تاريخ طويل لأفلام اليسار واليمين وحرب الأشقاء

فيلم جديد يتنبأ بحرب قريبة بين الأشقاء

من «حرب أهلية» (A24)
من «حرب أهلية» (A24)
TT

تاريخ طويل لأفلام اليسار واليمين وحرب الأشقاء

من «حرب أهلية» (A24)
من «حرب أهلية» (A24)

الحبكة التي يدور حولها فيلم «حرب أهلية» (Civil War) للمخرج أليكس غارلاند، ويحتل الأسبوع الحالي، المركز الأول في الإيرادات بالولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبضع دول أخرى هي، ماذا لو اندلعت حرب أهلية أميركية في الزمن الراهن أو المستقبل غير البعيد.

ماذا يسأل الفيلم، لو انقسمت البلاد إلى قسمين: واحد يتبع النظام القائم والثاني متمرد عليه. والطرف المناوئ للنظام ليس عصابة أو مجموعة إرهابية، بل يتألف من معترضين على النظام السياسي القائم ممن يريدون استبداله.

لا يُبحر الفيلم في طرح البديل ولا يوفر فكرة لنظام بديل أو آيديولوجيا معيّنة، بل ينطلق لتصوير وضع خيالي مستمد، على ما يبدو، من احتمال انقسام البلاد كما حذّر الرئيس السابق دونالد ترمب أكثر من مرّة.

نقدُ الفيلم له مجال آخر، لكنه مبنيّ في الواقع، ولو نسبياً، على أن الولايات المتحدة شهدت حربها الأهلية من قبل، ما بين 1861 و1865 التي دارت بين قوات الحكومة الأميركية الفيدرالية وبين القوات العسكرية المنتمية إلى الجنوب المعارض لها. النتائج كانت مروعة تتراوح بين 600 ألف و750 ألف قتيل من الجهتين. المؤرخ الجامعي جيمس ماكفيرسون يرفع الرقم إلى شمالي 800 ألف.

مهما كان الرقم (وهو مرتفع) فإن السينما، ومنذ بداياتها عالجت تلك الحرب، مما يجعل الفيلم الجديد نبوءة خيالية في مقابل أن نحو 100 فيلم تداولت تلك الحرب بوصفها واقعة. وبعض أهمّها علماً وصفها بأن ذلك التناول اختلف من فيلم لآخر حسب معطيات سياسية مختلفة.

«رفاهية جنوبية» (سينما غروب فنتشرز)

يسار الخط ويمينه

الفترة التي تقع فيها أفلام الحرب الأهلية هي نفسها المعروفة بأفلام الغرب (أو «الوسترن»). لكن ليس كل فيلم عن الحرب الأهلية هو بالضرورة فيلم عن الغرب الأميركي والعكس صحيح. المشترك بين الأفلام التي تتحدث عن الحرب الأهلية وتلك التي تبتعد عنها هو التاريخ. في «Shane» (جورج ستيڤنز، 1953) لا نعلم تاريخ بطل الفيلم الآتي من عمق الأفق إلى الواجهة. ربما شارك في الحرب وربما لم يشارك. هذا أيضاً حال «رجل وحيد» (A Man Alone) إخراج راي ميلاند وبطولته (1955) ومئات الأفلام الأخرى. لا شيء فيها عن تلك الحرب ولا عن الشخصية وماذا فعل خلال تلك السنوات العنيفة.

بعض مؤرخي النوع قسّم سينما الغرب بأكملها (بما فيها أفلام الحرب الأهلية) إلى نوعين. قسم ديمقراطي والآخر جمهوري وذلك تبعاً لأي سياسة يتبنّاها. لكن التقسيم الأجدى أو الأكثر وضوحاً على الأقل، هو أن أفلام الغرب إما تقف على يسار الخط أو على يمينه. إما مع الانعتاق من التقاليد ومواجهة النخبة من أصحاب الأملاك أو مع الحفاظ عليها، بما فيها مسألة الرّق التي كانت وقود تلك الحرب.

في هذا الإطار فإن «مولد أمّة» (Birth of A Nation) هو يمينيّ محافظ في مقابل «مجد» (Glory) لإدوارد زويك مثلاً. الأول (1915) مع تجارة العبيد والثاني (1989) يتبنّى قضيتهم.

