التشكيل الفني والمضمون في أفلام ستانلي كوبريك

اهتم بالتفاصيل وأتقن صنع الألغاز

لقطة من فيلم «سترة معدنية كاملة» (وورنر)
لقطة من فيلم «سترة معدنية كاملة» (وورنر)
TT

التشكيل الفني والمضمون في أفلام ستانلي كوبريك

لقطة من فيلم «سترة معدنية كاملة» (وورنر)
لقطة من فيلم «سترة معدنية كاملة» (وورنر)

هناك أكثر مما يتبدّى للعين من الوهلة الأولى (أو حتى العاشرة) في أفلام المخرج ستانلي كوبريك. معظمنا يعرف أفلامه والمعجبون بها يقدّرون كل ذلك الإبهار الذي تحتويه معظمها. البعض يجده أفضل مخرجي العالم، وآخرون ينتقدون تغليب الشكل والبصريات على المواضيع المطروحة. لكن لا شيء من كل ذلك كافٍ لنزع القناع كاملاً عن فنان ترك غيابه (سنة 1999) مساحة ضوء ساطعة. مثل تاركوفسكي، وهيتشكوك، وكوراساوا، وأنجليبولوس وسواهم لا أحد يستطيع خلافته في مضماره.

- زوايا ووجهات نظر
أهم ما كان يثير اهتمام كوبريك في أعماله هو التصاميم البصرية العامّة التي تؤدي إلى خلق شكل مختلف عن سينما الآخرين. هذا ما يجسّده، بوضوح، فيلمه الفضائي الكبير «2001: أوديسا فضائية» (2001‪:‬ A Space Odyssey). كل لقطة فيه مُصممة بتفاصيلها وبتأنٍ شديد. كوبريك كان دائماً ما يصمم لقطاته على الورق.‬
هذا بجانب درايته بكل ما يتعلق بالتقنيات في التصوير كما في المؤثرات البصرية. في هذا النطاق كان يواكب المستحدثات ويطالع آخر ما يتوصّل إليه فن الديجيتال والترقيم وكل ما يلزم سواء استخدمه في أحد أفلامه أو لم يستخدمه.
هذه العناية بالتشكيل وتصميماته وتفاصيله لم تكن وقفاً على «2001: أوديسا الفضاء» ولو أن هذا الفيلم أكثر أعماله توغلاً في هذا المضمار. مراجعة لأي من أعماله تحيلنا إلى ذات النتيجة، وهي أن اهتمامه بالشكل كان بالغ الأهمية.
لكن هذا الاهتمام لم يكن من باب تغييب المضمون أو الإقلال من أهميّته.

مشهد من فيلم «التألق» (وورنر)

اهتمامه بهذا المنوال من العمل يعود إلى بداياته. في «القتل» (1956) (The Killing) ذلك الفيلم التشويقي حول مجموعة من البسطاء وغير المحظوظين في سعيهم لسرقة مكاتب ملعب سباق الخيل. تتم العملية بنجاح لكن ما يخلفها من نزاعات يؤدي إلى نهاية مظلمة.
القصّة مروية من زوايا ووجهات نظر مختلفة. كل شخصية تروي ما حدث لها، هو فعل انتقال إلى ذلك الجزء الذي شهدته بالتالي، حتى الحدث الواحد المسرود مرّتين يختلف سرده في كل مرّة.
هذا التشكيل هنا هو سردي (طريقة «راشومون» لأكيرا كوروساوا). تصميم الفيلم كأحداث من وجهات نظر ولو محدودة، له علاقة بكيف ارتأى المخرج سرد الحكاية ولا علاقة له بالتقنيات والبصريات. التصوير بحد ذاته كلاسيكي الأسلوب لكن التوليف غير ذلك، بل هو مستخدم لخدمة التشكيل الذي اختاره كوبريك لهذا الفيلم.
لكن في أفلام لاحقة بات التشكيل البصري أكثر حضوراً من ذلك الفيلم و- إلى حد - من فيلمه اللاحق «سبارتاكوس».
المشهد الذي نرى فيه صفين من المجنّدين في «سترة معدنية كاملة» (Full Metal Jacket) واقفين على خط واحد فوق أرض غرفة نوم بالغة النظافة (تعكس نور لمبات السقف وظل السيرجنت) هو جزء من اعتماده على الصورة لشرح المضمون الأبعد من الدراما.
الجانب الدرامي يحكي عن المجنّدين وهم يستعدون للكشف اليومي، الذي يقوم به السيرجنت (كما لعبه بامتياز آر لي إرمي). المضمون هو إظهار نظام دقيق وربما قاسٍ. من شاهد الفيلم يدرك ذلك من مشاهد سابقة، لكن هذا يؤكده.
هناك طريقة أخرى لتصوير هذا المشهد لكنها لن تأتي بالنتيجة ذاتها مثل أن يبدأ المشهد بكاميرا في مواجهة باب الدخول تصوّر السيرجنت يتقدم صوبها ثم تعود منسحبة إلى الوراء لتكشف عن الصفّين المعنيين. إلى أن تتوقف عند نهاية هذين الصفّين تكون عرضت لكنها لم تترك تأثيراً فعلياً للمضمون الذي قصد كوبريك إنجازه.

