روبن أوستلند يسخر من ركاب طائرة بلا ترفيه

فيلمه المقبل يطرح سؤالاً صعباً

روبن أوستلند خلال التصوير (إمبرتڤ إنترتاينمنت)
روبن أوستلند خلال التصوير (إمبرتڤ إنترتاينمنت)
TT

روبن أوستلند يسخر من ركاب طائرة بلا ترفيه

روبن أوستلند خلال التصوير (إمبرتڤ إنترتاينمنت)
روبن أوستلند خلال التصوير (إمبرتڤ إنترتاينمنت)

يعود المخرج السويدي روبن أوستلند إلى الشاشات في العام المقبل بفيلم جديد عن الترفيه... أو - بالأحرى - عن عدمه.

الفيلم يحمل عنواناً دالاً «نظام الترفيه معطل» (The Entertainment System is Down)، وهو من بطولة مجموعة كبيرة من نجوم أميركا وأوروبا من بينهم وودي هارلسون وكيانو ريڤز وكريستين دانست وسامنتا مورتون ودانيال برول وجول إدجرتن.

بوصلة الفعل

العنوان هو إشارة لعبارة مطبوعة تظهر على شاشات الطائرات المتلفزة خلال الرحلات إذا ما أصاب عطل تقني البث في كل أقسام الطائرة.

الرحلة طويلة من غرب الولايات المتحدة إلى أوروبا، والركاب جميعاً تعوّدوا على مشاهدة ما تعرضه محطات الطائرة من أفلام وبرامج ترفيهية أو رياضية أو أخبار أو أغانٍ وموسيقى. هكذا اعتادوا وهكذا يتأمّلون في زمن قلّ فيه عدد من يعمد على الكتب ليقرأها. إنه الزمن نفسه الذي لم يعد بالإمكان مطالعة الصحف والمجلات فيه، لأنها محدودة أو ممنوعة في الرحلات الجويّة.

«الميدان» (بلاتفورم برودكشن)

السؤال الظاهر الذي يطرحه الفيلم الجديد: ماذا سيفعل الركّاب في رحلة ستستغرق 10 ساعات أو أكثر ما بين عاصمتين متباعدتين.

السؤال الضمني هو ماذا فعل حب الترفيه بنا بحيث لم نعد قادرين على الحياة من دونه؟

هذا السؤال من مخرج تخصّص في الأسئلة الصعبة، كما حاله في «الميدان» (The Square) سنة 2017. و«مثلّث الحزن» (Triangle of Sadness) في 2022. كلاهما نال السّعفة الذهبية من مهرجان «كان» العريق. كل منهما ألقى نظرة ساخرة على أنماط الحياة التي نعيشها اليوم.

في «الميدان» شاهدنا أوستلند ينبري في معالجة غير متوقعة لتقديم حكاية مشرف على متحف في ستوكهولم يتعرّض لسرقة محفظته وهاتفه المحمول وهو في طريقه لعمله. فهو في سبيل حضور احتفاء فني يدعو فيه الناس لتحمّل مسؤولياتهم حيال الفن والمجتمع. الفيلم، في جزءٍ منه، يدور حول كيف أننا قد نفقد بوصلة الفعل الصحيح حال وقوع حادث مفاجئ. بطل الفيلم (كليز بانغ) يتصرّف من دون وعي ويجد نفسه سريعاً مع مديري المتحف الذين صرفوا ميزانية كبيرة على هذا المشروع.

لم يسرد الفيلم حكايته بتسلسل متواصلٍ أو بمشاهد هي بالضرورة متتالية على منهج منظّم، بذلك هو، في غالبيّته، عبارة عن مشاهد غير مترابطة تشبه فن النقش أو مثل مرايا تحيط بالمكان الواحد ومن فيه، بحيث تعكس ما ترويه من زوايا متعددة وليس على نحو متتابع بخط جلي واحد.

طرفا نزاع

لفيلمه التالي، «مثلث الحزن» انتقل إلى سؤال آخر يوجهه إلى مشاهديه.

يدور الفيلم أساساً حول الشاب كارل الذي جرى قبوله للعمل عارض أزياء (هاريس ديكنسن) وصديقته يايا (شاريبي دين). يبدأ الفيلم بمشاهد ساخرة لعملية انتقاء المرشّحين للعمل عارض أزياء ثم ينتقل بكارل وصديقته إلى عشاء في مطعم. الطاولة ليست الوحيدة التي تفصل بينهما، بل أيضاً منهج تفكير يرمي لطرح موضوع التوازن الذي يبدو مفتعلاً في علاقات اليوم. فهو يصرّ على أن تدفع هي ثمن العشاء. عندما توافق بعد تردّد يصر على أن يدفع. بين الموقفين وتبعاتهما هناك ما يبدو نزعة غير ناضجة لتأكيد الذات الذكورية أو، بنظرة أكثر شمولاً، نزعة صوب فرض معاملة بالمثل يلجأ إليها الطرفان في عالم اليوم.

