أسرار الاجتماعات التي أدت إلى «اتفاق القاهرة» بين لبنان والفلسطينيين

كشفها ضابط متقاعد في الجيش اللبناني تابع المفاوضات عام 1969

غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
TT

أسرار الاجتماعات التي أدت إلى «اتفاق القاهرة» بين لبنان والفلسطينيين

غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)

صدر للعميد الركن المتقاعد جان ناصيف، كتاب مذكراته بعنوان «سيرة عسكريّة وعِبَر وطنيّة» (الرئيس فؤاد شهاب - المكتب الثاني - اللجنة الأمنيّة الرباعيّة). ويقام حفل التوقيع في كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان برعاية قائد الجيش العماد جوزف عون في 24 مايو (أيار) المقبل. rnيعرض العميد ناصيف تفاصيل عمله ضمن فريق المكتب الثاني (مخابرات الجيش اللبناني) وعلاقته بالرئيس شارل حلو، وخصوصاً بالرئيس فؤاد شهاب الذي كان من أقرب الضباط إليه. ويلقي الضوء على ابتعاد الرئيس حلو عن خط الشهابية، وانعكاسات التطورات الإقليمية على الوضع السياسي في لبنان، خصوصاً موضوع تسلح الفلسطينيين، وعن تفاصيل ظروف إبرام «اتفاق القاهرة»، الذي يقول عنه إنه مسّ بالسيادة اللبنانيّة. ثم يشرح ما تعرّض له ضباط «المكتب الثاني» من ملاحقة وإبعاد ومحاكمة قبل التبرئة، وموقف الرئيس شهاب من هذا الموضوع، وكيف أثر التعرّض لأقوى جهاز أمن لبناني إلى إضعاف الدولة والجيش واستباحة الساحة اللبنانية أمنياً وسياسياً. ويتكلّم العميد ناصيف بإسهاب عن شخصية الرئيس شهاب وأطباعه، وقناعاته، وأسس ما عرف بـ«النهج الشهابي».rnكما يذكر مواجهته مع الجنرال الإسرائيلي الذي كان على رأس القوى المعادية التي وصلت إلى محيط ثكنة الفياضية عام 1982، وتمثيله الجيش اللبناني في اللجنة الأمنية الرباعية من عام 1983 لغاية عام 1990 خلال عهد الرئيس أمين الجميّل وحكومة العماد ميشال عون. rnوهنا مقتطفات من الفصل 9 من الكتاب الذي يتناول نمو الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان اعتباراً من عام 1967 وتوقيع «اتفاق القاهرة» (1969):

من لقاء بين الرئيسين جمال عبد الناصر وشارل حلو

«نتيجةً لهزيمة 1967، بدأت تنمو الفكرة الفلسطينيّة بالاتكال على الذات لتحرير الأرض. فالفشل المدوّي للجيوش العربيّة النظاميّة، أدّى إلى ولادة منظمة التحرير الفلسطينيّة بدعم مالي كبير من دول الخليج العربي، ونمت فكرة المقاومة وتطوّرت بعد الحصول على السلاح السوفياتي وتكثيف الدورات التدريبيّة. فبات للفلسطينيين تنظيم عسكري جدّي، له وجود في كل من مصر وسوريا والأردن أولاً، ومن ثم لبنان... كان ضمن الجهاز الداخلي في الشعبة الثانية فرع لمراقبة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، تمكّن في البداية من ضبط المخيمات بصورة صارمة، ومنع وجود سلاح داخلها بتاتاً. كان لنا وجود عسكري في كل مخيم، يشرف على تطبيق القوانين والتدابير المفروضة من الدولة. ورغم وجود عنصر أو عنصرَين فقط في كل مخفر، كان لهؤلاء سلطة مطلقة، وهيبة تُخيف وتردَع القاطنين في المخيّمات.

وقد أشرفتُ شخصياً على هذا الفرع لمدة حوالي خمسة أشهر أثناء غياب رئيسه في دورة خارجيّة. قمت خلال تلك الفترة بزيارة جميع المخيمات للاطلاع الميداني على الأوضاع، وكان الأمن ممسوكاً تماماً من قبلنا، واللاجئون طيّعين، يهابون سلطتنا. حتى موضوع توزيع المعونات التي كانت تقدمّها منظمة «الأونروا» (UNRWA)، والطبابة، وعمل المستوصفات كان يتم تحت إشرافنا. بعدها، ومع تزايد النشاط الفلسطيني انطلاقاً من المخيمات، شُكّل الملازم أول فريد أبو مرعي لرئاسة الفرع، وهو ضابط نشيط وكفء أمسك بالمهمة بيد من حديد.

مع مرور الوقت، بدأت تتوارد المعلومات إلى الشعبة الثانية عن خروج عناصر فلسطينية مسلّحة من المخيمات باتجاه الحدود الجنوبية فتطلق الكاتيوشا باتجاه الأرض المحتلّة عشوائياً، ثم تلوذ بالهرب؛ ما كان يؤدي إلى رد عسكري إسرائيلي بالقصف العنيف على الجيش والقرى المجاورة، مسبباً الأضرار الجسيمة. سعت الدولة اللبنانية مع جامعة الدول العربية إلى معالجة هذا الفلتان المتصاعد والمؤذي، فصدرت قرارات تمنع منعاً باتاً إطلاق صواريخ أو أي سلاح ناري آخر بدون إعلام السلطات العسكريّة المحلية. التزم الفلسطينيون بذلك لفترة، لكن سرعان ما بدأت هذه الحوادث تتكرّر من جديد وبشكل متسارع.

ياسر عرفات تخفى بصفة «الرقيب عبدالله»

ضاعفت الشعبة الثانية رصدها للمنطقة ولحركة الفلسطينيين المسلحين، وتمكّنت في أحد الأيام من إلقاء القبض على مجموعة فلسطينيّة مسلّحة مؤلفة من ثلاثة عشر عنصراً، رمت كاتيوشا إلى داخل الأراضي المحتلّة وحاولت الهروب. باشر الملازم أول فريد أبو مرعي التحقيق مع أفراد المجموعة بعد ورود معلومات مخابراتية بوجود قائد فدائي مهم بين الموقوفين. بعد جلسات تحقيق مطوّلة، تمكّن أبو مرعي من التعرّف إلى رئيس الزمرة بسبب تناقض في أجوبته. كان الشخص يدّعي أن اسمه «الرقيب عبدالله»، ولا يقر بهويته الحقيقية ولا عن من وراءه. لكن بعد استعمال الوسائل القاسية المعهودة في التحقيقات، انهار وعرّف عن نفسه: «أنا ياسر عرفات!».

أبلغ أبو مرعي المقدّم غابي لحود رئيس الشعبة الثانية بالأمر، فحضر وأمضى ساعات طويلة يكالم عرفات. دافع الزعيم الفلسطيني الشاب يومها عن قدسيّة قضيته، وعن السعي لاسترجاع أرض فلسطين المغتصبة، فأصرّ لحود على وجوب احترام المقاومة سيادة لبنان على أراضيه.

في منتصف عام 1969، تدهورت الأوضاع الأمنية والعسكريّة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية على الأرض اللبنانية، فتبلورت مبادرة من جامعة الدول العربيّة حظيت بزخم خليجي لإجراء لقاء بين وفد يمثل الدولة اللبنانية ووفد يمثل منظمة التحرير لمعالجة الوضع المتأزم، على أن يتم اللقاء في القاهرة برعاية الرئيس عبد الناصر، الذي يعطي ضمانة التنفيذ لاحقاً.

إرباك حول هوية الوفد المفاوض

خلقت هوية من سيمثل لبنان في اللقاء إرباكاً وبلبلة وضياعاً... بدا أولاً أنه من الأفضل ألا يكون رئيس الجمهورية على رأس الوفد اللبناني. وبمطلق الأحوال، كان الرئيس حلو مربكاً، يريد تجنّب الحضور لتجنّب المواجهة. أمّا رئيس الحكومة (المستقيلة وبحكم تصريف الأعمال) رشيد كرامي، الذي كان وزيراً للخارجية أيضاً، فتجنّب هو أيضاً رئاسة الوفد لعلمِه بأن الأوراق التي في يد الدولة اللبنانية ضعيفة، فيما الرأي السني الغالب على الساحة اللبنانية هو إلى جانب العمل الفدائي، والرئيس كرامي لم يكن بوارد أن يوافق مرغماً على ما ينتقص من السيادة اللبنانية.

