أسرار الاجتماعات التي أدت إلى «اتفاق القاهرة» بين لبنان والفلسطينيين

كشفها ضابط متقاعد في الجيش اللبناني تابع المفاوضات عام 1969

غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
TT

أسرار الاجتماعات التي أدت إلى «اتفاق القاهرة» بين لبنان والفلسطينيين

غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)
غلاف كتاب مذكرات العميد المتقاعد جان ناصيف (الشرق الأوسط)

صدر للعميد الركن المتقاعد جان ناصيف، كتاب مذكراته بعنوان «سيرة عسكريّة وعِبَر وطنيّة» (الرئيس فؤاد شهاب - المكتب الثاني - اللجنة الأمنيّة الرباعيّة). ويقام حفل التوقيع في كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان برعاية قائد الجيش العماد جوزف عون في 24 مايو (أيار) المقبل. rnيعرض العميد ناصيف تفاصيل عمله ضمن فريق المكتب الثاني (مخابرات الجيش اللبناني) وعلاقته بالرئيس شارل حلو، وخصوصاً بالرئيس فؤاد شهاب الذي كان من أقرب الضباط إليه. ويلقي الضوء على ابتعاد الرئيس حلو عن خط الشهابية، وانعكاسات التطورات الإقليمية على الوضع السياسي في لبنان، خصوصاً موضوع تسلح الفلسطينيين، وعن تفاصيل ظروف إبرام «اتفاق القاهرة»، الذي يقول عنه إنه مسّ بالسيادة اللبنانيّة. ثم يشرح ما تعرّض له ضباط «المكتب الثاني» من ملاحقة وإبعاد ومحاكمة قبل التبرئة، وموقف الرئيس شهاب من هذا الموضوع، وكيف أثر التعرّض لأقوى جهاز أمن لبناني إلى إضعاف الدولة والجيش واستباحة الساحة اللبنانية أمنياً وسياسياً. ويتكلّم العميد ناصيف بإسهاب عن شخصية الرئيس شهاب وأطباعه، وقناعاته، وأسس ما عرف بـ«النهج الشهابي».rnكما يذكر مواجهته مع الجنرال الإسرائيلي الذي كان على رأس القوى المعادية التي وصلت إلى محيط ثكنة الفياضية عام 1982، وتمثيله الجيش اللبناني في اللجنة الأمنية الرباعية من عام 1983 لغاية عام 1990 خلال عهد الرئيس أمين الجميّل وحكومة العماد ميشال عون. rnوهنا مقتطفات من الفصل 9 من الكتاب الذي يتناول نمو الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان اعتباراً من عام 1967 وتوقيع «اتفاق القاهرة» (1969):

من لقاء بين الرئيسين جمال عبد الناصر وشارل حلو

«نتيجةً لهزيمة 1967، بدأت تنمو الفكرة الفلسطينيّة بالاتكال على الذات لتحرير الأرض. فالفشل المدوّي للجيوش العربيّة النظاميّة، أدّى إلى ولادة منظمة التحرير الفلسطينيّة بدعم مالي كبير من دول الخليج العربي، ونمت فكرة المقاومة وتطوّرت بعد الحصول على السلاح السوفياتي وتكثيف الدورات التدريبيّة. فبات للفلسطينيين تنظيم عسكري جدّي، له وجود في كل من مصر وسوريا والأردن أولاً، ومن ثم لبنان... كان ضمن الجهاز الداخلي في الشعبة الثانية فرع لمراقبة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، تمكّن في البداية من ضبط المخيمات بصورة صارمة، ومنع وجود سلاح داخلها بتاتاً. كان لنا وجود عسكري في كل مخيم، يشرف على تطبيق القوانين والتدابير المفروضة من الدولة. ورغم وجود عنصر أو عنصرَين فقط في كل مخفر، كان لهؤلاء سلطة مطلقة، وهيبة تُخيف وتردَع القاطنين في المخيّمات.