هاريس ديكنسن في «مثلث الحزن» (إمبرتڤ إنترتاينمنت)

بعد ذلك هما على ظهر يخت في عرض البحر حيث سيستعرض المخرج شخصيات متعددة من ذوي الثراء. كارل ويايا لا ينتميان إلى تلك الزمرة، لكنهما لا يمانعان ممارسة حلم التقرّب والتماثل بما إنهما مدعوان (مجّاناً) لذلك. عبر هذا كله يرسم الفيلم صورة عن الطبقات وسوء التصرّفات حين الأزمات وكيف يعيش البعض منا في أوهام ترضيه.

الملل... الملل

الفيلم الجديد سيُعالج مسألة الملل إذا ما وقع ما هو غير متوقع في حياتنا اليومية. في فيلمه الأسبق، يتعرّض بطل الفيلم للسرقة فتنقلب حياته رأساً على عقب. في الثاني يجد بطلا الفيلم نفسيهما مثل حمامتين وسط الصقور. هنا السؤال حول كيف سنتصرّف إذا ما وجدنا أنفسنا بلا قدرة على ملء فراغ حياتنا بالترفيه.

بعض ركّاب تلك الطائرة معرّضون لحالة إفشاء الأسرار على العلن. من بينهم الزوجان كريستين دَانست ودانيال برول اللذان كانا يعيشان في شرنقة من الخداع العاطفي، فكل منهما خان الآخر في علاقات عاطفية جانبية.

من دون أن يكشف المخرج عن تفاصيل الحكاية ودور باقي الشخصيات فيها، فإن الفيلم (الذي يُصوّر حالياً في طائرة فعلية من دون مشاهد خارجية) هو عن عاصفة أخرى تضرب الطائرة ومن فيها.

على أن سرد الحكاية وحدها ليس من عادة المخرج أوستلند كما برهن سابقاً.

موضوع الترفيه (ذَ إنترتاينمنت) بوصفه وسيطاً بين الإنسان وعالم آخر يجذبه ولا يستطيع دخوله فعلياً هو أكثر من رمزٍ قائم لحالة أي منا قد يجد نفسه محروماً، لسبب أو أكثر، من متابعة الترفيه ليكون خطاً يسير متوازياً مع حياته الواقعية. بالتالي، قد نتعرّض، حين مشاهدة الفيلم، إلى السؤال الأصعب: ماذا لو أن السينما وأفلامها اختفت من الظهور؟ ماذا لو أدّى التقدّم التقني لتعطيل الإنترنت الذي بتنا نصرف عليه ساعات حياتنا الثمينة؟ إنهما سؤالان جديران بالطرح، وأوستلند يتولّى ذلك في «نظام الترفيه معطّل».


مقالات ذات صلة

شاشة الناقد: أزمات لا تنتهي

سينما «الفتاة ذات الإبرة» (نوردسك فيلم برودكشنز)

شاشة الناقد: أزمات لا تنتهي

اهتمامات المخرج مانغوس ڤون هورن بالقضايا الاجتماعية قادته إلى كتابة هذا السيناريو المُعتم عن حالات يائسة تمرّ بها بطلة الفيلم تباعاً منذ بداية الفيلمز

يوميات الشرق الفنان محمد سعد يعاود الحضور سينمائياً (حسابه على «فيسبوك»)

«الدشاش» يُعيد محمد سعد للسينما بعد غياب 5 سنوات

يعاود الفنان المصري محمد سعد الحضور سينمائياً، من خلال فيلم «الدشاش»، الذي أعلن المخرج سامح عبد العزيز عن البدء في تصويره، بعد غياب 5 سنوات.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق أفيش الفيلم (الشركة المنتجة)

رحلة بحث عن «الفستان الأبيض» تكشف خبايا «المهمشين»

أكدت المخرجة جيلان عوف وهي أيضاً مؤلفة الفيلم أن التحضير للعمل استغرق 4 سنوات.