«مولد أمّة» ملحمة تاريخية. أول فيلم روائي طويل لمخرجه ديفيد وورك غريفيث وأول فيلم طويل عن الحرب الأهلية (كان غريفيث تطرّق إليها في أفلامه القصيرة قبل هذا الفيلم)، وأول فيلم تمنعه بعض الولايات المتحدة الأميركية إلى أن انتشر هذا المنع، بالصورة التجارية، تدريجاً وذلك نسبة للتعصّب العنصري الذي استوحاه المخرج من رواية وضعها المبشّر توماس دِيكسون ودارت حول عائلتين من مواطني الجنوب متجاورتين، يسود الوئام بينهما إلى حين اندلاع الحرب. إحدى العائلتين تصطفّ مع المنشقين والأخرى مع القوات الفيدرالية. في خضم ذلك، هناك الجنود السّود الذين يحاربون ضمن تلك القوّات والذين حال تتاح لهم فرصة اقتحام بلدة جنوبية ينتشرون بحثاً عن مال يسرقونه أو امرأة بيضاء يغتصبونها. في الرواية كما في الفيلم الخلاص يتم على أيدي عصبة كوكلس كلان، لكي تحمي العنصر الأبيض من خطر العنصر الأسود.

على عكسه تماماً، انطلق «مجد» (مع بطولة لدينزل واشنطن وكاري إلويس وماثيو برودريك) لتقديم الجنود السود يضحّون بحياتهم في سبيل الانعتاق من العبودية ومؤازرة القوّات الحكومية التي تجمعهم تحت مظلّتها.

كلينت ايستوود في «الشرير جوزي وَلز» (وورنر)

لأجل من يحب

المسألة ليست أبيض وأسود في فيلم «ذهب مع الريح» (Gone with the Wind) لڤيكتور فليمنغ (1939). هذا فيلم أسطوري بالنسبة لخلفيّاته الإنتاجية والميزانية الكبيرة التي خصّصت لنقل رواية مارغريت ميتشل ذائعة الصيت. هناك الجنوبي في نشأته الذي لا يمتنع عن اعتبار الحرب فرصة سانحة للكسب المادي (كلارك غايبل) الذي يقع في حب الفتاة الجنوبية التي تعارض الحرب لكنها تشعر بأسى لم يحدث لها. المسألة العنصرية ممحيّة هنا مع وجود امرأة سوداء (هاتّي مكدونيال) السعيدة بحياتها ضمن الأسرة الجنوبية البيضاء.

ومع أن فيلم الكوميدي باستر كيتون «الجنرال» (1926) يتحدّث عن رجل من الجنوب يخترق الجبهة الشمالية ويعود فاشياً بعض أسرارها للمتمرّدين، إلا أن المحور هنا هو حبّه للفتاة التي اختطفها جنود الشمال. سينمائياً، كان من الصعب - تاريخياً - إقناع المشاهدين آنذاك أن يكون الأمر معاكساً (كأن يكون البطل شمالياً والخاطفون جنوبيين) نظراً لأن تركيبة هذه الدراما تعتمد على التطوّع للحرب، وهو أمر كان شبه مناط بالجنوبيين الأقل عدداً من الجيش الشمالي. هذا لا يمنع مطلقاً من النظر إلى هذا الفيلم بوصفه تحفة من بين تلك التي حققها المخرج خلال الفترة الصامتة.

هناك فيلمان لكلينت إيستوود تعاملاً مع الحرب الأهلية. الأول كان من بطولته فقط، وهو «المخدوع» (دونالد سيغل، 1971) والثاني، «الخارج عن القانون جوزي وَلز» (The Outlaw Joesey Wales) وبطولته (1976).

في «المخدوع» هو مجنّد شمالي جريح تنقله فتيات مدرسة خاصة للبنات، تقع في الجزء الجنوبي من البلاد، إلى غرفة في المدرسة للاعتناء به. فيلمٌ خالٍ من السياسة، لكنه يفصح عن مواقف عاطفية (تقع المدرّسة وبعض البنات في حبّه) وأخرى عنصرية (وجود خادمة سوداء تثري الدراما المحكية).

