هل تميل الحرب الإعلامية في غرب أفريقيا لصالح روسيا؟

وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على اشتداد التحدي لفرنسا

خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
TT

هل تميل الحرب الإعلامية في غرب أفريقيا لصالح روسيا؟

خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)
خوذة محترقة خلال مواجهات بين الأمن الكونغولي ومتظاهرين السبت (رويترز)

نُشرت، مطلع العام الحالي، دراسة كانت تقولُ إن وسائل الإعلام الفرنسية ما زالت تحتل المرتبة الأولى في قائمة وسائل الإعلام التي يتابعها سكان دول غرب أفريقيا، منطقة النفوذ التقليدي لفرنسا منذ أكثر من قرنين من الزمن، وتشير هذه الدراسة إلى أن 60 في المائة من سكان هذه المنطقة يتابعون وسائل الإعلام الفرنسية على الأقل مرة واحدة في الأسبوع. إلا أن الدراسة الصادرة عن مركز «أفريكاسكوب» المتخصص في دراسة الشأن الأفريقي، لم تخفِ أن الإعلام الفرنسي فقد كثيراً من قوته وقدرته على التأثير في الشارع الأفريقي؛ بسبب ظهور منافسين جدد تتصدرهم وسائل إعلام روسية صاعدة بقوة، لتشتعل حرب إعلامية طاحنة من أجل الاستحواذ على اهتمام المتابع الأفريقي.

أُجريت الدراسة في 7 دول فقط هي: بوركينا فاسو والكاميرون والكونغو برازافيل وكوت ديفوار والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى والسنغال. ولكن غابت عنها مالي، الدولة التي كانت سلطاتها قد قرّرت، العام الماضي، تعليق بث «إذاعة فرنسا الدولية» وقناة «فرنسا 24» بعد اتهامهما بالترويج للشائعات، والإضرار بالمصالح المالية، حين تكلمتا عن «انتهاكات لحقوق الإنسان» يُتهم بها الجيش المالي.

 

الساحة الأولى

في الواقع، كانت مالي الساحة الأولى للحرب الإعلامية بين فرنسا وروسيا، خصوصاً حين قاد ضباط من الجيش المالي انقلاباً عسكرياً أمسك بزمام الأمور في العاصمة باماكو عام 2020، واندلعت بسبب ذلك أزمة سياسية خانقة بين فرنسا ومستعمرتها السابقة، سرعان ما تحولت إلى شحن إعلامي مكثف. وهنا يقول محمد ويس المهري، وهو صحافي متخصص في الشؤون الأفريقية في لقاء مع «الشرق الأوسط»، إن «الفرنسيين حاولوا منذ البداية أن يكون لهم السَّبق في الحرب الإعلامية، ولكن بعد الانقلاب العسكري في مالي، اكتشف الماليّون والأفارقة عموماً، أن وسائل الإعلام الفرنسية متناقضة وتفتقر إلى المصداقية».

ويضيف المهري، الذي يقيم في باماكو، وكان شاهداً على الأحداث السياسية، التي شهدتها مالي خلال السنوات الأخيرة، أن «الأزمة بين فرنسا ومالي، دفعت الماليّين إلى البحث عن المعلومة لدى وسائل إعلام أخرى، وأصبحت الرواية الفرنسية مشكوكاً فيها دائماً، بل غير جديرة بالثقة، خصوصاً في أوساط الشباب الذين يعتقدون بأن الهيمنة الفرنسية هي التي أسهمت في تفقير دولتهم وتخلفها». ويتابع أن وسائل الإعلام الفرنسية «دفعت ثمن الأخطاء السياسية للحكومات الفرنسية»، مشيراً إلى ما وصفه بـ«موقف فرنسا المتناقض من الانقلابات العسكرية، حين كانت تضغط على مالي وبوركينا فاسو من أجل العودة إلى النظام الدستوري، في حين أنها ورّثت الحكم لابن إدريس ديبي، وحضر الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً إلى فعاليات تسليم الحكم للجنرال الشاب، وهذا تناقض واضح وصريح».

