شاشة الناقد: إيحاء جزائري وصورة فلسطينية وثرثرة هندية

مريم مدكران في «196 متر» (تمبل برودكشنز ليمتد)
مريم مدكران في «196 متر» (تمبل برودكشنز ليمتد)
TT

شاشة الناقد: إيحاء جزائري وصورة فلسطينية وثرثرة هندية

مريم مدكران في «196 متر» (تمبل برودكشنز ليمتد)
مريم مدكران في «196 متر» (تمبل برودكشنز ليمتد)

196 متراً

★★★★

* إخراج: شكيب طالب بن دياب

*‫ الجزائر | بوليسي عن خطف الأطفال

* عروض 2025: مهرجان فويبورغ (سويسرا)

هناك إحساس خفي بأن الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج بن دياب لا يتناول فقط قضية خطف أطفال على يد شخص مصاب بوباء أخلاقي وعقل إجرامي، بل يتجاوز ذلك ليعكس هموم العاصمة الجزائر وما يقلق سكانها. في أحد المشاهد، نسمع عبر الراديو عن أزمة مياه تدفع الأهالي إلى الشكوى واتهام الحكومة بالتقصير. وقبل نهاية الفيلم، تتحول هذه الشكاوى إلى مظاهرة كبيرة، حيث يركض شباب يميناً ويساراً وراء الشخصيتين الرئيسيتين اللتين تخوضان لحظات من اتخاذ قرارات مصيرية؛ تحري وطبيبة نفسية سَعيا طوال الفيلم إلى حل لغز عسير.

إلى ذلك، هناك تذكير بالسنوات السوداء، كما سُمِّيت، التي مرت بها البلاد في التسعينات والتي أدّت إلى مآسٍ عنيفة ودامية على أيدي متطرفين بدا وكأنها ستؤول البلاد كلها لهم.

«196 متراً» (أو «Algiers» كما عنوانه الغربي) يبدأ وينتهي مثل وترٍ مشدود. سيارة تدخل شارعاً ضيقاً وتلاحق فتاة صغيرة تلعب وحدها. تتوقف وتتقدم الفتاة إلى نافذة السيارة مستطلعة. تُسحب من النافذة إلى داخل السيارة وتنطلق بها مبتعدة. الشاهد الوحيد أخوها، الصبي الذي كان يلعب مع رفاقه في الحارة. ركض وراء السيارة الهاربة لكنه لم يستطِع التقاط رقمها ولا إفادة المحققين كثيراً.

يقوم بالتحقيق ضابط أول اسمه سامي (نبيل عسلي) ومساعده خالد (هشام مصباح)، ويلتقيان مع طبيبة نفسية اسمها دنيا (مريم مدكران) هزّتها حادثة الخطف وعرضت مساعدتهما في البحث عن الجاني. لديها في البداية فكرة لم تتعدَّ حدود النظرية ولم تحظَ باهتمام المحققين، هذا قبل أن يدرك سامي احتمال أن تكون دنيا على حق.

ستُكشف هوية المجرم في النهاية، لكن الطريق ليس ممهّداً، ولا القصة معالجة على نحو متوقع رغم محطات متفرقة توحي بأحداث لاحقة. هناك خلاف بين سامي ومساعده الذي يؤمن بالعنف وسيلة لاستخراج الحقائق. يمنعه سامي قائلاً له: «تذكر أنك رجل قانون أولاً». هذا قبل طرده من الخدمة معه في الوقت الذي بدأ فيه بالاستماع جدّياً لما توصلت إليه دنيا من معلومات. دنيا وسامي ومعهما مساعد جديد (علي الناموس) ينجزون المهمة في سيناريو ينجح في طرح توقعات واحتمالات بحدة، موفّراً التشويق من بداية الفيلم حتى نهايته.

اللقطات مدروسة والمعالجة صائبة، والموسيقى (وضعها المخرج ومارييل دي روكا-سيرا) من أجمل ما سمعه الناقد كاتب هذه السطور. التمثيل، من كل المشتركين، جيد رغم أن السيناريو يوفر الشخصيات كعناوين وليس كتفاصيل. على سبيل المثال، كان يستطيع السيناريو أن يكون أكثر إيضاحاً للأسباب التي دفعت الطبيبة إلى بذل كل هذا الجهد، وأكثر ربطاً بين جانبي القصة والمحيط السياسي.

غزّة صوت الحياة والموت

★★★

* إخراج: حسام حمدي أبو دان

*‫ قطر ‬| تسجيلي عن الحياة في غزّة

* عروض 2025: مهرجان شيفيلد (بريطانيا).