«الخارج عن القانون جوزيه وَلز» في صميم تلك الحرب. إيستوود هو وَلز، الذي يخسر عائلته بسبب هجومٍ شماليٍّ، يهرب مباشرةً بعد انتهاء الحرب من مطارديه، ومن ثَمّ يتحوّل إلى متبنٍّ لنظرية أن أميركا هي ملكُ الجميع. في الفيلم حثالات من الشخصيات البيضاء الشريرة، هنودٌ حمر جيّدون، ومجموعة من البيض يحاولون أن يجدوا لأنفسهم مكاناً فوق تلك الأرض.

ضحايا اليوم بسبب الأمس

تبعات وأوضاع تلك الحرب وردت في العديد من الأفلام في «بندقية سبرينغفيلد» (أندريه د توث، 1952) يحاول غاري كوبر معرفة مَن الذين يسرقون الجياد لبيعها للجنوبيين. في «الهروب من فورت براڤو» (جون ستيرجز، 1953) نجد ويليام هولدن يعامل الجنوبيين الأسرى معاملة قاسية لكن على الجانبين العمل معاً على دحر القبائل الهندية.

مثله في تشييد تعاون رغم العداوة «غير المهزومين» (The Undefeated) لأندرو ڤ. مكلاغلن (1960). قصّة كولونيل اتحادي (جون واين) يستقيل من الجيش ويَسوقُ نحو 1000 دقرة لبيعها في المكسيك. في الوقت نفسه، هناك كابتن في القوّات الانفصالية (روك هدسون) يقود الرافضين لنتائج الحرب الأهلية إلى المكسيك للاستقرار. رغم عداوتهما سيتآلفان لردّ هجمات العصابات والعساكر الفرنسيين. معارك جيدة التنفيذ مع خللٍ في الانتقال بسلاسة بين قصّتين تسيران متوازيتين. لجانب قتال يدوي بين الشماليين والجنوبيين من نوع «لكمة مني لكمة منّك» للترفيه. يسعى الفيلم أن يتحاشى الانضمام إلى فريق دون آخر، لكن بما أن واين هو القيادي فإن الفيلم عليه أن يضع ما يمثله نصف خطوة إلى الأمام.

ومن ثَمّ هناك ذلك الفيلم الرائع «رفاهية جنوبية» (Souther Comforts) لوالتر هِيل (1981) فيلم حديث (ليس وسترن) عن فرقة من جنود الحرس الوطني يُنقلون إلى ولاية لويزيانا الجنوبية في مهمّة تدريبية؛ بنادقهم لا تحمل ذخيرة حيّة، ويجدون أنفسهم مكروهين في مواجهة أبناء الجنوب الذين لا يزالون يكنّون للشماليين العداء. فيلم منسيّ اليوم، لكنه من بين أفضل ما حققه ذلك المخرج وما تحقق في تلك الفترة، ومعالجة خفية لموضوع الحرب التي لا تنطوي.


مقالات ذات صلة

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

يوميات الشرق هند الفهاد على السجادة الحمراء مع لجنة تحكيم آفاق عربية (إدارة المهرجان)

هند الفهاد: أنحاز للأفلام المعبرة عن روح المغامرة

عدّت المخرجة السعودية هند الفهاد مشاركتها في لجنة تحكيم مسابقة «آفاق السينما العربية» بمهرجان القاهرة السينمائي بدورته الـ45 «تشريفاً تعتز به».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق «أرزة» تحمل الفطائر في لقطة من الفيلم اللبناني (إدارة المهرجان)

دياموند بو عبود: «أرزة» لسانُ نساء في العالم يعانين الحرب والاضطرابات

تظهر البطلة بملابس بسيطة تعكس أحوالها، وأداء صادق يعبّر عن امرأة مكافحة لا تقهرها الظروف ولا تهدأ لتستعيد حقّها. لا يقع الفيلم اللبناني في فخّ «الميلودراما».

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق المخرج المصري بسام مرتضى يرفع بجوائز فيلمه «أبو زعبل 89» (إدارة المهرجان)

«القاهرة السينمائي» يوزّع جوائزه: رومانيا وروسيا والبرازيل تحصد «الأهرامات الثلاثة»

أثار الغياب المفاجئ لمدير المهرجان الناقد عصام زكريا عن حضور الحفل تساؤلات، لا سيما في ظلّ حضوره جميع فعاليات المهرجان.

