ولد الأب «محمد السليمان التركي»، الذي تستهل الكتاب بتحية له، فلولاه ما استطاعت اعتلاء سلم التعليم الذي امتد بها لتصبح أستاذة جامعية في مجال الأنثروبولوجيا. تقول: «إذا كان الكثيرون يعتبرون أنني كنت استثناءً في الانتصار على التقاليد السائدة في مجتمع شبه الجزيرة غير المتحمس لتعليم الفتيات حتى العقد السابع من القرن العشرين، فإنني أعتبر أن الاستثناء الحقيقي هو أبي بسماحه لي بالانخراط في التعليم، سواء في مدارس لبنان أو مصر ثم دخولي الجامعة الأميركية في القاهرة».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي ليبدو صوتها هو ابن السياق التاريخي والمجتمعي والثائر عليه في آن واحد، فهي ابنة لأسرة تقليدية لأب وأم اختارت أن تُخصص عن سيرتهما الفصل الأول من الكتاب الذي أطلقت عليه «نبتدي منين الحكاية؟» بما يحمله العنوان من نوستالجيا غنائية يمكن سماع أصدائها على مدار الكتاب.

وُلد الأب محمد السليمان التركي في مدينة «عنيزة» التابعة لمنطقة القصيم وسط شبه الجزيرة العربية التي كانت في سنوات القرن العشرين الأولى تتبع ما يُعرف بسلطنة نجد، وتتبع الكاتبة سيرة والدها إلى أن يقرر الهجرة إلى الحجاز (جدة) تحديداً. وهي هوامش تحرص الكاتبة على ذكرها في الربط بين تتبع سيرتها الذاتية وسيرة الوطن السعودي وتحولاته، ليس فقط على المستوى السياسي ولكن على المستوى الاجتماعي، كما تربط الكاتبة بين الانفتاح المبكر على تعليم البنات باعتباره نتاجاً لتعرض بعض الأسر النجدية والحجازية لثقافة حواضر مصر والشام، ما بدأ يسفر عن إرسال أوائل البنات السعوديات للالتحاق بالمدارس في أواسط أربعينات القرن الماضي، في وقت كانت جدة لا تعرف سوى بعض المدارس غير الرسمية «الفقيهة» لتعليم البنات قراءة القرآن وأعمال الخياطة والتطريز.

مشاعر مُركبة

ساهم هذا الانفتاح النسبي على الخارج وما شهده من بداية تعليم الفتيات، في أن تُرسل الأسرة ثريا إلى مدرسة داخلية إنجليزية في لبنان تحت رعاية أسرة لبنانية صديقة لأسرتها، وبرغم التعليم المميز الذي كانت تتلقاه في ذلك الوقت، فإنها لمست في تلك الفترة التعامل مع الصرامة، والغربة التي شعرتها مع استماعها للهجة اللبنانية للمرة الأولى، مروراً بتعرفها على الطقوس الدينية المسيحية بوصفها في مدرسة «تبشيرية»، أما ما لم تستطع نسيانه فهو شعورها المبكر بعدم تقبل المعلمات لها، ما راكم داخلها شعوراً بالاختلاف «كنت في أعينهن بدوية همجية، انطلاقاً من نظرة استعلائية نمطية كنت أشعر بها على الدوام من جانبهن»، وهي مشاعر تنفير تدريجية قادتها ذات يوم للانفجار في وجه معلمة أهانتها وأهانت أمها، ما قاد «ثريا» الطفلة في هذا الوقت لصفع تلك المعلمة التي أهانتها، في مشهد من المشاهد التي لا تُنسى في الكتاب، وهي تقول: «كانت هذه هي بدايات لمقاومتي لما تصورته محاولات لقهري».

بوح ومصارحة مع الذات

بصفة عامة، لا تسعى ثريا التركي في كتابها لرسم صورة مثالية عن نفسها بقدر ما تتلمس الصدق وهي تتذكر لحظات بعيدة من حياتها، أو حتى تعيد محاولة فهم مشاعرها المبكرة، خاصة حيال مشاعر الاستعلاء أو عدم التقبل أو التهميش، بما في ذلك علاقتها بأقرب الناس لها، فهي تعترف أن علاقتها بوالدتها كانت «مُركبة»، فرغم حبها الشديد لها فإنها تقول في لحظة مكاشفة خاصة: «أعترف بعد كل هذا العمر وقلبي يعتصره الألم بأنني كنت أخجل من والدتي، لأنها لم تتحصل على تعليم جيد - وكذلك أبي - ولم تكن تجيد لغات أجنبية، فالكثير من أمهات صديقاتي المصريات يُجدن إما الإنجليزية وإما الفرنسية»، تظل ثريا في حالة مراجعة لهذا الشعور وعدم الارتياح له، فتسأل نفسها مراراً: «لماذا فعلت ذلك؟ لماذا كنت أخجل من أمي؟».