يلاحق المخرج حسام حمدي أبو دان مهندس الصوت محمد وهو ينتقل في شوارع مدينة غزّة وأحيائها (تم التصوير قبيل بداية الحرب في القطاع وبعدها) ليسجل أصوات كل شيء: السيارات، والصفّارات، وطنين الطائرات المسيّرة، وفوقها جميعاً آلام الناس وأحلامهم المنهارة.

«غزة صوت الحياة والموت» (الجزيرة دوكيومنتري)

من البداية، هناك فيلمان في واحد. الأول مؤلف من الصورة كونها الشرط الأساسي لأي فيلم، والثاني مؤلّف من الصوت الذي هو موضوع الفيلم. كلاهما في صحبة جيدة، ولو أن الفيلم بكامله أبسط تكويناً من أن ينبري بوصفه عملاً يترك أثراً سينمائياً طويلاً. هذا لأن الواقع المؤثر الذي نراه يغلب القدرة على التخطيط لتصوير أي شيء آخر عدا ما يقع لمهندس الصوت وما يقع أمامه أيضاً، وهو كثير.

المخرج معذور بلا شك. الحال الماثل لا يسمح بأكثر مما يُسجله الفيلم ويوثّقه. الشكاوى كثيرة، الدمار شاسع، الخطر ماثل. بعناد يحمل محمد معداته (بما فيها ما يُعرف بـ«Boom» الذي يستخدمه لتسجيل الأصوات)، وبالعناد نفسه يصوّر حالات الناس الذين يتألمون ويأملون.

يختار منتجو الفيلم عنواناً مختلفاً للتسويق الغربي أفضل من عنوانه العربي، وهو «Gaza Sound Man».

Raid 2

* إخراج: راج كومار غوبتا

*‫ الهند ‬| دراما اجتماعية.

* عروض 2025: نتفليكس.

مثل «غزو» الأول سنة 2018 (الذي أخرجه راج كومار غوبتا أيضاً) يقصد الجزء الثاني البحث في شؤون مهمة، لكنه يفقد البوصلة لتحقيق ذلك. مثله أيضاً شخصيات الفيلم الجديد مكتوبة بأحرف كبيرة لكن تفعيلها درامياً يهبط بها إلى فراغ. تبدو مثل ريشة في يد رسّام ينجز ما يعتقد وحده أنه جيد.

«غزو 2» (بانوراما ستديوز)

يبدأ الفيلم بمشهد ليلي لعشرات السيارات تقترب من بعيد على طريق ريفي طويل، ثم ينتقل المشهد إلى القصر المستهدف حيث يجلس ثري في حمام السباحة وسط مجموعة كبيرة من المحتفين.

يركض أحد رجاله إليه ويقول إن سيارات مصلحة الضرائب آتية. مع نهاية التحذير (نحو 15 ثانية) تكون القافلة قد وصلت والشمس بزغت. ويبدأ الحوار بين المسؤول عن القافلة الطويلة وبين الثري. بعد قليل نفهم أن المسؤول (يظهر أحياناً بنظارة استخدمها في الجزء الأول وأحياناً من دونها) يرى أنه قد خدم مصلحته بأمانة لفترة طويلة، وأن الوقت قد حان ليقبض رشوة تناسب جهوده في خدمة الوطن، بقيمة لا تقل ولا تزيد عن 20 مليون روبية.

من هنا ستنتقل الأحداث بضع سنوات إلى الأمام. الثري أصبح وزيراً والمرتشي مطروداً، وهو يدرك أن الثري ما زال لا يُصرِّح عن ثروته للضرائب. ما يحدث بعد ذلك محاكمات ومناوشات وتهديدات وجريمة قتل. الأحداث لا تتنوع، بل تستمر نتيجة رداءة إخراجه وضعف السيناريو الذي لا يريد أن يحذف شيئاً من أحداثه.


مقالات ذات صلة

«مشقلب»... أربع حكايات لبنانية في مرآة الكوميديا السوداء

يوميات الشرق لوسيان بو رجيلي مخرج فيلم «المجموعة» (لوسيان بو رجيلي)

«مشقلب»... أربع حكايات لبنانية في مرآة الكوميديا السوداء

«مشقلب» يسلّط الضوء على واقع الشباب اللبناني بين فقدان الأمل ورغبة التغيير، من خلال 4 قصص قصيرة تمزج الكوميديا السوداء بالواقع المرير.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق ديفيد كورنسويت في مشهد من فيلم «سوبرمان» (أ.ب)