انتصار دردير (الجونة (مصر))
يوميات الشرق ⁨يرى صندقجي أن الأفلام الوثائقية هي بمثابة رحلة في الحياة (الشرق الأوسط)⁩

عبد الرحمن صندقجي: فيلم «عُمق» يتناول إحدى أخطر مهن العالم

أفصح المخرج والمنتج السعودي عبد الرحمن صندقجي، عن أنه يعكف حالياً على تصوير فيلمه الوثائقي «عُمق» الذي يعرض فيه تفاصيل حياة الغواص السعودي أحمد الجابر.

إيمان الخطاف (الدمام)
يوميات الشرق مشهد من الفيلم - (الشركة المنتجة)

«الكل يحب تودا» يحتفي بصلابة مطربة شعبية مغربية

يرصد الفيلم رحلة «تودا» التي تحلم بأن تصبح «شيخة» (مطربة تقدم الأغاني الشعبية التراثية)، وهي أم مسؤولة عن تربية ابنها الوحيد.

أحمد عدلي (الجونة (مصر))

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
TT

كيف عبرت سينما لبنان عن حروبه وأزماته؟

القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)
القضية 23 (إيزكيَل فيلمز)

بينما تقصف الطائرات الإسرائيلية مناطق لبنانية عدّة وتدمّر بلدات وضواحي، وتُغير على المدن صغيرة وكبيرة، لا يسعُ المرء إلا ضمّ هذه الفترة الحاسمة التي يمر بها لبنان إلى فترات ومراحلَ عاشها هذا الوطن المكبّل منذ نحو نصف قرن. هذا إذا ما عفونا عما سبق ذلك من مراحل صعبة أخرى وإن لم تكن بهذه الحدّة.

أفلام أولى

انطلقت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 وازدادت شراسة بعد أشهر قبل أن تتحوّل إلى منوال حياة لنحو 16 سنة. خلالها وبعدها كان من الطبيعي للسينما أن تصوّر تلك الحرب من زوايا مختلفة. هي مجرد تسجيل وتوثيق في أفلام، ودراميات منتشرة على جانبي خط التماس في أفلام أخرى. بطبيعة الحال انتمى معظمها للتعبير عن الأسى والمُصاب وكيف أن شعب بلدٍ واحد تشرذم سياسياً وعمد إلى السّلاح لإثبات أن الآخر يجب أن يُمحى.

المخرج جورج شمشوم أنجز فيلماً وثائقياً طويلاً بعنوان «لبنان لماذا». العنوان نفسه يحمل حزناً أكبر من السؤال المطروح عبره. صُوّر على جانبي الخط الفاصل بين الفُرقاء وجاء، في نسخته الأولى غير المعدّلة، عاكساً لرغبة المخرج تسجيلَ الحقائق بحياد.

معارك حب (موڤنتو فيلمز)

على بُعدٍ يسير حقّق الرّاحل رفيق حجّار «الملجأ» (في مطلع الثمانينات) ليصفَ وقعَ الحربِ على أبرياء مسلمين ومسيحيين. نظرة حيادية أخرى تحميها الغاية الإنسانية التي تبنّاها الفيلم.

بعد ذلك ازداد عددُ الأفلام التي تداولت تلك الحرب حتى - وربما خصوصاً - من بعد نهاية سنواتها المريرة. من أبرز أعمال تلك الفترة «زنّار النار» لبهيج حجيج تدور قصّة حول أستاذ مدرسة يواجه أزمتين حادتين، واحدة شخصية وعاطفية، والأخرى أزمة الحرب الواقعة.

الأزمة تتبدّى كذلك عبر تطلّعات فتاة تعيش جوّ عائلتها المسيحية في الفيلم الأول لدانيال عربيد «معارك حب»، تناولتها من زوايا مختلفة المخرجة مي المصري في «يوميات بيروت»، و«أحلام المنفى»، و«أطفال شاتيلا»، وهي مجموعة من أعمال حققتها وزوجها الراحل جان شمعون، تناولت الوضع اللبناني من خلال المأساة الفلسطينية والاعتداءات الإسرائيلية التي، للحقيقة، قلّما تباعدت فعلياً خلال نصف قرن من الزمان بدءاً بعمليات اغتيال شخصيات لبنانية وفلسطينية عدّة في الستينات وما بعد.

بين بغدادي وعلوية

قبل ذلك بأعوام، قاد مخرجان لبنانيان قطار الحديث عن لبنان كأزمة عيش وأزمة حرب. المخرجان هما برهان علوية، ومارون بغدادي. كلاهما رحل. الأول في المنفى، والثاني خلال زيارة لبيروت آتٍ من فرنسا حيث كان انتمى إلى هيكل أعمالها.