لهذه الاعتبارات، تقرر تكليف أمين عام وزارة الخارجيّة الدكتور نجيب صدقة، تمثيل الحكومة اللبنانية وترؤس الوفد اللبناني إلى القاهرة. وبما أن القمّة ستتطرّق إلى مواضيع أمنيّة حساسة، اتفق بأن يكون رئيس الأركان في الجيش العماد يوسف شميّط من ضمن الوفد. لكن العماد شميّط اعتذر عن المهمة، فطرح اسم قائد الجيش العماد إميل بستاني الذي وافق على أن يترأس هو الوفد اللبناني في هذه الحال. وقد رُبطت موافقة بستاني بموعد الانتخابات الرئاسية القريبة التي كان يحلم بالفوز بها.

المفاوضات في القاهرة

وصل الوفد اللبناني إلى القاهرة في 26 أكتوبر (تشرين الأول). رافق العماد بستاني الرائد سامي الخطيب من الشعبة الثانية، وانضم إلى الأمين العام لوزارة الخارجيّة نجيب صدقة، سفير لبنان لدى مصر حليم أبو عز الدين. لم يحضر الوفد الفلسطيني إلى العاصمة المصرية، لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثاني، ولا الثالث ولا الرابع... مع هذا الانتظار استفاد الوفد اللبناني لإجراء اجتماعات يوميّة مع أعضاء الفريق المصري في المؤتمر لشرح المتاعب التي يعاني منها لبنان جرّاء هذا الوضع الشاذ والتجاوزات الفلسطينية لسيادة واستقلال البلد، والمعطيات التي تستوجب وضع حد لكل ذلك، وكان المصري متفهماً ومتجاوباً مع عرض الوفد اللبناني. كنا في الفريق المركزي للشعبة على اتصال دائم مع الرائد الخطيب، الذي فسّر لنا وسط التشكيك بحضور عرفات والوفد الفلسطيني، بأن ما استنتجه مع العماد بستاني من الأجواء هناك أن عرفات يؤجل قدومه ريثما يتأكد من حصوله على أكبر دعم من الدول العربية لمحاولة فرض أقصى ما يرغب، وأن المؤتمر على الأرجح لن يتوصّل إلى اتفاق حازم لمصلحة الدولة اللبنانية، بل إلى وضع بعض الضوابط للحريّة المطلقة للعمل الفلسطيني. كما أبلغنا الخطيب بأن العماد بستاني يحرص على الاتصال الهاتفي المطوّل برئيس الجمهورية في نهاية كل يوم بحضوره وحضور الدكتور صدقة والسفير أبو عز الدين، لإطلاعه على كامل تفاصيل المناقشات والمستجدات ويطلب التوجيهات، لكن الأخير لم يعطِ أية تعليمات واضحة أو محددة، مكتفياً بتكرار القول: «أنت تصرّف، أنت تصرّف! وأنا بغَطّيك بعدَين...»، وأن بستاني شرح لحلو أهمية قيام الدولة اللبنانية ورئاسة الجمهورية بأقصى ما أمكن دبلوماسياً مع الدول العربيّة للحد من تأثرها بمطالب عرفات، لكن الرئيس كان متردّداً والتزم بقراره بعدم التدخّل...

لم يحضر عرفات والوفد الفلسطيني إلى القاهرة حتى 2 نوفمبر (تشرين الثاني)، في توقيت كان قد صدرت فيه مواقف عربيّة داعمة للمطالب الفلسطينية بقوة، ما جعل الوفد اللبناني في وضع ضعيف جداً. في ظل هذه الأجواء غير المساعدة، كنا نراهن على إطالة المفاوضات أو تأجيلها، ما يفسح المجال للدولة اللبنانية للتواصل مع دول عربيّة بغية استعادة بعض التوازن وتحسين موقف لبنان التفاوضي مجدداً.