حقق 122 مليون دولار... «سوبرمان» يحلق في صدارة شباك التذاكر الأميركي

تصدّر فيلم «سوبرمان»، الجزء الجديد ذو الميزانية الضخمة من سلسلة أفلام البطل الخارق الشهير، شباك التذاكر في أميركا محققاً إيرادات طائلة بلغت 122 مليون دولار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الناقد الفني السعودي أحمد العياد (الشرق الأوسط)

الموسم الثاني من «بودكاست فاصلة» يوسّع دائرة اهتماماته عربياً

أكّد الناقد السينمائي السعودي ومقدم برنامج «بودكاست فاصلة»، أحمد العياد، أن تحضيرات الموسم الثاني من برنامجه قد بدأت فعلياً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق فيلم «درويش» ينافس في موسم الصيف (الشركة المنتجة)

أفلام جديدة للمنافسة بموسم الصيف السينمائي في مصر

تستعد دور العرض لاستقبال أفلام جديدة للمنافسة في موسم الصيف السينمائي 2025 في مصر.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق كان الموا العملاق يصل ارتفاعه في السابق إلى 12 قدماً (3.6 متر) (أ.ب)

مخرج فيلم «سيد الخواتم» يسعى لإعادة طائر عملاق منقرض إلى الحياة

يخطط بيتر جاكسون، مخرج فيلم «سيد الخواتم»، لإنفاق ملايين الدولارات على إعادة إحياء طائر عملاق لا يطير، انقرض قبل 500 عام.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

حين حاكم يوسف شاهين نفسه

نور الشريف في «حدوتة مصرية» (مصر إنترناشنال)
نور الشريف في «حدوتة مصرية» (مصر إنترناشنال)
TT

حين حاكم يوسف شاهين نفسه

نور الشريف في «حدوتة مصرية» (مصر إنترناشنال)
نور الشريف في «حدوتة مصرية» (مصر إنترناشنال)

حقق المخرج المصري يوسف شاهين، الذي رحل عن دنيانا في مثل هذا الشهر قبل 17 سنة، عدداً مهمّاً من الأفلام التي استحقت التقدير الذي نالته، من بينها «باب الحديد» (1958)، و«الأرض» (1971)، و«عودة الابن الضال» (1976)، و«المصير» (1997). لكن هناك أفلاماً أخرى قرَّر محبّو المخرج إغفال نقاط ضعفها وهناتها. من بينها واحدٌ من أهم أعماله، وهو «حدوتة مصرية» (1982).

تركيبة خيالية

إنه الفيلم الثاني في رباعية شاهين التي بدأت بـ«إسكندرية ليه» (1979)، وشملت أيضاً «إسكندرية كمان وكمان» (1990)، وانتهت بـ«إسكندرية نيويورك» (2004).

ما يميّز «حدوتة مصرية» أنه محاكمةٌ بطلها شاهين، والمتّهم فيها هو شاهين نفسه. وهي تسير على خطّين متلازمين: فهو فيلم يلقي فيه المخرج نظرة على حياته، انطلاقاً من العملية الجراحية التي أجراها لقلبه في لندن بعد انتهائه من إخراج فيلم «العصفور» (1974)، وآخر يسبر فيه غور المحاكمة خياليّاً، يتحدّى فيها شاهينُ الصبيَّ شاهينَ نفسه كبيراً. يخرج الصبيّ من لدن يحيى الكبير خلال، وبعد العملية الجراحية التي أجراها في أعقاب فيلم «العصفور».

هناك قدر من السوريالية في هذا الوضع، لكن ليس وفق الفن السوريالي، بل أقرب إلى تركيبة خيالية مناسبة وضعها المخرج في تصميم إنتاجي خاص (ديكورات وألوان وشخصيات). مشاهد المحاكمة ليست متتابعة أو مستديمة، بل يخرج الفيلم منها ويعود إليها بضع مرّات.

محاكمة مخرج لنفسه أمام الجمهور من جهة، والشخصيات التي عايشها من جهة أخرى، فكرة نيّرة. لكن الفيلم لم يَسْلَم من تقلبات عديدة، من بينها أن ثورته ضد نفسه لا تكاد تبدأ حتى يقاطعها بثورة ضد الآخرين، لأنهم - في رأيه - على خطأ (خصوصاً والدته، وشقيقته، وزوجته)، وضد الظروف السياسية التي يذكر أنها أحاطت به بعد ثورة 1952. ما هو مفقود هنا قدرٌ أعلى من الحقيقة، ونسبة أقل من الخيال.