- وحدة قاتلة
كُتب الكثير، وفي كل اللغات، عن فيلم «التألق» أو (Shining) الذي أنجزه كوبريك سنة 1980. تم لبعض النقاد تحليل كل لقطة من الفيلم وآخرين توغلوا في مسألة تفكيك المضامين وانصرف آخرون صوب الشخصيات وما تمثّله
لكن لا شيء كُتب عن الطريقة التي استخدم فيها كوبريك التصوير لخلق الشعور بالوحدة. هذا الشعور ينساب بدءاً من اللقطات الأولى وهو أحد أهم مفادات الفيلم الدرامية.
في مطلع الفيلم لقطة سماوية (تسمّى «عين الصقر») تلاحق سيارة العائلة (الزوج والزوجة وابنهما) في طريق طويل متعرج يفصل بين جبال وغابات. الكاميرا على علو شاهق، مما يجعل السيارة تبدو بحجم حشرة سريعة الحركة. وهي وحيدة في طريقها الضيق. ووحدتها كان عليها التمهيد للوحدة التي سيعاني منها الجميع وفعلت ذلك حقاً.
الفندق الذي سيصل إليه جاك (جاك نيكولسن) وعائلته الصغيرة هو بدوره وحيد. المواقع مهمّة لدى أفلام كوبريك عموماً، وهو حريص على التفاصيل. مثلاً في فيلمه الأخير «عينان مغلقتان باتساع» (Eyes Wide Shot) أوصى كوبريك بقياس عرض الشوارع النيويوركية التي يريد إعادة بنائها في استوديو باينوود. لم يكن كافياً لديه طلب صور لتلك الشوارع، بل أوصى بقياس المسافات الفاصلة بين رصيف وآخر.
هنا، في «التألق» لم يكن لديه ما يدفعه لقياس أي شيء، لكن موقع الفندق وحيد، ولو أنه ليس بعيداً عن قرية نائية. والموسم الشتوي يزيده وحدة.
جاك، وحيد بدوره بعد أن أقفل الفندق الكبير بواباته لفصل الشتاء. عمله كاتباً روائياً منصباً على تأليف رواية، هو عمل يتطلب الوحدة. ثم جنون جاك يزيد تأثير الوحدة عليه وتأثيرها على متابعي الفيلم. حين تصبح الزوجة وابنها في خطر ماحق يتحوّلان إلى وحيدين أيضاً. نهاية جاك متكوّماً فوق الثلوج هي بدورها نهاية وحيدة.