وقد أشرفتُ شخصياً على هذا الفرع لمدة حوالي خمسة أشهر أثناء غياب رئيسه في دورة خارجيّة. قمت خلال تلك الفترة بزيارة جميع المخيمات للاطلاع الميداني على الأوضاع، وكان الأمن ممسوكاً تماماً من قبلنا، واللاجئون طيّعين، يهابون سلطتنا. حتى موضوع توزيع المعونات التي كانت تقدمّها منظمة «الأونروا» (UNRWA)، والطبابة، وعمل المستوصفات كان يتم تحت إشرافنا. بعدها، ومع تزايد النشاط الفلسطيني انطلاقاً من المخيمات، شُكّل الملازم أول فريد أبو مرعي لرئاسة الفرع، وهو ضابط نشيط وكفء أمسك بالمهمة بيد من حديد.

مع مرور الوقت، بدأت تتوارد المعلومات إلى الشعبة الثانية عن خروج عناصر فلسطينية مسلّحة من المخيمات باتجاه الحدود الجنوبية فتطلق الكاتيوشا باتجاه الأرض المحتلّة عشوائياً، ثم تلوذ بالهرب؛ ما كان يؤدي إلى رد عسكري إسرائيلي بالقصف العنيف على الجيش والقرى المجاورة، مسبباً الأضرار الجسيمة. سعت الدولة اللبنانية مع جامعة الدول العربية إلى معالجة هذا الفلتان المتصاعد والمؤذي، فصدرت قرارات تمنع منعاً باتاً إطلاق صواريخ أو أي سلاح ناري آخر بدون إعلام السلطات العسكريّة المحلية. التزم الفلسطينيون بذلك لفترة، لكن سرعان ما بدأت هذه الحوادث تتكرّر من جديد وبشكل متسارع.

ياسر عرفات تخفى بصفة «الرقيب عبدالله»

ضاعفت الشعبة الثانية رصدها للمنطقة ولحركة الفلسطينيين المسلحين، وتمكّنت في أحد الأيام من إلقاء القبض على مجموعة فلسطينيّة مسلّحة مؤلفة من ثلاثة عشر عنصراً، رمت كاتيوشا إلى داخل الأراضي المحتلّة وحاولت الهروب. باشر الملازم أول فريد أبو مرعي التحقيق مع أفراد المجموعة بعد ورود معلومات مخابراتية بوجود قائد فدائي مهم بين الموقوفين. بعد جلسات تحقيق مطوّلة، تمكّن أبو مرعي من التعرّف إلى رئيس الزمرة بسبب تناقض في أجوبته. كان الشخص يدّعي أن اسمه «الرقيب عبدالله»، ولا يقر بهويته الحقيقية ولا عن من وراءه. لكن بعد استعمال الوسائل القاسية المعهودة في التحقيقات، انهار وعرّف عن نفسه: «أنا ياسر عرفات!».

أبلغ أبو مرعي المقدّم غابي لحود رئيس الشعبة الثانية بالأمر، فحضر وأمضى ساعات طويلة يكالم عرفات. دافع الزعيم الفلسطيني الشاب يومها عن قدسيّة قضيته، وعن السعي لاسترجاع أرض فلسطين المغتصبة، فأصرّ لحود على وجوب احترام المقاومة سيادة لبنان على أراضيه.

في منتصف عام 1969، تدهورت الأوضاع الأمنية والعسكريّة بين الجيش اللبناني ومنظمة التحرير الفلسطينية على الأرض اللبنانية، فتبلورت مبادرة من جامعة الدول العربيّة حظيت بزخم خليجي لإجراء لقاء بين وفد يمثل الدولة اللبنانية ووفد يمثل منظمة التحرير لمعالجة الوضع المتأزم، على أن يتم اللقاء في القاهرة برعاية الرئيس عبد الناصر، الذي يعطي ضمانة التنفيذ لاحقاً.

