في ظل جدل متجدد بشأن تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في صناعة الإعلام، عقد «منتدى مصر للإعلام» نسخته الثالثة في القاهرة محاولاً استشراف مستقبل المهنة، ورافعاً شعاراً يحمل تساؤلاً بشأن قدرة الإعلام المؤسسي على الاستمرار ومواكبة التحديات التكنولوجية.
تحت عنوان «2030: من سيتسمر؟» حاول خبراء وقيادات إعلامية وضع تصور لشكل الإعلام في العام 2030. وبينما تباينت الآراء بشأن طبيعة وحجم تأثير الذكاء الاصطناعي، وما إذا كان يجب توظيفه في إنتاج المحتوى، رهن الخبراء بقاء الإعلام المؤسسي بقدرته على مواكبة التحولات الرقمية والتكنولوجية المتسارعة.
جوهر التحدي
وحقاً، شددت نهى النحاس، رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، على أن «جوهر التحدي اليوم يتمثل في تحقيق التوازن بين التكنولوجيا والمهنية، مع الحفاظ على الاستقلالية والربحية في بيئة إعلامية تتغير بوتيرة غير مسبوقة». وقالت في كلمتها خلال الافتتاح، إن «المنتدى يفتح الباب أمام نقاشات معمّقة حول مستقبل الإعلام، ويطرح سؤالاً بشأن من يمتلك القدرة على البقاء والتكيف مع التطور التكنولوجي المتسارع».
«المنتدى» عُقد بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة، تزامناً مع تركيز المنظمة على «بناء مناخ صحي للمعلومات، بدلاً من التركيز فقط على مكافحة التضليل وخطاب الكراهية»، بحسب ميليسا فليمنغ، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للتواصل العالمي.
ولفتت فليمنغ في كلمتها خلال حفل الافتتاح، إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي أصبحت مصدراً رئيساً للأخبار، خصوصاً بين الشباب» ونبهت إلى أن «تلك المنصات غالباً لا تقدّم محتوى موثوقاً به؛ ما يضع عبئاً على المستخدمين في تمييز الحقيقة من التضليل». ومن ثم حذّرت من «تأثير المعلومات المضلّلة على السلام وحماية البيئة والثقة بالمؤسسات»، مشيرةً إلى «تراجع الثقة في وسائل الإعلام التقليدية».
وبالفعل، يشير العديد من الدراسات إلى تراجع مستمر لمستوى الثقة في الأخبار، تزامناً مع زيادة مطّردة في الاعتماد على منصّات التواصل الاجتماعي المختلفة مصدراً للأخبار والمعلومات».
الإعلام... كيف تغير؟
المناقشات الافتتاحية شهدت محاولة للإجابة عن سؤال «كيف تغير الإعلام؟»، وقال طارق نور، رئيس مجلس إدارة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية في مصر، إنه «في عصر الآلة وإنترنت الأشياء أصبح السؤال الملح، هل سنتحكم في الآلة، أم هي من ستتحكم فينا؟». وأردف أن «الذكاء الاصطناعي سلاح ذو حدين، فإما أن يُستخدم في خدمة الحقيقة، أو يُوظّف لتضليلها»، معوِّلاً على «وعي الجمهور لحسم هذه المعادلة».
ورغم المخاوف من تحكم الذكاء الاصطناعي في المهنة، قال نور إن «الحل ليس في مقاومة الآلة، بل في إنتاج محتوى يجمع بين التكنولوجيا والفكر الإنساني».
أما مايا سبليني، مديرة تحرير القسم العربي في قناة «فرانس 24»، فقالت إن «الذكاء الاصطناعي لا يقدّم معلومات موثوقاً بها؛ ما يثير إشكاليات أخلاقية عند استخدامه». وتابعت أن «انتشار المعلومات المضلّلة والتزييف العميق يضيفان مسؤولية وعبئاً أكبر على العمل الإعلامي في سبيل التحقق من المعلومات». ورأت أن «المهنة لن تموت، بل سيتعزّز دورها، وسيكون أساسياً بشكل أكبر مهما بلغت التغيرات التكنولوجية».
أما كارولين فرج، نائبة رئيس شبكة «السي إن إن» العالمية ورئيس تحرير خدمتها العربية فقالت إن «نحو 95 في المائة من مخرجات الذكاء الاصطناعي صحيحة، لكن تبقى نسبة 5 في المائة في خانة المغامرة التي قد تمسّ المصداقية... ومن ثم فالتحقق من المحتوى مسؤولية الإعلامي أولاً». وأضافت: «التدقيق هو جوهر العقد بين الوسيلة الإعلامية والقارئ، وأساس الثقة والمصداقية في العمل الصحافي... والبقاء سيكون لتلك المؤسسات التي تواكب التغيير وتتبع أساليب تحريرية أقرب إلى الجمهور».

دمج التكنولوجيا بالإعلام
وفي مداخلته، شدد فوتر فان تونغرين، الرئيس التنفيذي لـ«آر إن تي سي» الهولندية على «ضرورة دمج التكنولوجيا في العمل الإعلامي، لكن مع وعي كيفية استخدامها واستغلالها كأداة مساعدة في العمل... فعلى الإعلام المؤسسي أن يدرك أن الطرق التقليدية لن تكون فاعلة في المستقبل».
ومن ثم، اختتم الإعلامي المصري، عمرو عبد الحميد، الجلسة الافتتاحية، فقال: «ليست هناك إجابة واحدة عن سؤال كيف تغيّر الإعلام؟... لكن الجميع يتفق على أن جوهر الإعلام لم ولن يتغير».
2500 حضروا من مصر والعالم
جدير بالذكر، أن نحو 2500 صحافي من مصر والعالم حضروا «المنتدى»، الذي تنوّعت جلساته بين تشخيص الوضع الراهن، ومحاولة استشراف المستقبل، مع تقديم ورش عمل متنوعة عن أدوات الإعلام الجديد من الذكاء الاصطناعي إلى الواقع الافتراضي والمعزز وغيرهم.
وفي جلسة تحت عنوان «أصوات عالمية»، ركز المشاركون على أن المهنة ستبقى لكن شكلها سيتغيّر. وقالت صفاء فيصل، رئيسة تحرير البرامج الإخبارية في «هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) إن «الإعلام كائن حيّ، يحسّ ويتفاعل وينمو... ومن هذا المنطلق، تواجه المؤسسات الإعلامية تحديات كبرى أمام زحف الإعلام الرقمي وهيمنة المؤثرين ووسائل التواصل، فضلاً عن الأزمات المالية وعزوف الجمهور عن متابعة الأخبار».
في حين لفتت سها سيباني، رئيسة الإنتاج التنفيذي في «فرانس 24» إلى أن «منصات التواصل الاجتماعي أدوات يمكن من خلالها تطوير الأداء الإعلامي... والصحافة ستبقى لكن شكلها سيتغير ليلائم التطورات التكنولوجية».
بل إن الاشتراكات وطرق الدفع للأخبار ستتغير، وفق مادلين وايت، المديرة التنفيذية لشركة «ذي أوديينسر»، التي ذكرت أن «تحديد نوع الاشتراكات المناسب للوسيلة الإعلامية يتوقف على نوعية الجمهور»، مشددة على «ضرورة دراسة الجمهور وقياس اتجاهاته».
الذكاء الحر
من جهة ثانية، طرح «المنتدى» مفهوم «الذكاء الحر» مستعرضاً كيفية الاستفادة من التكنولوجيا في خدمة المهنة. وقال عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة «الشروق» المصرية، إنه «ما لم تتفوّق الآلة على العقل البشري، فلا داعي للخوف من الذكاء الاصطناعي».
بينما أشار فادي رمزي، أستاذ الإعلام الرقمي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، إلى أن «الذكاء الاصطناعي يمكن أن يدخل في مختلف مراحل إنتاج المحتوى الإعلامي تحت إشراف العنصر البشري»،
ولفت الدكتور ياسر عبد العزيز، الكاتب والباحث في شؤون الإعلام والاتصال، إلى أن «الإفراط غير الواعي في الذكاء الاصطناعي يؤدي أحياناً إلى إغراق المستخدمين بمحتوى رديء يفسد التفكير، كما أن استبدال العنصر البشري في الإعلام دون تبصّر خطر يهدّد جودة المضمون»، مؤكداً أن «الاستخدام الماهر من قبل الإنسان هو الضامن للحفاظ على المحتوى الهادف».
التعليم والتدريب
ولم يغب التعليم والتدريب عن «المنتدى»؛ إذ ركزت إحدى جلساته على أهمية تطوير طرق تدريس الإعلام مع الاهتمام بتدريب الإعلاميين، وفي هذا السياق نفذ المنتدى تدريباً لنحو 60 طالباً من مختلف الجامعات المصرية نفذته شبكة «سي إن إن» الدولية. وقالت الدكتورة ميرفت أبو عوف، عميد كلية الفنون البصرية وإدارة الإبداع، جامعة ESLSCA، إن «سوق العمل أصبحت مختلفة كلياً؛ ما يستدعي الاستثمار في التدريب لتأهيل جيلٍ يستطيع التعامل مع التغيّرات المتسارعة، والحفاظ على حقوق الملكية الفكرية».
هذا، وعلى مدار اليومين كان «الذكاء الاصطناعي» محوراً رئيساً في كل الجلسات، حتى إن لم يحمل عنوان الجلسة كلمة «الذكاء الاصطناعي»، لكن ما أحدثه من تغيرات في المشهد الإعلامي وفي طرق إنتاج المحتوى جعله هاجساً أساسياً لدى العاملين في المهنة.
وأخيراً، ونظراً لترابط السياسة والإعلام، حملت واحدة من جلسات «المنتدى» عنوان «غزة... التغطية مستمرة»، وأكد المتكلمون على «أهمية أنسنة القصص الصحافية بعد وقف الحرب»، معتبرين أنه بعد صمت المدافع «يعلو صوت الكارثة الإنسانية في القطاع».