انتصار دردير (القاهرة)
يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )

«وين صرنا؟»... التجربة الإخراجية الأولى للتونسية درة تلفت الأنظار

الممثلة التونسية درة وعلى يمينها حسين فهمي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي مع أبطال فيلم «وين صرنا؟» خلال عرضه الأول في المهرجان أمس (إكس)
الممثلة التونسية درة وعلى يمينها حسين فهمي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي مع أبطال فيلم «وين صرنا؟» خلال عرضه الأول في المهرجان أمس (إكس)
TT

«وين صرنا؟»... التجربة الإخراجية الأولى للتونسية درة تلفت الأنظار

الممثلة التونسية درة وعلى يمينها حسين فهمي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي مع أبطال فيلم «وين صرنا؟» خلال عرضه الأول في المهرجان أمس (إكس)
الممثلة التونسية درة وعلى يمينها حسين فهمي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي مع أبطال فيلم «وين صرنا؟» خلال عرضه الأول في المهرجان أمس (إكس)

لم تكن الحياة في غزة سهلة أو حتى طبيعية قبل حرب السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، لكن حتى هذه الأيام يحن لها الآن الناجون من القطاع ويتمنون استعادتها، ومنهم نادين وعائلتها أبطال الفيلم الوثائقي «وين صرنا؟» الذي يمثل التجربة الإخراجية والإنتاجية الأولى للممثلة التونسية درة زروق، والذي لفت الأنظار خلال العرض في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

يستعرض الفيلم على مدى 79 دقيقة رحلة نزوح نادين وطفلتيها التوأمتين وإخوتها وأمها من حي تل الهوى بمدينة غزة يوم 13 أكتوبر 2023 وصولاً إلى مصر بعد ثلاثة أشهر من بدء الحرب.

ويعتمد في مجمله على سرد أفراد العائلة في القاهرة لذكريات حياتهم في غزة قبل الحرب ومغادرتهم منزلهم قسراً بناء على أمر إخلاء من القوات الإسرائيلية، حاملين معهم أبسط المتعلقات الشخصية على أمل العودة قريباً وانتقالهم إلى مخيم النصيرات، ثم رفح.

وفي مقابل ارتياح مؤقت بالنجاة من قصف مكثف حصد آلاف الأرواح من بينهم جيرانها وأصدقاؤها، يعتصر الخوف قلب نادين بسبب زوجها عبود الذي لم يستطع الخروج مع العائلة وظل عالقاً في غزة.

ويظهر عبود في لقطات من غزة معظمها ملتقط بكاميرا الهاتف الجوال وهو يحاول تدبير حياته بعيداً عن الأسرة، محاولاً إيجاد سبيل للحاق بهم في القاهرة حتى يكلل مسعاه بالنجاح.

وفي رحلة العودة يمر عبود بشواطئ غزة التي اكتظت بالخيام بعدما كانت متنفساً له ولأسرته، والأحياء والشوارع التي دُمرت تماماً بعدما كان يتسوق فيها ويعمل ويعيل عائلته رغم الحصار المفروض على القطاع منذ سنوات، ويتساءل قائلاً: «يا الله... وين كنا ووين صرنا؟!».

وقالت الممثلة درة زروق مخرجة الفيلم قبل عرضه العالمي الأول، أمس (الجمعة)، في دار الأوبرا المصرية ضمن الدورة الخامسة والأربعين للمهرجان: «أبطال الفيلم ناس حقيقية من فلسطين... كلنا عملنا الفيلم بحب وإيمان شديد بالقضية الإنسانية اللي بنتكلم عنها».

وأضافت حسبما نقلت وكالة «رويترز» للأنباء: «حبيت أقرب منهم من الجانب الإنساني، المشاعر؛ لأنهم عمرهم ما هيبقوا أرقام، هما ناس تستحق كل تقدير، وشعب عظيم».

وينافس الفيلم ضمن مسابقة «آفاق السينما العربية» في المهرجان الذي يختتم عروضه يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني).