يدخل مسار التفاوض على إنهاء الحرب الروسية - الأميركية منعطفاً مُهمّاً هذا الأسبوع، مع توجّه وفد أميركي رفيع إلى موسكو بالتوازي مع وصول وفد أوكراني إلى واشنطن؛ لمناقشة الصيغة المُعدّلة من «خطة السلام» التي أثارت غضب الحلفاء الأوروبيين وقلق كييف.
ورغم الضجيج المرافق للتحركات الدبلوماسية، فإن الطريق إلى اتفاق شامل يبدو محفوفاً بعقبات سياسية وقانونية، بعدما تحوّلت المبادرة الأميركية إلى اختبار لعلاقات واشنطن مع أوروبا من جهة، ولتوازنات السلطة داخل أوكرانيا من جهة أخرى، في حين يُظهر الكرملين ثقة متزايدة بأنّ المفاوضات الحقيقية تتم حصراً مع الولايات المتحدة.
مساران متوازيان
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أعلن، السبت، أن وفداً برئاسة أمين مجلس الأمن القومي والدفاع، رستم عمروف، توجّه إلى الولايات المتحدة لاستكمال المحادثات بشأن «اتفاق لإنهاء الحرب». وقال إن نتائج اجتماعات جنيف السابقة سيتم حسمها «غداً»، في إشارة إلى قرب التوصُّل إلى صيغة محدَّثة من المقترحات الأميركية.

ويأتي تحرّك كييف في ظل موجة قصف روسي مكثّف على العاصمة، تسبب بمقتل 3 أشخاص، في رسالة بدت متعمّدة لإبراز أن قدرة موسكو على فرض الوقائع الميدانية لا تزال قائمةً قبل الجولة الثانية من المفاوضات.
بالتوازي، أكد الكرملين أن الرئيس فلاديمير بوتين سيستقبل المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف خلال الأيام المقبلة، في اجتماع يُفترَض أن يحمل ملامح النسخة الجديدة من خطة السلام. وتتحدَّث تقارير روسية عن أنّ موسكو «تلقت فعلياً» تصوراً أميركياً معدّلاً تم التفاهم عليه مع الأوكرانيين في جنيف.
وكشفت صحيفة «ذي تلغراف» البريطانية عن وجود استعداد لدى إدارة ترمب للاعتراف بسيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم، إضافة إلى أجزاء من المناطق المحتلة في دونيتسك ولوغانسك (اللتين تُشكِّلان منطقة دونباس)، تمهيداً لإبرام اتفاق سلام. ونقلت الصحيفة عن مصدر مطّلع أن «الأميركيين باتوا أقل اهتماماً بالموقف الأوروبي»، على حد قوله.

وتضمَّنت الخطة الأولية التي اقترحها ويتكوف، المؤلفة من 28 بنداً والتي صيغت بعد مشاورات موسعة مع الجانب الروسي، اعترافاً «فعلياً» بسيطرة موسكو على القرم ودونباس، واعترافاً مشروطاً بالأراضي الواقعة خلف خطوط التماس في خيرسون وزابوريجيا بعد وقف إطلاق النار. غير أن نسخة جديدة من 19 نقطة، تم التفاوض عليها في جنيف، جاءت أقل إرضاءً لموسكو، لكنها حافظت على «جوهر» الاعتراف بالأمر الواقع، وفق مصادر متعددة.
وتضع هذه الاقتراحات كييف في مأزق دستوري، إذ يمنع الدستور الأوكراني أي رئيس من التنازل عن أراضٍ دون إجراء استفتاء وطني، وهو ما يدفع زيلينسكي لمحاولة إيجاد مقاربة سياسية لا تُظهر بلاده طرفاً مُرغماً على تقديم تنازلات إقليمية.
سخط أوروبي
المقترحات الأميركية أثارت اعتراضاً أوروبياً صريحاً. وأكّد قادة «تحالف الراغبين»، الذي ينسّق الدعم العسكري لأوكرانيا، أنهم «واضحون بشأن مبدأ عدم جواز تغيير الحدود بالقوة». وطرحت الدول الأوروبية مقترحاً بديلاً لا يتضمَّن الاعتراف بالسيطرة الروسية على أراضٍ أوكرانية، ويتمسَّك بإرجاء بحث ملف «تبادل الأراضي» إلى ما بعد وقف إطلاق النار الكامل.

لكن الردَّ الروسي كان أكثر حسماً. إذ قال المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إن موسكو «تتفاوض حالياً مع الولايات المتحدة فقط»، مضيفاً أن «موقف الاتحاد الأوروبي لا يمكن أخذه في الاعتبار في هذه المرحلة». وبذلك، يُثبّت الكرملين قناعته بأن اللحظة الحالية مناسبة لدق إسفين بين واشنطن وعواصم أوروبا الغربية، مستفيداً من أن مبادرة ترمب ذات طابع اقتصادي بقدر ما هي سياسية، كما ظهر في التسريبات الإعلامية.
الاقتصاد مقابل السلام
تحدَّثت صحيفة «وول ستريت جورنال»، المحسوبة على الجمهوريين، في تقرير لها عن «اجتماع ثلاثي في ميامي غيّر المشهد». إذ جمع اللقاء بين ويتكوف، والمسؤول المالي الروسي كيريل دميترييف، وجاريد كوشنر، في أكتوبر (تشرين الأول)؛ لصياغة إطار اقتصادي شامل يتجاوز وقف الحرب إلى «إعادة دمج الاقتصاد الروسي في الأسواق الأميركية».

ووفق الصحيفة، يطمح دميترييف إلى استخدام أصول البنك المركزي الروسي المجمّدة لتمويل مشروعات مشتركة بين الشركات الأميركية والروسية، بما في ذلك إعادة إعمار أوكرانيا. كما جرى الحديث عن مشروعات في القطب الشمالي ومعادن نادرة وطاقات كبرى.
وبحسب مصادر أوروبية، فقد بدأت بالفعل وفود رجال أعمال مقربين من بوتين بالاجتماع مع نظراء أميركيين؛ لبحث شراكات مستقبلية، ما أثار هلعاً في العواصم الأوروبية التي ترى في هذه الترتيبات التفافاً على منظومة العقوبات، وفق الصحيفة. وشدَّد مسؤول أوروبي على أن «الأمر لا يتعلق بالسلام، بل بالأعمال»، في حين اختصر رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الأمر بقوله: «نعرف أن هذا ليس مشروع سلام... هذا مشروع تجاري».
تصدع النظام الأوكراني
إلى جانب الضغوط الخارجية، تواجه كييف أزمةً داخليةً بعد استقالة رئيس مكتب زيلينسكي، أندريه يرماك، الشخصية الأبرز في هندسة المفاوضات مع الأميركيين. وجاءت الاستقالة على خلفية تحقيق فساد ضخم في سوء استخدام 100 مليون دولار مخصصة لقطاع الطاقة، لكن بعض المراقبين رأوا فيها خطوة استباقية لتفادي استغلال القضية بوصفها ورقة ضغط على الوفد الأوكراني.

يرماك، الذي وُصف بأنه «رجل الظل» في إدارة الدولة، كان يقود مفاوضات جنيف وأسهم في تخفيف حدّة بنود الخطة الأميركية الأصلية التي تضمَّنت مطالب تُعدّ «خطوطاً حمراء» لكييف. ورغم غيابه، تؤكد مصادر أوكرانية أن «المؤسسة التفاوضية» لن تتأثر، لكن آخرين يرون أن زيلينسكي فقد إحدى أهم أدواته في فرض الانضباط داخل أروقة الحكم.
كما تلاحق شبهات تضارب مصالح بعض الأعضاء، بينهم عمروف، في ظل ورود بنود في الخطة تتحدَّث عن «عفو شامل»، وهو ما قد يمس التحقيقات الجارية.

