كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».


مقالات ذات صلة

تقرير: كيف أثَّرت طفولة إيلون ماسك بجنوب أفريقيا في ظل الفصل العنصري على شخصيته؟

العالم إيلون ماسك بحديقة البيت الأبيض في واشنطن 9 مارس 2025 (إ.ب.أ) play-circle

تقرير: كيف أثَّرت طفولة إيلون ماسك بجنوب أفريقيا في ظل الفصل العنصري على شخصيته؟

شكّلت طفولة إيلون ماسك – أغنى رجل في العالم اليوم - في جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري (الأبارتايد) بشكل كبير نظرته للعالم ومواقفه السياسية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم صورة تظهر المنازل المغطاة بالثلوج في نوك بجزيرة غرينلاند 7 مارس 2025 (أ.ب) play-circle

ما الذي يجعل غرينلاند «جائزة استراتيجية» وسط تصاعد التوترات؟

أدت التوترات الدولية المتزايدة والاحتباس الحراري والاقتصاد العالمي المتغير إلى وضع غرينلاند في قلب المناقشة حول التجارة والأمن العالميين.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا تعتزم بولندا تخصيص 5 % من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للإنفاق الدفاعي (رويترز) play-circle

كيف تسعى بولندا لبناء الجيش البري الأقوى في أوروبا؟

تسعى بولندا لإنفاق 5 في المائة من ناتجها المحلي على الدفاع، وتعتزم بناء جيش من 300 ألف جندي مجهّز بأحدث المعدات العسكرية ومبني وفق نموذج «الناتو».

«الشرق الأوسط» (وارسو)
الخليج عززت النسخة الثانية من المؤتمر أبعاد الألفة الإسلامية نحو فعالية تجاوزت مُعاد الحوارات ومكرَّرها (رابطة العالم الإسلامي)

مؤتمر «بناء الجسور بين المذاهب» يعزز منهج الاعتدال ويدحض خطاب الطائفية

عززت النسخة الثانية من مؤتمر «بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية»، أبعار الألفة الإسلامية عبر عمل مؤسسي منهجي تبلور في مبادراتٍ ومشروعاتٍ تعزز من منهج الاعتدال.

إبراهيم القرشي (مكة المكرمة)
أوروبا رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق برنار سكوارسيني (يمين) خلال جلسة استماع في محاكمته التي يتهم فيها مع تسعة آخرين بالتجسس على صحيفة «فقير» الفرنسية ومالكها لمجموعة «إل في إم أش» LVMH الفرنسية الفاخرة - باريس 28 نوفمبر 2024 (أ.ف.ب)

حكم بالسجن 4 سنوات للرئيس السابق للاستخبارات الداخلية الفرنسية بتهمة استغلال نفوذه

قضت محكمة في باريس، الجمعة، بحبس الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الداخلية الفرنسية أربع سنوات، بينها اثنتان مع وقف التنفيذ، بتهمة استغلال نفوذه.

«الشرق الأوسط» (باريس)

«سعوديبيديا» تحتفي بالإرث التاريخي للسعودية في ملحق خاص بـ«يوم التأسيس»

«سعوديبيديا» تحتفي بالإرث التاريخي للسعودية في ملحق خاص بـ«يوم التأسيس»
TT

«سعوديبيديا» تحتفي بالإرث التاريخي للسعودية في ملحق خاص بـ«يوم التأسيس»

«سعوديبيديا» تحتفي بالإرث التاريخي للسعودية في ملحق خاص بـ«يوم التأسيس»

أصدرت الموسوعة السعودية «سعوديبيديا» ملحقاً خاصاً بيوم التأسيس السعودي احتفاءً بالإرث التاريخي للسعودية، وذلك تزامناً مع احتفال المملكة بيوم التأسيس، وتعزيزاً للوعي حول القيم التاريخية والثقافية المرتبطة بيوم التأسيس، كما عكس جهود «سعوديبيديا» في تقديم المحتوى السعودي وتوثيق جوانبه التاريخية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتقديمه بموثوقية وشمولية، بهدف الحفاظ على الهوية الوطنية وتعزيز المعرفة.

وأوضح رئيس تحرير «سعوديبيديا» حامد الشهري أن الملحق الخاص يشتمل على محتوى متخصص في مجالات متعددة، تضمّن مقالات في تاريخ الدولتين السعودية الأولى والثانية والمملكة العربية السعودية، ومحتوى تفاعلياً، إضافة إلى المحتوى المرئي والإنفوغرافيك، ومجموعة من الصور النادرة، التي تعكس ملامح تلك الحقبة التاريخية المهمة في مسيرة الدولة السعودية، مما يعزز من القيمة الثقافية لهذا اليوم.

وتتناول المقالات المرفقة في الملحق يوم التأسيس السعودي وشعاره والرموز المرتبطة به ودلالاتها الثقافية والتاريخية، كما يستعرض الملحق مقالات في سِير أئمة الدولة السعودية الأولى والثانية بدءاً بمانع المريدي جد الأسرة المالكة، والإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى، وصولاً إلى الإمام عبد الرحمن بن فيصل آخر أئمة الدولة السعودية الثانية، واستعرض الملحق ملامح النظام السياسي في الدولة السعودية الأولى، وولاية العهد، ونظام الشورى، ونظام القضاء، والنظام المالي، وأمن الحج في الدولة السعودية الأولى، والمواقع التي ارتبطت بعهود الدولة مثل: الدرعية، وحي الطريف، وغار الإمام تركي بن عبد الله.

كما استعرض ملحق يوم التأسيس في الجانب الثقافي ملامح من الحالة الثقافية والعلمية في الدولتين السعودية الأولى والثانية، ومنها: التعليم في الدرعية، والشعر في الدولة السعودية الأولى، وعلم الفلك، والمخطوطات في نجد، وأدوات الكتابة في نجد، وصناعة الأحبار، والفن في الدولة السعودية الأولى، والأزياء في الدولة السعودية الأولى، إلى جانب السِير الذاتية للعلماء والشعراء والنساء اللاتي كانت لهن جهود بارزة في تلك المرحلة.

وأضاف الشهري أن الملحق تناول أبرز الشخصيات التي تولّت إمارة أقاليم الدولة السعودية الأولى وقيادة جيوشها، منهم: عثمان المضايفي، وعبد الرحمن أبو نقطة، وإبراهيم بن عفيصان. واجتماعياً، خصّص الملحق مقالات متنوعة في الحياة الاجتماعية، وجودة الحياة، والقيم في مجتمع الدولة، والمرأة في الدولة السعودية الأولى، والضيافة، والعمارة، والأسواق في الدرعية، وحمّام الطريف، ومعالم تاريخية مهمة في مسيرة الدولة، مثل: برج الكوت، وقصر صاهود، وقصر خزام التاريخي، ومسجد طبب التاريخي، وغيرها.

وأفرد الملحق قوائم رصدت أهم المؤرخين والرحالة الذين وثقوا تاريخ الدولة السعودية، وشهداء آل سعود في مراحل الدولة، ووقائع ومعارك الدولة السعودية، وقائمة بحملة الراية في مراحل الدولة السعودية الثلاث، وقوائم العلماء في الدولة السعودية الأولى، إلى جانب الأسئلة التفاعلية التي تشكل جزءاً مهماً من تجربة القارئ، وتعزز التفاعل مع محتوى يوم التأسيس.