تتمسك الكاتبة بروح البوح والمصارحة في محطات الكتاب المختلفة، كالتي تحدثت فيها مثلاً عن مرحلة دراستها الثانوية في مصر في مدرسة «كلية البنات الإنجليزية» بمدينة الإسكندرية، وانفتاحها على جنسيات مختلفة من مختلف العالم، والكثير من روح الشغب أو «الشقاوة» كما تصفها وهي تروي ملامح منها بحس طريف، وسرعان ما تربط تلك الأيام بالأحداث المركزية التي كانت تعيشها مصر من اضطرابات سياسية تزامنت مع فترة تأميم جمال عبد الناصر قناة السويس وما تبعها من عدوان ثلاثي على مصر.

مفترقات الطرق

تصف ثريا التركي أكبر وأصعب تحدٍ واجهته على الإطلاق وهو إقناع والدها بأن يسمح لها بدخول الجامعة، وما كان يصاحبه من تصورات نمطية ترتبط بالانفلات الأخلاقي، فتروي كيف كانت الحياة الجامعية في هذا الوقت ترتبط في صورتها الذهنية بأعمال إحسان عبد القدوس التي تقول إن تأثيرها كان كبيراً على الصورة الذهنية عن الجامعة لدى الأوساط المحافظة في العالم العربي.

تروي ثريا عن الوساطات العائلية التي ساهمت في إقناع والدها، بالموافقة على التحاقها بالجامعة الأميركية بالقاهرة، التي تصف كيف كانت في فترة الستينات قبلة للطلاب العرب، وسط تطلعاتها للشعور بالاستقلال، وهي معركة تظل تقطعها ثريا التركي حتى بعد تخرجها وصولاً لمعركتها الأكبر لتحضير الدراسات العليا في الولايات المتحدة وسط مشاعر متخبطة بالخوف من هذا المجهول الأميركي، وعدم الرغبة في العودة إلى بلادها، بعد إتمام دراستها الجامعية في مصر: «أي أمان في حياتي سيكون في عودتي إلى السعودية والحياة في كنف زوج يتحكم في شؤوني، وأصبح ظلاً لقراراته؟».

تتقاطع السيرة الشخصية للمؤلفة مع محطات مفصلية في الخريطة التاريخية والثقافية على المستويين السعودي والعالمي

تدرس ثريا في جامعة «بركلي» بقسم الدراسات العربية وتنخرط في دراسة الأنثروبولوجيا في مسار أكاديمي يظل يتسع تدريجياً داخل أروقة الجامعات الأميركية فتتعرف داخلها على التيارات السياسية، «منظمة الطلبة العرب» ونقاشات القضية الفلسطينية في مقابل سياسات الولايات المتحدة تجاه العرب وحركة المد الصهيوني، تتذكر ثريا كيف تزامن كل هذا مع نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967 وانكسار مصر وقتها، والصدمة القاسية مع توارد أنباء هزيمة الجيوش العربية.

ورغم التعليم الأجنبي الذي تلقته على مدار حياتها والدراسات العلمية والكتب البحثية التي نشرتها بالإنجليزية، فإن سؤال الشرق والغرب يظل حاضراً في وجدانها، فيشغلها مثلاً موضوع ذوبان الهوية العربية في الثقافات الأخرى، وتذكر أنها طالما ما كانت تسأل طلابها: لماذا نكتب باللغة الإنجليزية إذا كان بمقدورنا الكتابة بالعربية؟، تظل تحمل هذا السؤال، كما تحمل داخلها غصة بسبب أمنيتها التي لم تتحقق بأن تعمل بالتدريس في جامعات المملكة العربية السعودية، وتقول: «عندما يعمل الإنسان وينتج فوق تراب بلده الذي وُلد فيه يتضاعف شعوره بالإنجاز والإسهام في بناء وطن يسكنه قلبه»، وتتحدث عن أن عملها بالتدريس بالجامعة الأميركية بمصر والحياة فيها كان تعويضاً عن سنوات الغربة، حيث عاشت في مصر الجزء الأكبر من حياتها، وتصفها: «مصر مكاني وموطني المختار».