في الفيلم، يتحدّث شاهين عن ابنته الصغيرة، وهو الذي لم يُنجب. ويتحدّث عن أنه كان ناقداً للثورة، وهذا لم يحدث إلا لاحقاً، وإن حدث قبل ذلك، فليس في الفيلم ما يؤيّده. ما هو موجود مشهد يقول فيه ساخراً لكاتب سيناريوهاته (محمد منير): «ما ترسولكم على برّ»، بعدما وجد أن كاتبه الثوري سُجن بسبب آرائه. ومشهد آخر، ربما تأصّل في الواقع، عن مشادّة حامية بينه وبين الرقابة التي لم توافق على سيناريو أحد أفلامه.

يوسف شاهين (مهرجان كان)

ملابسات فيلم

ينطلق الفيلم من تعرّض يحيى لنوبة قلبية يضطر على إثرها إلى السفر مع طبيبه (أحمد محرز) إلى لندن. وما إن يدخل في غيبوبة العملية حتى تنفتح نوافذ الذكريات، بما فيها مشاهد المحاكمة، ومن بينها محاكمة يُواجه فيها نفسه. كل هذا واضح، وجهد شاهين لإتمام مشاهده داخل الشرنقة السوريالية أو خارجها ثابت، لكن هناك دوماً الشعور بأن المخرج أخفى أكثر مما أبدى، في فيلم هو جزء من سيرة حياته.

بعد أن يمضي الفيلم بعض الوقت في مدينة «كان» ومهرجانها حين عرض «ابن النيل» سنة 1951، ينتقل إلى فيلم «جميلة» (1958). تبدو اختيارات شاهين هنا مشوّشة حيال تلك الفترة. يريد أن يحكي «حواديت» كثيرة في وقت محدد، من دون الإفصاح كثيراً عن مضامين بعضها. بعد الفشل في «كان»، نجاحٌ محدود في مهرجان «موسكو» عند عرض «جميلة». ثم هناك فقرة طويلة عن ملابسات عرض فيلمه اللاحق «باب الحديد» في مهرجان «برلين»، في المسابقة. في «حدوتة مصرية»، نراه وقد اضطر للبقاء في القاهرة، لأنه لم يكن يملك المال الكافي للسفر. في مشهد ضمن هذا الفصل، يُعلِمنا أن 6 من أعضاء لجنة التحكيم أرادوا منحه جائزة أفضل فيلم، قبل أن تُمنح لفيلم آخر «Wild Strawberries» لإنغمار برغمان.

يسرا ونور الشريف في «حدوتة مصرية» (مصر إنترناشنال)

ميزات مهمّة

استرجع شاهين، في لقاء خاص بيننا بعد سنوات من عرض «باب الحديد» في مهرجان «برلين»، أن جمهور المهرجان الألماني فُوجئ به يظهر على مسرح الصالة من دون عرج، إذ اعتقدوا أن شاهين الممثّل أعرج فعلاً، كما هو حاله في الدور الذي أدّاه. وفي الفيلم، ينفي أنه كان في برلين أساساً! أحد الأسباب التي جعلت يوسف شاهين مخرجاً مرموقاً، هو اختياره أساليب سرد ومعالجات غير سائدة بين باقي المخرجين العرب. لذا فإن أفلامه، من بعد مرحلته الأولى، تستند إلى تجربة المخرج الذاتية ورؤيته، وكنه حياته، وهي من مميزات سينماه الأهم.

اعتمد شاهين على تأليف أدوات تعبير تنطلق من ذاته ورؤيته. طبعاً، كان قد بدأ بإخراج أفلام عادية المستوى (أو أقل، في عدد منها)، لكن منذ السبعينات انصرف إلى إنجاز أفلامه الأهم (باستثناء «باب الحديد» في الخمسينات).

انتمى إلى النبتة المصرية فيه، غير أنه استلهم من الثقافات الأجنبية ما يكفي ليترك في أفلامه تأثيراً شكليّاً مهمّاً نراه في إدارة الممثلين، وفي اختيار زوايا وأحجام اللقطات، وتحريك الكاميرا، كما في المونتاج والإيقاع العام للفيلم الواحد.

ما يُعرقل سيرته في «حدوتة مصرية»، كما في رباعيته الذاتية عموماً، هو مزجه ما حدث بما لم يحدث (وهناك كثير من هذا التناقض)، بغرض إرضاء نزعة إعجاب بالنفس، ورغبة في التباهي. في ذلك، هو مثل شخص يصفّق لنفسه: هنا ينتقد نفسه، لكنه يمنعها من إدانته في مشهد آخر، ويؤكّد نبوغه مباشرة في كل الحالات.