في «بيروت اللقاء» لعلوية (1982)، حكاية لقاءٍ لا يتم بين مسلم ومسيحية. الظروف المانعة هي تلك الحرب المجنونة. وجهة نظر الفيلم هي ما تعنيه الحرب من انكسارات نفسية وعاطفية. ليس أن حيدر (هيثم الأمين)، وزينة (نادين عاقوري)، عاشقان قبل أو خلال تلك الحرب، بل كلاهما ينشد معرفة الآخر لعله يعرف نفسه أكثر.

الرغبة في المعرفة قادت مارون بغدادي لتحقيق فيلمين عن هذا الموضوع هما، «بيروت يا بيروت» (1975)، و«حروب صغيرة» (1982). الأول تعبيرٌ عن الشعور الداخلي الذي كان ينتاب المخرج حيال التركيبة الطائفية والاجتماعية. بطلته (ميراي معلوف) تسعى لمعرفة الآخر، في حين صديقها المثقف (جوزيف بو نصّار)، محافظٌ يؤمن بالتباعد وليس مهتماً بمعرفة ذلك لآخر. كلاهما من عائلتين مسيحيّتين، والآخر لا بد أن يكون الطّرف المسلم الذي يؤيد القضية الفلسطينية والعدالة الاجتماعية والعروبة.

في فيلمه اللاحق «حروب صغيرة» (الأفضل حرفياً من سابقه)، نقل بغدادي المعادلات نفسها إلى وطيس الحرب الأهلية. النماذج التي تعبّر عن مواقف هي ثابتة: المرأة التي تنشد المعرفة. المسلم الذي يبحث عن مستقبل، والمسيحي الملتزم.

زنار النار (بورتريه أند كومباني)

سجل حساب

من الأفلام التي طَرحت إفرازات الموقف بعد الحرب وعلى نحو جيد ومحسوب، فيلم زياد الدويري «القضية 23» (2017). أحداثه تقع بعد الحرب بسنوات، بيد أن بعض أسبابها لا تزال قائمة: طوني (عادل كرم)، رجل من المهجَّرين منذ أن اكتسح المقاتلون الفلسطينيون واليساريون منطقة الدامور خلال الحرب الأهلية، يعيش الآن في بيروت (الشرقية)، ويعمل في كاراجه ويشحن بطارياته السياسية بخطب زعماء اليمين اللبناني حاملاً ضغينة ضد الفلسطينيين. لذلك، ما إن سمِع لهجة رجل فلسطيني يقف تحت شُرفة منزله حتى رمى عليه الماء.

الفلسطيني هو ياسر (كامل الباشا)، يعمل وكيلَ عمّالٍ في البلدية، ويشرف على تنفيذ إصلاحات في الشارع حيث يعيش طوني، الذي يُخبر ياسر في مطلع المشادة بينهما «يا ليت شارون قضى عليكم جميعاً». التجاذب يُدلي إلى مشادة، والقضية تُرفع إلى المحكمة بين شخصين؛ الأول ما زال يحمل مبادئه السياسية، والآخر يحاول أن يحافظ على موقعه ليعيش. في مرافعات طوني حديثٌ عن أن الفلسطيني يُعامَل في لبنان أفضل من معاملة اللبناني في بلده. لكن المحكمة حكمت لصالح الفلسطيني، خصوصاً أنه مُتعاقد رسمياً مع مؤسسة الحكومة للقيام بما عُهد إليه من أعمال.

هذا واحد من سجلِّ الحسابات المفتوحة التي ما زال الوضع السياسي يعجّ بها إلى اليوم. لكنه ليس السجِّل الوحيد. على سبيل المثال حظت قضية المخطوفين والمفقودين ببعض الأفلام التي عالجت ذلك الجرح الغائر. ربما دفنته لدى بعضهم الأيام وصولاً إلى الحال الراهن، لكنّ الأحياء الذين عانوا من غياب أفراد عائلاتهم ما زالوا يتذكرون ويتألمون.

أفضلُ تصوير لذلك ورد في فيلم «طرس... الصعود إلى المرئي» لغسان حلواني (2019). تسجيلي مشغول بوصفه نبشاً فنياً وموضوعياً فريداً في جدار الذاكرة.

في صميمها، هذه نماذج من كثير من الأفلام التي صاحبت تلك الحرب الأهلية، ومن ثَمّ تابعتها أو أتت بجديد مُستنتج منها وصولاً إلى وضع جديد حاضر سيُنتج بدوره أفلاماً أخرى.