تتكئ الكاتبة على قيمة الصداقة التي تتسلل على مدار محطات الكتاب، وتخصص لها فصلاً خاصاً، يقع في 244 صفحة، ويضم مجموعة متنوعة من الصور تظهر فيها في مراحلها العمرية بصحبة أفراد عائلتها وأصدقائها. وتتوقف عند إحداها في مرحلة التسعينات خلال قضائها عطلة مع عائلتها في «سيردينيا» الإيطالية، تقول إن زوجها عندما نظر لصورتها تلك علّق بأنها صورة «ثريا الأصلية»، فتحاول تفسير ذلك قائلة: «هي صورة لسيدة تشعر بالراحة مع نفسها، والرضا تجاه هُويتها».


مقالات ذات صلة

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

ثقافة وفنون عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون مي التلمساني وإيهاب الخراط... وفي الوسط الكاتب أحمد رمضان الفائز بالجائزة

أحمد رمضان يحصد «جائزة إدوار الخراط» الأدبية

بمناسبة الذكرى التاسعة لرحيله (1926 - 2015)، وفي احتفالية رائعة تليق بعطائه المتنوع المغامر واجتراحه آفاقاً جديدة للكتابة.....

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون  أرسطو

لماذا نقرأ للقدماء؟

أثارت أستاذة الفلسفة آغنيس كالارد البروفيسورة في جامعة شيكاغو في مقالة لها نشرتها «ذا ستون/ نيويورك تايمز» قضية جدوى قراءة أرسطو اليوم

خالد الغنامي
يوميات الشرق من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من «الأطلال» إلى «واللهِ أبداً»... جواهر اللغة العربية بأصوات أجيالٍ من المطربين

من أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب، مروراً بماجدة الرومي وكاظم الساهر، وصولاً إلى عمرو دياب. كيف أسهمَ نجوم الأغنية في إحياء اللغة العربية الفصحى؟

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون هوشنك أوسي

العربية في يومها العالمي... واقع مؤسف ومخاطر جسيمة

في يومها العالمي الذي يوافق 18 ديسمبر من كل عام، لا تبدو اللغة العربية في أفضل حالاتها، سواء من حيث الانتشار والتأثير أو الاهتمام داخل المؤسسات التعليمية.

رشا أحمد (القاهرة)

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»
TT

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

عبد الرحمن شلقم وأجواء الحب والفروسية في «القائد العاشق المقاتل»

بأسلوب شيّق، وحبكات متتالية، يسرد عبد الرحمن شلقم المسار الاستثنائي للقائد العسكري الإيطالي أميديو جوليت، الذي عرف ببطولاته، وانتصاراته، وشجاعته، وطارت شهرته، حتى صارت تفاصيل حياته مجالا للبحث والاهتمام.

يعيدنا وزير خارجية ليبيا السابق، في روايته الجديدة «القائد العاشق المقاتل»، الصادرة عن «دار الرواد للنشر والتوزيع» إلى فترة تاريخية، كان لا يزال للفروسية فيها دور بارز في قيادة المعارك، وللشهامة قيمة أخلاقية. تحكي الرواية سيرة مقاتل ليست ككل السير، حيث تختلط السياسة بالحب، والتاريخ بالمزاج الشخصي، والحكمة بالجسارة، والقتال بعشق الشرق وشغف المعرفة.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي، فبفضل شخصيته المتوثبة والكاريزما التي تمتع بها، وحبه للثقافات، أصبح صديقاً للعرب، يلبس على شاكلتهم، يتكلم لغتهم، يستمتع بشعرهم، يأنس لمجالسهم. وحين أنهى مهمته العسكرية عاد إليهم دبلوماسياً نشطاً، وسائحاً هائماً.

«القائد الشيطان»

تقول الرواية: «عشق أميديو السلاح كما عشق المرأة»، وتلك عبارة مفتاح، إذ تنسج الرواية خيوطها، بهذا الجانب الرومانسي للقائد المقدام الذي تقترن بطولاته بغرام دائم، وعشق لا ينقطع. ويتنقل القارئ بين الأحداث السياسية وشراسة الأطماع الاستعمارية، وحكايات أميديو مع عشيقاته اللواتي شغلن الجزء الذي لم تملأه الحروب من يومياته.

«القائد الشيطان»، هذا هو لقبه، الذي استحقه عن جدارة. فبعد أن خاض أميديو الحرب الأهليّة الإسبانيّة إلى جانب قوات الملكيّين قادته ظروف الحرب إلى ليبيا. وأضافت لتكتيكاته الفريدة في مقارعة أعدائه، حيث واجه البريطانيين، وحارب المقاومة الليبية، عاش قصة حب حارقة مع ممرضته الليبية اليهودية التي أنسته كل ما عداها، تعرف إليها أثناء علاجه في مستشفى في طرابلس، من إصابة تعرض لها. نعيش مع العقيد أميديو لحظات تحرّقه وعشقه لريزا بـ«قوامها الممشوق ووجهها الأبيض الوضاء وعينيها الواسعتين وهي تقدم له حبات الدواء وتصير صباح الشفاء والسعادة». ثم بعد ذلك، نكابد معه فراق ريزا، واختفاءها تحت وطأة تهديد النازيين لها ولعائلتها ولملتها، ومنع العقيد من الزواج بها بسبب القوانين العنصرية التي فرقت بينهما.

الحبيبة ريزا

ريزا هي كما غيرها من اليهود الذين «اضطروا إلى الهرب خارج العاصمة الليبية، وتغيير أسمائهم، وأماكن إقامتهم». لكن مهمة الضابط المغامر الذي يمتطي صهوة جواده، ويتقدم الفرسان، ويهاجم كما لو أنه نسي الموت، لا تتوقف هنا، بل نراه ينتقل إلى إثيوبيا وإريتريا، حيث يطور هناك أساليبه القتالية، وتتجلى مشاعره العشقية، حين يعيش قصة حب جديدة مع خديجة الإثيوبية، التي «بثت فيه عشقاً لم يعرفه أبداً». ابنة شيخ القبيلة مختار، صاحبة الجمال الخمري التي تحفظ الشعر العربي، تتسلل إلى خيمته كل ليلة، تجالسه، تحادثه بهمس، عن الفروسية، وصفات الخيل، وشجاعة المحاربين. يصف الكاتب خديجة «الطويلة الرشيقة، بلباسها الملون، وعطرها الفواح» بأنها «استولت على كل شيء فيه». أما هي، فقد افتتنت بفارسها بجنون. معها «نسي حبيبته الطرابلسية ريزا، التي صارت إلى المجهول في ليبيا يخنق حبل الفاشية العنصري يهودها، أما حبيبته الإيطالية بياتريس جوندولفو، ومشروع زواجه القديم منها، فقد طوتها عيون خديجة وقوامها وصوتها وشَعرها وشِعرها، وعطرها».

خديجة تشد أزره

على هذا النحو الآسر، يجعلنا شلقم نعيش مناخات الحرب العالمية الثانية، وما رافقها من اضطرابات، وتوترات وقلق، مع العقيد الذي يخوض غمار معاركه، مستعيناً على ذلك بنساء كنّ له الظهر والسند. غير أن خديجة هذه بقيت شيئاً آخر. و«لأول مرة يتمنى الفارس الصنديد، مدمن القتال، «أن تفارق الحرب عقول البشر إلى الأبد. وهو يطارح خديجة حديث الحب».

جاءته الأوامر من روما أن يستسلم، لكنه رفض، مع علمه أن الوضع قد أصبح ميئوساً منه. جهزت له خديجة فرساناً أشداء، وقالت له: «قاتل ولا تستسلم يا حبيبي، لقد خلقك الله لتكون الفارس الذي يفر من أمامه العتاة».

بين جبهات الحروب الشرسة، وجبهات الحب العاصفة، ينقلنا الكاتب، وهو يبدع في رسم علاقة أميديو مع عشيقاته، وتوصيف علاقته مع كل منهن، وكأن كل واحدة أنارت له جانباً مختلفاً من شخصيته، وأضافت لفضوله معارف جديدة، وفتحت أبواباً للضوء. فقد كان أميديو يتمتع بشخصية مغامرة وجذابة، مما جعله محبوباً بين النساء. يقول لخديجة وقد أنهكه القتال: «لم تعد لي القدرة على الاستمرار في محاربة البريطانيين. رجالي قتل بعضهم وجُرح معظمهم، لم يبق لي منهم سوى ثلاثين نفراً، أنت كل ما لدي من هذه الدنيا، ولكن الله غالب».

المرحلة اليمنية

ولما كانت العودة إلى إيطاليا شائكة بسبب تمرده على الأوامر، والوضع المتأزم هناك، يمم وجهه صوب اليمن، وقد صار اسمه أحمد عبد الله الرضائي. وصل إلى ميناء الحديدة، بعد مغامرات كادت تودي به وبرفيق الرحلة. طلب اللجوء السياسي، شك اليمنيون في أمره، وأخضعوه شهراً للسجن والاستجواب. محادثاته المتناسلة مع سجانيه وصلت إلى قصر إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي طلب رؤيته. وكان صيته قد سبقه، ما سيجعل العلاقة الوطيدة سريعة مع الإمام وسيكلفه تدريب كتائب جيشه وشرطته.

المرحلة اليمنية من حياة أميديو، تفتح الباب أمام شلقم ليرسم لنا صورة بانورامية عن الحياة الاجتماعية، والأجواء السياسية في تلك المرحلة، في هذه المنطقة العربية. «سيلف أميديو حول خاصرته قطعة من القماش، ويضع الخنجر المقوس وسط حزامه. جلسة مع خلان سيتعرف عليهم، يخزنون القات معاً، ويسهرون الليالي في مطارحات شعرية إلى أن يدركهم الصباح، ويخرجون ليروا مباني المدينة الشاهقة المزخرفة بألوان، تضيف الانشراح إلى الأرواح». وفي اليمن أيضاً سيلتقي بياتريس.

لم يكن أميديو مجرد قائد تقليدي بل شخصية متوثبة وكاريزمية

صفحة حب جديدة

بياتريس الحبيبة الجديدة. هذه المرة هي مصرية، مسيحية وفارسة تعشق الخيول، تعزف على آلة البزق وتهرّب الأسلحة، حين يلزم الأمر. امرأة جذابة يلفها الغموض «عندها عصارة العصارة، ولها القدرة على قراءة ما سمعت، فهي مثقفة ودارسة متبحرة في عالم النفس، ولها القدرة على قراءة ما في فناجين الرؤوس».

لكن تلك الحياة الرغدة بعجائبيتها ومحنها، سرعان ما تنقلب في اليمن، وتطيح بالإمام، ويحلّ الجدري، وينفضّ الجمع، ولا يبقى لـ«القائد الشيطان» سوى الهرب.

بأسلوبه الرشيق والمشوق، يقصّ شلقم من خلال روايته، حكاية هذا القائد الإيطالي الذي تحول إلى أسطورة، وشبهه البعض بلورانس العرب، لتشابه بين سيرتيهما، مستفيداً من سيرته التي كتبها العقيد بنفسه، ومصادر أخرى، مضيفاً إليها حبكته ونكهته المستقاة من «ألف ليلة وليلة» التي يؤتى على ذكرها مرات عدة في النص. وقد عاش أميديو من العمر قرناً كاملاً وسنة، تمكن خلالها من الانتقال إلى حياة دبلوماسية، لا تقل أهمية عن حياته العسكرية. عين سفيراً لدى عدد من الدول العربية بينها الأردن الذي عشقته زوجته بياتريس التي ارتبط بها بعد تجواله ومغامراته العشقية. وعين الرجل سفيراً لدى المغرب، ويكتب له أن يشهد حادثة انقلاب الصخيرات الشهيرة، التي نقرأ تفاصيلها في الرواية كما عاشها أميديو، وكأننا في قلب الحدث.

التاريخ يعيد نفسه

مفاصل تاريخية كثيرة، عن فترة مفصلية من عمر العرب، والتدخلات الأجنبية على أرضهم، بحيث يبدو وجودهم السياسي هامشياً، في ما يطغى حضورهم الاجتماعي في الرواية، كل ذلك مشدود إلى أوتار عواطف جياشة، ومشاعر فياضة، تلهم القائد المقدام.

وفي الجزء الأخير من الكتاب، يتاح لنا أن نعيش مع أميديو، وقد استقر به الحال أخيراً متقاعداً يستعيد ذكرياته ويتأمل مشواره بهدوء ودعة. وتشاء الظروف أن يلتقي بالضباط والقادة الذين كان يقاتل في مواجهتهم، حيث يتحول أعداء الأمس وقد انتهت الحرب، إلى أصدقاء اليوم، يتبادلون الذكريات والاعترافات، وكأنما كل ذاك الدم الذي سال، كان عبثاً، أو كأنهم كانوا جزءاً من آلة تغيرت أدوارهم ورؤاهم، بمجرد تفكيكها.

الرواية تعيدني ثمانين سنة إلى الوراء، ولعالم غير الذي نعيشه اليوم، لكن بقليل من التدقيق، تشعر أن النزاعات في أعماقها لا تزال هي نفسها، والمآلات تبدو متشابهة وتستحق المقارنة والعبرة والتأمل.