- استلهامات
تلك الممرات الطويلة التي شاهدناها في «سترة معدنية كاملة» (تفصل بين صفي المجنّدين) نشاهد مثيلاً لها في «التألق»: الصبي الذي يركض في الردهة على دراجته الصغيرة. الكاميرا من الخلف في رواق طويل. الفتاتان التوأمان اللتان تظهران فجأة في نهاية رواق آخر داخل الفندق أمام كاميرا على مسافة بعيدة. وفي مشهد آخر الصبي (داني لويد) ينزل من دراجته في الممر ووراءه ذلك الممر الطويل الفاصل بين غرف مغلقة.
على ذلك، لا يجب القول إن إتقان التفاصيل يعني التزام المخرج بها جميعاً أو أنها أشبه بقوانين لا بد من اتباعها. ما يقوم به كوبريك هنا (في سلسلة المشاهد التي نرى فيها توم كروز يجول ليلاً في شوارع المدينة) هو مزج هذا الواقع، مما يحفظ له قدراً من الغموض. هناك ميل لاستخدام هذه المشاهد كما لو كانت أحلاماً وليست واقعاً لكن حتى إذا لم تكن كذلك، أو كانت، تبقى غامضة. مثيرة للبحث في ذات كل مشهد وهذا ما يطلبه كوبريك من مشاهديه.
وهناك كذلك بعض الاستعارات التي استوحاها المخرج من أفلام لسواه. تلك اللقطة للفتاتين في «تألق» هي ذاتها (مع اختلاف مواقع الإضاءة) في فيلم «سنة أخيرة في مارينباد» Last Year at Marienbad (آلان رينيه، 1961). قيام جاك بكسر الباب بالفأس لاقتحام الغرفة التي اختبأت فيها زوجته وابنه يذكّر على الفور بلقطة مشابهة في «العربة الشبح» (The Phantom Carriage) لفيكتور سيوستروم (1921).
هذا ليس نوعاً من تقليل شأن كوبريك وإنجازاته، لأنه إذا ما أخذنا كل عمل له بكامله، ثم كل أعماله، نقف عند صنعة عملاقة لمخرج استخدم الكثير من رؤاه الخاصّة لتحقيق الفيلم الذي يريد -وتماماً - كما يريد.
يهندس كوبريك الأفلام كل حسب ما يتوخاه منه. في ذلك يبتعد عن النص الروائي، الذي يقوم باقتباسه (هذا موضوع مثير آخر حول اقتباسات المخرج من روايات «نابوكوف، وكينغ، وويليام ماكبيس وثاكراي وسواهم»). في «باري ليندون» يميل إلى الاستيحاء من لوحات رائعة.
هناك إتقان في محاولة التماثل بين رسومات القرن الثامن عشر واللقطات الرائعة التي التقطها إلكوت داخلياً وخارجياً. في واقعه، فإن الفيلم ذي الساعات الثلاث هو سلسلة من لوحات جميلة مستمرة من بدايته حتى نهايته. وهذا ليس غريباً من مخرج يعنى بتحويل أعماله إلى كلاسيكيات كل حسب نوعه. يعتني بالتفاصيل سواء كانت ستظهر أمام الكاميرا أو خلفها.


مقالات ذات صلة

ترمب وهوليوود... حربٌ من طرفٍ واحد؟

الولايات المتحدة​ انطلق ترمب من عالم الشهرة والإعلام لكن الرئيس الأميركي ليس محبوب المشاهير (أ.ف.ب)

ترمب وهوليوود... حربٌ من طرفٍ واحد؟

ليس دونالد ترمب محبوب المشاهير وهم لم يوفّروا فرصة لمهاجمته خلال ولايته الأولى وخلال فترة ترشّحه، لكنهم هذه المرة سيتجنّبون استفزازه لأسباب كثيرة.

كريستين حبيب (بيروت)
الولايات المتحدة​ المغينة الشهيرة بيونسيه تحتضن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس خلال تجمع انتخابي (د.ب.أ)

بين بيونسيه وتايلور سويفت... لماذا لم يكن دعم المشاهير لهاريس كافياً؟

رغم قدرة نجوم ونجمات من عيار بيونسيه وتايلور سويفت مثلاً على استقطاب الحشود الجماهيرية، لم ينجح دعمهما هاريس في التغلب على ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو (أ.ف.ب)

آل باتشينو: نبضي توقف دقائق إثر إصابتي بـ«كورونا» والجميع اعتقد أنني مت

كشف الممثل الأميركي الشهير آل باتشينو أنه كاد يموت في عام 2020، إثر إصابته بفيروس «كورونا»، قائلاً إنه «لم يكن لديه نبض» عدة دقائق.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق «جاك سبارو» في المستشفى (إ.ب.أ)

«القرصان» جوني ديب يُفاجئ أطفالاً في مستشفى إسباني

فاجأ الممثل جوني ديب النزلاء في جناح علاج الأطفال بأحد المستشفيات الإسبانية، وهو يرتدي ملابس شخصية «جاك سبارو» من سلسلة الأفلام الشهيرة «قراصنة الكاريبي».

«الشرق الأوسط» (مدريد)
آسيا ميريل ستريب خلال حدث «إشراك المرأة في مستقبل أفغانستان» (إ.ب.أ)

ميريل ستريب: القطط تتمتع بحقوق أكثر من النساء في أفغانستان

قالت الممثلة الأميركية الشهيرة ميريل ستريب، الاثنين، إن القطط تتمتع اليوم بحرية أكبر من النساء في أفغانستان التي تحكمها حركة «طالبان».

«الشرق الأوسط» (كابل)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.