3 تشرين الثاني 1969

مفاجأة توقيع الاتفاق!

في نهاية مفاوضات اليوم الذي تلا قدوم عرفات والوفد الفلسطيني، فوجئنا بإبلِاغنا من سامي الخطيب أن اتفاقاً قد أنجز ووقّع، وهو اتفاق سرّي! وأعلمنا الخطيب بأن مضمون الاتفاق ليس لصالح لبنان ولا يثبّت سيادته بقوة. وسرعان ما اتصل بي العماد بستاني وأعلمني، بصفتي مسؤولاً عن الإعلام، بوجوب بث البيان الرسمي حول حصول الاتفاق وتوقيعه من الفرقاء، على أن يصدر البيان بنفس الوقت في لبنان وفي مصر (الثامنة مساءً، وكانت الساعة السادسة والنصف عندها). ونصّ عليّ العماد بستاني النص المقتضب للبيان، الذي لا يتضمّن البنود «السريّة» بل يُعلن فقط عن توقيع الاتفاق. أطلَعتُ المقدّم غابي لحود على النص، فطلب مني إطلاع رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة عليه.

جواب الرئيس كرامي

اتصلت بالرئيس كرامي أولاً، كون المقدّم لحود كان قد علم أن العماد بستاني اتصل بالرئيس حلو مباشرة لتوه. تفاجأ الرئيس كرامي بسرعة حصول الاتفاق وأجاب بكلمات ذات دلالة عالية: «لا حول ولا قوة...!»، وكان يعني بذلك: «الله ينجينا!»، ثم طلب مني قراءة البيان. استمع لتلاوتي، ثم فكّر لبرهة وطلب مني إطلاع «المعلّم» (الرئيس شهاب): «عندو خبرة ونظرة شاملة، بيشوف إشيا نحنا يمكن ما منشوفها». ثم اتصلت بالرئيس حلو الذي لم يعلّق على البيان، ووافق على ما طلبه الرئيس كرامي بأخذ رأي الرئيس شهاب.

أعلَمت المقدّم لحود بمضمون الاتصالَين مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، واتصلت بعدها بالرئيس شهاب. أول تعليق للرئيس شهاب كان استغرابه الشديد: «مش قليلي اتفقوا!؟» ثم أضاف غامزاً بالعماد بستاني: «منوش هيّن إبن جريس!»... أطلعته على نص البيان وطلب الرئيس كرامي بأخذ رأيه، فطلب مني قراءة البيان ثانية على مهل ليتسنى له كتابة النص. خلال تلاوتي، توقّف عند الصفة المعطاة لأعضاء الوفد المصري المرافقين للرئيس عبد الناصر، وهما وزير الخارجية ووزير الدفاع المصريان، وقال: «لا، لا، هيك يعني بس مصر... شوف هودي الوزرا عندن كمان صفة بجامعة الدول العربية أو بالدفاع العربي المشترك، حطلهن هيدي الصفة لنعطي صبغة إنو هل الاتفاق تم برعاية عربية مش بس مصرية». ثم عند ورود كلمة «الأمة» العربية، طلب أيضاً استبدالها بـ«الدول» العربيّة. وأضاف: «على الأقل فليصدر البيان في الإعلام اللبناني على هذا النحو». بعدها أعلمت المقدّم لحود ومن بعدها الرئيس حلو والرئيس كرامي بملاحظات الرئيس شهاب اللذَين وافقا على ما نصح به. وأذكر ما قاله الرئيس كرامي بعد إبلاغه التفاصيل: «شفت كيف؟ قلتلك المعلّم بينظر أبعد منّا!»، وأضاف متنهداً: «أمرنا إلى الله».

في اليوم التالي، عنونت جريدة «النهار»: «صدر البيان بنصَين مختلفَين في بيروت والقاهرة!»، وبعد فترة، نشرت الجريدة ذاتها الاتفاق ببنوده السريّة الكاملة بعدما ادّعى العميد إده أن أحد الوزراء «نسيه» على الطاولة في مجلس النواب، فحصل هو على النسخة...

العميد ناصيف مع الرئيسين شارل حلو والياس سركيس (الشرق الأوسط)

الرئيس حلو واتفاق القاهرة

بعد عودة سامي الخطيب من مصر، اجتمعنا في الشعبة لعرض البنود «السريّة» وتقييم الوضع، وتيَقّنا أن البند الوحيد الذي يحمي السيادة اللبنانية والذي أمكن إدراجه في الاتفاق كان البند 13 الذي نص بصورة عامة على أنه «من المسلّم به أن السلطات اللبنانية من مدنيّة وعسكريّة تستمر في ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها كاملة في جميع المناطق اللبنانية وفي جميع الظروف»، بينما تجيز البنود الأخرى للفلسطينيين العمل والإقامة والتنقل داخل لبنان، والتسلّح ضمن المخيمات، وحفظ الأمن الذاتي في المخيمات، والمشاركة في الثورة الفلسطينية العسكرية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وتسهيل مرور المسلحين الفلسطينيين إلى مناطق الحدود... خلِصنا إلى تقديم توصية لقيادة الجيش ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بوجوب طلب اجتماع ثانٍ للفرقاء لتعديل ما اتفق عليه، لأن في الأمر انتقاصاً كبيراً لسيادة لبنان وسلطة جيشه على الأرض الوطنية لصالح وجودٍ مسلحٍ غير لبناني. كما بلوَرنا توصيتنا لاحقاً باقتراح يقضي بذهاب المقدّم أحمد الحاج إلى جامعة الدول العربية ممثلاً لبنان، للمطالبة بتعديلات تعيد للجيش اللبناني دوره السيادي الكامل.

لكن الرئيس حلو لم يشأ القيام بأي خطوة من هذا القبيل أو حتى إبداء مواقف تُعبّر عن اعتراض وعدم رضا لبنان، وفضّل عدم المواجهة... تقدّمنا منه بتوصية جديدة بأن يطلب اجتماعاً لجامعة الدول العربية لإعادة النظر بالاتفاق، لكنه لم يحسم أمره ولم يتحرّك والتزم الصمت... أظن، استناداً إلى خبرتي بالتعاطي معه، أن طبعه الشخصي لعب الدور الأكبر هنا. فهو بطبعِه يتجنّب المواجهات المباشرة، أو التعبير عمّا يرغب أو يفكر به أو ما هو غير راضٍ عنه بوضوح وصراحة.

أظن أن ضمير الرئيس حلو لم يكن مرتاحاً لاحقاً إزاء عدم تصرّفه بحزم حيال الاتفاق خلال مرحلة إبرامه في القاهرة وبعدها، وبقي يحاول طوال حياته التنصّل إعلامياً من هذا العبء، لكنه في مقال له بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس شهاب الـ25 في أبريل (نيسان) 1998، أورد جملتَين تحملان دلالة واضحة.

فتَحْتَ عنوان «التزام الرئيس شهاب سيادة لبنان»، كتب الرئيس حلو: «لم يفرّط فؤاد شهاب بقَسَمَين: قسَمه العسكري وقسَمه الرئاسي. وقد خَبِرتُ ذلك من خلال اجتماعه مع الرئيس عبد الناصر، في خيمة على الحدود اللبنانية - السورية. وفي حديثه لي بعد أن تفهّم مني ملابسات اتفاق القاهرة، إذ قال: ما يهمنا قبل كل شيء هو التطبيق الدقيق للبند 13 من الاتفاقية...».


مقالات ذات صلة

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق من ندوة حوارية بعنوان «دور الجمعيات المهنية في تنمية الصناعة الثقافية» (جدة للكتاب)

الجمعيات المهنية ترسم ملامح صناعة ثقافية منظَّمة بالسعودية

كيف تتحوَّل الثقافة من نشاط قائم على الموهبة والاجتهاد الشخصي إلى صناعة منظَّمة؟

أسماء الغابري (جدة)

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».


هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية
TT

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، الصادر عن «دار بيسان للنشر والتوزيع» (الطبعة الأولى، نوفمبر «تشرين الثاني» 2025)، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان، لتقدِّم عملاً أدبياً يستند إلى الذاكرة الشخصية والجماعية، ويعيد صياغة تجربة الحرب الأهلية بلغة وجدانية وتأملية بعيدة عن المباشرة والتقرير.

الكتاب ليس سرداً زمنياً للحرب، ولا توثيقاً صحافياً بالمعنى التقليدي؛ بل هو مجموعة نصوص مفتوحة تتداخل فيها السيرة الذاتية مع المشهد العام، ويتحوَّل فيها المكان إلى كائن حي، والمدينة إلى وتر مشدود على الألم والفقد والصمود.

تستعيد هدى سويد نصوصاً كُتبت في قلب الحدث أو على مقربة منه، وتعيد جمعها بعد سنوات طويلة، في محاولة لمواجهة الذاكرة؛ لا للهروب منها، ولتحويل ما تبقَّى من الرماد إلى كتابة. تتنقَّل نصوص الكتاب بين الوجداني والسردي، بين اليومي والرمزي، حاملة آثار القصف، والرحيل، والخوف، وأسماء الأمكنة التي تغيَّرت أو اختفت، وأصوات البشر الذين مرُّوا في الحياة ثم غابوا. وفي خلفية هذه النصوص، تبرز تجربة الكاتبة الصحافية التي عملت في الصحافة الاستقصائية والتحقيقات الميدانية والمقابلات الثقافية والسياسية، ما يضفي على اللغة حسّاً واقعياً لا يلغي بُعدها الشعري.

في مقدمة الكتاب، تكشف هدى سويد عن الصعوبة التقنية والنفسية التي رافقت جمع هذه النصوص، بدءاً من استعادتها من أرشيف صحافي قديم، وصولاً إلى الغوص مجدداً في زمن الحرب. تعترف بأن العودة إلى تلك المرحلة أعادتها إلى ليالي القصف ونهارات الخوف، إلى صور الموت والتهجير وسيارات الإسعاف، وأنها كثيراً ما توقفت أمام النصوص باكية، مثقلة بثقل الذاكرة. من هنا، يأتي الكتاب بوصفه فعل مواجهة، لا حنيناً، ومحاولة لفهم الماضي لا لتجميله.

تضم المجموعة عناوين تشكِّل معاً لوحة فسيفسائية لمدينة مجروحة، مثل: «حين يصغر المكان»، و«أضغاث وقت»، و«طريق الصحراء»، و«لكَ المدينة»، و«عزف رحيل على أوتار مدينة». وهي نصوص لا تَعِد القارئ بالفرح، ولكنها تفتح له باب التأمل فيما جرى، وفي أثره المستمر على الحاضر؛ خصوصاً لجيل لم يعش الحرب؛ لكنه يرث ظلالها.

شهادات نقدية

في مقدمة الكتاب، يرى الناقد والشاعر محمد فرحات أن هدى سويد تلتقط من الحرب «قبساً؛ لا المحرقة كاملة»، وتحوِّل التجربة إلى لغة تصف الواقع وتعيد نحته في آن. ويشير إلى أن الكتابة هنا ليست تحقيقاً صحافياً؛ بل هي أدب يعيد رسم الأمكنة والبشر في زمن الزلزال؛ حيث تتخذ اللغة شكلاً مفتوحاً، مرناً، قادراً على احتواء الفوضى الإنسانية للحرب الأهلية. أما الكاتب والصحافي أحمد أصفهاني، فيتوقف عند فعل «الانتقاء» الذي قامت به الكاتبة لنصوصها القديمة، معتبراً أن هذا الفعل يشبه نفض غبار العمر عن لحظات ولادة قاسية. ويؤكد أن سويد لم تفصل ذاتها عن الحدث؛ بل أخذت القارئ معها في رحلة إلى أمكنة وأزمنة ما زالت محفورة في الذاكرة؛ حيث تتقاطع المهنية الصحافية مع الحس الإنساني العميق.

من جهته، يرى الشاعر والناقد أنطوان أبو زيد أن «عزف على أوتار مدينة» يندرج ضمن أدب الذكرى والتأمل في الزمن المُر، ويشير إلى أن القارئ يواجه نوعين من النصوص: وجدانيات مشبعة بالخوف والفقد والوحشة، ونصوص تخييلية جميلة تنفتح على التحليل والتأمل. ويعتبر أن قوة الكتاب تكمن في قدرته على تحويل الألم إلى مادة أدبية، لا لتثبيته؛ بل لإعادة التفكير فيه.


«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة
TT

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

في كتابه «الخروج من الظل - قراءة في القصة النسائية القصيرة في مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يركز الناقد الراحل دكتور محمد سيد إسماعيل على نموذج الأنثى المتمردة، كما رسمت ملامحها عدد من الكاتبات اللواتي يمثلن تجارب ومنطلقات مختلفة مثل رضوى عاشور وهالة البدري وسلوى بكر، مشيراً إلى أن هذا التمرد غالباً ما يتجه إلى سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها تحت مبررات واهية.

عشق يصدم المجتمع

في قصة «رأيت النخل» لرضوى عاشور، تبدو الشخصية الرئيسية في مواجهة مجموعة من «التقاليد» المجتمعية الراسخة التي تقرر للمرأة بعض الأعمال وتستهجن قيامها بأعمال أخرى. لكن (فوزية) لا تقر هذا ولا تلتزم به وتؤكد «تمردها» الدائم عليه. هي مغرمة بالنبات، غراماً يجعلها تراه في أحلامها وتستحضر دائماً ما كان يرويه أبوها عن النخل الذي يشبه الإنسان في استقامة القد والجمال، وخلقه من ذكر وأنثى وكيف أن «جُماره» في رأسه كعقل الإنسان في رأسه إن أصابها سوء هلك؛ ولهذا فقد كانت تركض خلف نواه وتخبئه في جيبها العميق، وعندما ترجع إلى البيت تضعه في قطنة مبللة حتى يلين وينتفخ ثم تدفنه في الطين وتغمره بالماء.

تقول فوزية: «في عملي لا يفهمونني، وفي الحي أيضاً. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى تمر كأنه جنيهات الذهب». إن الاعتراض على هذا العمل يرجع في الأساس إلى النظر إليه بوصفه من أعمال الرجل؛ وأن الأنثى التي تمارسه إنما تخرج بذلك عن طبيعتها؛ وهي نظرة لا ترى في المرأة إلا كائناً ضعيفاً أو ينبغي أن يتصف بالرقة والجمال الحسي إلى آخر هذه المواصفات التقليدية الشائعة.

يظهر ذلك بوضوح في اعتراض إحدى زميلات (فوزية) على سلوكها: «في العمل أيضاً يتهامسون وراء ظهري. في مرة قالت لي زميلتي:

- انظري يا فوزية إلى يديك.

ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر فقلت

- هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه.

قالت وهي تربت على كتفي: «لا يليق لا يليق أبداً وأنت موظفة!».

تضفي المؤلفة بعض الصفات الضرورية على شخصية «فوزية» ومنها صفة «الإصرار» التي تظهر في أول مشاهد القصة حين تخرج بحثاً عن بعض أنواع «البراعم» في الشتاء القارس: «طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار، لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عيناي في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أحس وأتحسس».

ويبدو أن تمرد هذه الشخصية وإصرارها استطاعا «خلخلة» هذه التقاليد المجتمعية المضادة على نحو ما يظهر في نهاية القصة، حين تقول (فوزية): «اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت إنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف، أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا».

صرخة زوجة

وإذا كانت رضوى عاشور قدمت نموذج الشخصية المتمردة على التقاليد المجتمعية المستقرة، فإن هالة البدري في قصة «مرآة» تتمرد من خلال شخصية الساردة على وضعية «أسرية» خاطئة، لأنها تقوم على العطاء من جانب أو طرف واحد، وهو الزوجة التي ترعى زوجها وأبناءها دون مقابل معنوي، الأمر الذي جعلها تطرح تساؤلاً مريراً: «هل هناك ما يستحق أن أقتلع سنوات عمري لأصفّها أحجاراً لأساس أعلم أن نزوة ريح قادمة لا ريب لكي تدحرج كل منها في اتجاه».

ومن ثنايا هذا السؤال الاستنكاري يبدأ تمردها الذي ظل يتصاعد من مستوى إلى آخر، يبدأ المستوى الأول بكشف زيف الزوج: «الآن أستطيع أن أبتسم له وأنا في قمة يأسي من عدم فهمه لأي شيء» أو قولها تصويراً لسلبيته وأنانيته: «الآن عرفت أنك لا تسمع شيئاً، أنت تتلقى فحسب، كيف غاب عني هذا لسنوات، من المسئول؟ أنا بأوهامي عن أعبائك أم أنت».

وتصور عزوفه عن الحياة بأنه ليس زهداً «بل تركيب مرآه تعكس فحسب، ولا تشع».

يتصاعد هذا التمرد متحققاً على مستوى الأداء «الأسلوبي» فيتحول من أسلوب «التصوير» الفني القائم على عنصري «الاستعارة» و«التشبيه» إلى الأسلوب المباشر المتسم بالحدة والوضوح على نحو ما يظهر من وصفها الباتر لهذا الزوج: «أنت مخلوق هلامي لا يشعر، لا يتأوه».

ويصل التمرد إلى ذروته حين تكشف الزوجة عن تناقض رؤيتها للحياة مع رؤية زوجها قائلة: «أنت زاهد فيها وأنا أريدها بكل ما فيها من ألم ويأس وسعادة ونجاح، قمة التحقق أن تدمينا وتبكينا وتأخذ منا وتهبنا ونختطف منها ما نشاء، أن ننتشي بالحب والموت والميلاد، وأن نطمح للقمم والروابي، أن نطير فنمسك بالسحب، أن نسقط معها مطراً، أن تتمزق أجسادنا أشلاء فوق صخورها، وأن ندفن فننمو زهوراً يانعة من جديد».

تساؤلات طفلة

تبدو فكرة «الرجولة» أو مفهومها الحقيقي أحد الدلالات الأساسية في قصة «ابتسامة السكر» لسلوى بكر، واللافت حقاً أن طرح هذا «المفهوم» يتم من منظور طفلة تتخذ موقع الراوي الداخلي المشارك في الأحداث. تقوم الأم بتلقينها وصايا ومفاهيم حول الرجولة، كما أن المؤلفة لم تفرض على الطفلة وعياً يعلو على طبيعة إدراكها في مثل هذه السن المبكرة، كما لم تفرض عليها لغة لا تتناسب مع المفردات المتداولة في مثل تلك المرحلة.

ومن خلال تأمل الراوية الطفلة لأوصاف أبيها الراحل التي ترد على لسان الأم، تطرح مفهومها الخاص للرجولة والذي يتمرد على المفهوم السائد، فهي ترفض بداية أن يكون «طويلاً عريضاً يسد الأبواب» وكأننا أمام ترميز خفي يقوم على رفض الرجولة التي تقف حائلاً أمام رغبات الآخرين كما يبدو من سؤال الطفلة البريء: «لو كان هناك أي شخص يرغب في المرور، هل من الأدب أن يسد أبي الباب ويمنعه من ذلك؟».

وهكذا، تجد أنفسنا أمام تفكيك لمفهوم الرجولة ينزع عنها فكرة الاحتكام إلى «الهيئة» أو «المظهر»، فحين تقارن هذه الطفلة بين شقيقها الذي ينهرها دائماً وأختها (أسماء)، تقول: «أسماء أكبر منه وأطيب منه، تساعد أمي في الطبخ وغسل الصحون، ولا تجعلها تعد لها الشاي أثناء المذاكرة كما يفعل هو، لكن أمي لا تقول عنها إنها سوف تكون رجل البيت».