إرباك حول هوية الوفد المفاوض

خلقت هوية من سيمثل لبنان في اللقاء إرباكاً وبلبلة وضياعاً... بدا أولاً أنه من الأفضل ألا يكون رئيس الجمهورية على رأس الوفد اللبناني. وبمطلق الأحوال، كان الرئيس حلو مربكاً، يريد تجنّب الحضور لتجنّب المواجهة. أمّا رئيس الحكومة (المستقيلة وبحكم تصريف الأعمال) رشيد كرامي، الذي كان وزيراً للخارجية أيضاً، فتجنّب هو أيضاً رئاسة الوفد لعلمِه بأن الأوراق التي في يد الدولة اللبنانية ضعيفة، فيما الرأي السني الغالب على الساحة اللبنانية هو إلى جانب العمل الفدائي، والرئيس كرامي لم يكن بوارد أن يوافق مرغماً على ما ينتقص من السيادة اللبنانية.

لهذه الاعتبارات، تقرر تكليف أمين عام وزارة الخارجيّة الدكتور نجيب صدقة، تمثيل الحكومة اللبنانية وترؤس الوفد اللبناني إلى القاهرة. وبما أن القمّة ستتطرّق إلى مواضيع أمنيّة حساسة، اتفق بأن يكون رئيس الأركان في الجيش العماد يوسف شميّط من ضمن الوفد. لكن العماد شميّط اعتذر عن المهمة، فطرح اسم قائد الجيش العماد إميل بستاني الذي وافق على أن يترأس هو الوفد اللبناني في هذه الحال. وقد رُبطت موافقة بستاني بموعد الانتخابات الرئاسية القريبة التي كان يحلم بالفوز بها.

المفاوضات في القاهرة

وصل الوفد اللبناني إلى القاهرة في 26 أكتوبر (تشرين الأول). رافق العماد بستاني الرائد سامي الخطيب من الشعبة الثانية، وانضم إلى الأمين العام لوزارة الخارجيّة نجيب صدقة، سفير لبنان لدى مصر حليم أبو عز الدين. لم يحضر الوفد الفلسطيني إلى العاصمة المصرية، لا في اليوم الأول، ولا في اليوم الثاني، ولا الثالث ولا الرابع... مع هذا الانتظار استفاد الوفد اللبناني لإجراء اجتماعات يوميّة مع أعضاء الفريق المصري في المؤتمر لشرح المتاعب التي يعاني منها لبنان جرّاء هذا الوضع الشاذ والتجاوزات الفلسطينية لسيادة واستقلال البلد، والمعطيات التي تستوجب وضع حد لكل ذلك، وكان المصري متفهماً ومتجاوباً مع عرض الوفد اللبناني. كنا في الفريق المركزي للشعبة على اتصال دائم مع الرائد الخطيب، الذي فسّر لنا وسط التشكيك بحضور عرفات والوفد الفلسطيني، بأن ما استنتجه مع العماد بستاني من الأجواء هناك أن عرفات يؤجل قدومه ريثما يتأكد من حصوله على أكبر دعم من الدول العربية لمحاولة فرض أقصى ما يرغب، وأن المؤتمر على الأرجح لن يتوصّل إلى اتفاق حازم لمصلحة الدولة اللبنانية، بل إلى وضع بعض الضوابط للحريّة المطلقة للعمل الفلسطيني. كما أبلغنا الخطيب بأن العماد بستاني يحرص على الاتصال الهاتفي المطوّل برئيس الجمهورية في نهاية كل يوم بحضوره وحضور الدكتور صدقة والسفير أبو عز الدين، لإطلاعه على كامل تفاصيل المناقشات والمستجدات ويطلب التوجيهات، لكن الأخير لم يعطِ أية تعليمات واضحة أو محددة، مكتفياً بتكرار القول: «أنت تصرّف، أنت تصرّف! وأنا بغَطّيك بعدَين...»، وأن بستاني شرح لحلو أهمية قيام الدولة اللبنانية ورئاسة الجمهورية بأقصى ما أمكن دبلوماسياً مع الدول العربيّة للحد من تأثرها بمطالب عرفات، لكن الرئيس كان متردّداً والتزم بقراره بعدم التدخّل...