ثم يشرح، أنه بالتزامن مع الحرج الكبير الذي أصاب وسائل الإعلام الفرنسية، «دخلت على الخط وسائل إعلام بديلة، تقدّم وجهة نظر أخرى، وناطقة باللغة نفسها التي يتكلمها معظم سكان غرب أفريقيا (أي الفرنسية)، وحتى إن بعضها كان يتحدث بلغات أفريقية محلية، ومن أبرز هذه المؤسسات الإعلامية قنوات مثل روسيا اليوم (RT) التابعة لروسيا، ومواقع (سبوتنيك) الروسية».

خطأ ماكرون

من جهة أخرى، يذهب الأمين ولد سالم، الصحافي الموريتاني المتخصص في الشأن الأفريقي، ولديه كتاب وعدة مقالات بحثية حول قضايا الأمن في أفريقيا، إلى التأكيد أن «الوضع في غرب أفريقيا تغير كثيراً، ولكن الفرنسيين أدركوا ذلك متأخرين». ويضيف ولد سالم خلال حوار مع «الشرق الأوسط» أن دول غرب أفريقيا تعيش حالياً «عصر الانفتاح الديمقراطي ووسائل التواصل الاجتماعي، بينما الشباب الأفارقة الموجودون حالياً لم يعرفوا فرنسا الاستعمارية. بل يكفي أن دولة مثل السنغال 70 في المائة من سكانها تحت 35 سنة... هذا يعني أنهم وُلدوا في عصر الإنترنت والفضائيات والديمقراطية، وليست هناك أية قواسم مشتركة تجمعهم بالأجيال السابقة التي عاشت في ظل الاستعمار، وعرفت صورة فرنسا القوية».

ويشير ولد سالم إلى أن فرنسا ارتكبت أخطاء عدة في صراعها الإعلامي مع روسيا، حين يقول: «لقد وصل الأمر إلى أن الرئيس ماكرون يطلبُ من الصحافة الفرنسية أن تلعب دورها بوصفها مدافعة عن المصالح الفرنسية، وكان يقصد بذلك القنوات الفرنسية الممولة من طرف الحكومة (إذاعة فرنسا الدولية، وقناة فرنسا 24، والقناة الخامسة وغيرها)، التي اعتبر أن عليها أن تدافع عن مصالح فرنسا».

ويردف الصحافي الموريتاني أن ماكرون كان صريحاً جداً حين طلب من وسائل الإعلام الفرنسية أن «ترد على الدعاية التي تقوم بها بعض الدول مثل روسيا، غير أنه بصراحته أشعل أزمة داخل الصحافة العمومية الفرنسية، على غرار قناة (فرنسا 24) و(إذاعة فرنسا الدولية)، ووقعت تحركات على مستوى النقابات الصحافية التي رفضت طلب الرئيس». وأضاف ولد سالم، وهو مقيم في فرنسا منذ سنوات، أن ماكرون تسبّب في حرج كبير للصحافيين الفرنسيين، ما دفع النقابات الصحافية إلى أن تخرج علناً وتقول إن «الصحافي لا يمكن أن يكون وكيل دعاية للحكومة... بل أعلن الصحافيون بشكل صريح أنهم لن يكونوا جواسيس فرنسا. وكان ذلك موقفاً واضحاً ومفهوماً، لأن تصريحات ماكرون وضعت مراسلي الصحافة الفرنسية في أفريقيا في وضع محرج للغاية، إذ جعلتهم عرضة للخطر، واتّهموا بالتجسس».

وسائل التواصل الاجتماعي

في سياق متصل، بينما كان الفرنسيون يخوضون الصراع عبر وسائل الإعلام التقليدية مثل التلفزيون والإذاعة، كانت وسائل التواصل الاجتماعي تشتعلُ في دولة مثل مالي. وهنا يوضح محمد ويس المهري أنها «أسهمت بشكل كبير في رفع مستوى الزخم المناهض لفرنسا، خصوصاً إزاء مطالب رحيل القوات الفرنسية، كما أسهمت في طرح قضايا لم تكن معهودة لدى الإعلام الرسمي أو المحلي، وحتى الإعلام الفرنسي والغربي بشكل عام، مثل قضية الفشل الذريع لفرنسا في دولة مالي بعد نحو 10 سنوات من التدخل العسكري من أجل إنهاء الأزمة الأمنية في هذا البلد».

وأردف المهري أن استمرار الأزمة الأمنية في مالي «استغله شباب البلاد عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمناقشة فشل التدخل العسكري الفرنسي في المنطقة. إذ خلق الشباب مساحتهم الخاصة، وأصبحوا يتناقلون الأخبار ويثيرون النقاشات... وسرعان ما أدى ذلك إلى طرح تساؤلات كبيرة حول العلاقة مع فرنسا، قادت إلى حراك شعبي أسفر عن مظاهرات في الشارع، ومطالب شعبية كبيرة تدعو فرنسا إلى الانسحاب عسكرياً من مالي، وهو ما حدث في النهاية».

ولكن من كان يقف خلف كل ذلك الزخم عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟

شبكة «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي)، كانت بين الجهات التي طرحت هذا السؤال. وقادت تحقيقاً بالتعاون مع منظمة «لوجيكالي (Logically)» الأميركية، نُشر شهر فبراير (شباط) الماضي، وأفضى إلى اكتشاف ما سمّاه التحقيق «شبكة ضخمة على منصات التواصل الاجتماعي تروّج لأفكار معادية للغرب، ومؤيّدة للكرملين في البلدان الأفريقية الناطقة باللغة الفرنسية».

وجاء في التقرير المنشور من قبل فريق الكشف عن المعلومات المضلِّلة في الـ«بي بي سي»، أن الشبكة تحملُ اسم «روسو سفير (Russosphère)» أو «الفضاء الروسي»، وتروّج لمنشورات «تتهم الحكومة الفرنسية بأنها استعمارية، وتغدق بالثناء على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين». يضيف التقرير أن «مثل هذه المعلومات المضلِّلة تؤدي إلى شعور بانعدام الثقة بين بلدان أفريقيا والغرب». ومن جانب آخر يكشف أن الشبكة الداعمة لروسيا يقف خلفها رجل اسمه لوك ميشيل وهو «سياسي بلجيكي يبلغ من العمر 65 سنة، ويصف نفسه بأنه من مؤيدي فكر ستالين». لقد قال ميشيل في تصريح لـ«بي بي سي» إنه أنشأ الشبكة عام 2021، لكنه نفى الحصول على أي دعم من روسيا، مشدداً على أن الشبكة تتلقى «تمويلاً خاصاً».

غير أنه، من ناحية ثانية، يعترف ميشيل بأنه يتولى إدارة ما يسميه «الحرب السيبرانية» لصالح روسيا، ويذهب أبعد ليؤكد أنه مؤمن بأن «روسيا يجب أن تحلّ محل الفرنسيين في أنحاء أفريقيا جميعها»، يأتي ذلك في حين يتضح أن الشحن عبر وسائل التواصل الاجتماعي أسهم بشكل كبير في خروج مظاهرات مناهضة لفرنسا خلال السنوات الثلاث الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو، وهي مظاهرات أُحرقت فيها الأعلام الفرنسية ورُفعت الأعلام الروسية على الملأ.


مقالات ذات صلة

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

آسيا خلال احتجاج نظمته حركة «طالبان» في أفغانستان (رويترز - أرشيفية)

إحصاء 336 اعتداءً ضد الصحافيين في 3 سنوات من حكم «طالبان» في أفغانستان

أفادت الأمم المتحدة، الثلاثاء، بأنها سجّلت 336 اعتداءً على صحافيين وعاملين في وسائل إعلام منذ عودة «طالبان» لحكم أفغانستان في أغسطس 2021.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

تشكيلة جديدة للهيئات الإعلامية بمصر وسط ترقب لتغييرات

استقبلت الأوساط الإعلامية والصحافية المصرية، التشكيلة الجديدة للهيئات المنظمة لعملهم، آملين في أن تحمل معها تغييرات إيجابية.

فتحية الدخاخني (القاهرة)
المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».