لم يحضر عرفات والوفد الفلسطيني إلى القاهرة حتى 2 نوفمبر (تشرين الثاني)، في توقيت كان قد صدرت فيه مواقف عربيّة داعمة للمطالب الفلسطينية بقوة، ما جعل الوفد اللبناني في وضع ضعيف جداً. في ظل هذه الأجواء غير المساعدة، كنا نراهن على إطالة المفاوضات أو تأجيلها، ما يفسح المجال للدولة اللبنانية للتواصل مع دول عربيّة بغية استعادة بعض التوازن وتحسين موقف لبنان التفاوضي مجدداً.

3 تشرين الثاني 1969

مفاجأة توقيع الاتفاق!

في نهاية مفاوضات اليوم الذي تلا قدوم عرفات والوفد الفلسطيني، فوجئنا بإبلِاغنا من سامي الخطيب أن اتفاقاً قد أنجز ووقّع، وهو اتفاق سرّي! وأعلمنا الخطيب بأن مضمون الاتفاق ليس لصالح لبنان ولا يثبّت سيادته بقوة. وسرعان ما اتصل بي العماد بستاني وأعلمني، بصفتي مسؤولاً عن الإعلام، بوجوب بث البيان الرسمي حول حصول الاتفاق وتوقيعه من الفرقاء، على أن يصدر البيان بنفس الوقت في لبنان وفي مصر (الثامنة مساءً، وكانت الساعة السادسة والنصف عندها). ونصّ عليّ العماد بستاني النص المقتضب للبيان، الذي لا يتضمّن البنود «السريّة» بل يُعلن فقط عن توقيع الاتفاق. أطلَعتُ المقدّم غابي لحود على النص، فطلب مني إطلاع رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة عليه.

جواب الرئيس كرامي

اتصلت بالرئيس كرامي أولاً، كون المقدّم لحود كان قد علم أن العماد بستاني اتصل بالرئيس حلو مباشرة لتوه. تفاجأ الرئيس كرامي بسرعة حصول الاتفاق وأجاب بكلمات ذات دلالة عالية: «لا حول ولا قوة...!»، وكان يعني بذلك: «الله ينجينا!»، ثم طلب مني قراءة البيان. استمع لتلاوتي، ثم فكّر لبرهة وطلب مني إطلاع «المعلّم» (الرئيس شهاب): «عندو خبرة ونظرة شاملة، بيشوف إشيا نحنا يمكن ما منشوفها». ثم اتصلت بالرئيس حلو الذي لم يعلّق على البيان، ووافق على ما طلبه الرئيس كرامي بأخذ رأي الرئيس شهاب.

أعلَمت المقدّم لحود بمضمون الاتصالَين مع رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، واتصلت بعدها بالرئيس شهاب. أول تعليق للرئيس شهاب كان استغرابه الشديد: «مش قليلي اتفقوا!؟» ثم أضاف غامزاً بالعماد بستاني: «منوش هيّن إبن جريس!»... أطلعته على نص البيان وطلب الرئيس كرامي بأخذ رأيه، فطلب مني قراءة البيان ثانية على مهل ليتسنى له كتابة النص. خلال تلاوتي، توقّف عند الصفة المعطاة لأعضاء الوفد المصري المرافقين للرئيس عبد الناصر، وهما وزير الخارجية ووزير الدفاع المصريان، وقال: «لا، لا، هيك يعني بس مصر... شوف هودي الوزرا عندن كمان صفة بجامعة الدول العربية أو بالدفاع العربي المشترك، حطلهن هيدي الصفة لنعطي صبغة إنو هل الاتفاق تم برعاية عربية مش بس مصرية». ثم عند ورود كلمة «الأمة» العربية، طلب أيضاً استبدالها بـ«الدول» العربيّة. وأضاف: «على الأقل فليصدر البيان في الإعلام اللبناني على هذا النحو». بعدها أعلمت المقدّم لحود ومن بعدها الرئيس حلو والرئيس كرامي بملاحظات الرئيس شهاب اللذَين وافقا على ما نصح به. وأذكر ما قاله الرئيس كرامي بعد إبلاغه التفاصيل: «شفت كيف؟ قلتلك المعلّم بينظر أبعد منّا!»، وأضاف متنهداً: «أمرنا إلى الله».

في اليوم التالي، عنونت جريدة «النهار»: «صدر البيان بنصَين مختلفَين في بيروت والقاهرة!»، وبعد فترة، نشرت الجريدة ذاتها الاتفاق ببنوده السريّة الكاملة بعدما ادّعى العميد إده أن أحد الوزراء «نسيه» على الطاولة في مجلس النواب، فحصل هو على النسخة...

العميد ناصيف مع الرئيسين شارل حلو والياس سركيس (الشرق الأوسط)

الرئيس حلو واتفاق القاهرة

بعد عودة سامي الخطيب من مصر، اجتمعنا في الشعبة لعرض البنود «السريّة» وتقييم الوضع، وتيَقّنا أن البند الوحيد الذي يحمي السيادة اللبنانية والذي أمكن إدراجه في الاتفاق كان البند 13 الذي نص بصورة عامة على أنه «من المسلّم به أن السلطات اللبنانية من مدنيّة وعسكريّة تستمر في ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها كاملة في جميع المناطق اللبنانية وفي جميع الظروف»، بينما تجيز البنود الأخرى للفلسطينيين العمل والإقامة والتنقل داخل لبنان، والتسلّح ضمن المخيمات، وحفظ الأمن الذاتي في المخيمات، والمشاركة في الثورة الفلسطينية العسكرية انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، وتسهيل مرور المسلحين الفلسطينيين إلى مناطق الحدود... خلِصنا إلى تقديم توصية لقيادة الجيش ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة بوجوب طلب اجتماع ثانٍ للفرقاء لتعديل ما اتفق عليه، لأن في الأمر انتقاصاً كبيراً لسيادة لبنان وسلطة جيشه على الأرض الوطنية لصالح وجودٍ مسلحٍ غير لبناني. كما بلوَرنا توصيتنا لاحقاً باقتراح يقضي بذهاب المقدّم أحمد الحاج إلى جامعة الدول العربية ممثلاً لبنان، للمطالبة بتعديلات تعيد للجيش اللبناني دوره السيادي الكامل.

لكن الرئيس حلو لم يشأ القيام بأي خطوة من هذا القبيل أو حتى إبداء مواقف تُعبّر عن اعتراض وعدم رضا لبنان، وفضّل عدم المواجهة... تقدّمنا منه بتوصية جديدة بأن يطلب اجتماعاً لجامعة الدول العربية لإعادة النظر بالاتفاق، لكنه لم يحسم أمره ولم يتحرّك والتزم الصمت... أظن، استناداً إلى خبرتي بالتعاطي معه، أن طبعه الشخصي لعب الدور الأكبر هنا. فهو بطبعِه يتجنّب المواجهات المباشرة، أو التعبير عمّا يرغب أو يفكر به أو ما هو غير راضٍ عنه بوضوح وصراحة.

أظن أن ضمير الرئيس حلو لم يكن مرتاحاً لاحقاً إزاء عدم تصرّفه بحزم حيال الاتفاق خلال مرحلة إبرامه في القاهرة وبعدها، وبقي يحاول طوال حياته التنصّل إعلامياً من هذا العبء، لكنه في مقال له بمناسبة ذكرى وفاة الرئيس شهاب الـ25 في أبريل (نيسان) 1998، أورد جملتَين تحملان دلالة واضحة.

فتَحْتَ عنوان «التزام الرئيس شهاب سيادة لبنان»، كتب الرئيس حلو: «لم يفرّط فؤاد شهاب بقَسَمَين: قسَمه العسكري وقسَمه الرئاسي. وقد خَبِرتُ ذلك من خلال اجتماعه مع الرئيس عبد الناصر، في خيمة على الحدود اللبنانية - السورية. وفي حديثه لي بعد أن تفهّم مني ملابسات اتفاق القاهرة، إذ قال: ما يهمنا قبل كل شيء هو التطبيق الدقيق للبند 13 من الاتفاقية...».


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.