هل تتحوّل الأزمة الفرنسية إلى زلزال يهزّ أركان الاتحاد الأوروبي؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
TT

هل تتحوّل الأزمة الفرنسية إلى زلزال يهزّ أركان الاتحاد الأوروبي؟

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

لا شيء في الأفق يوحي بأن الأزمة السياسية الفرنسية ستنتهي قريباً؛ فهي في الواقع معضلة يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة وما يُعرف بطبائع الشعوب. ففي الاقتصاد الدين العام هائل والإنتاج يتراجع، وفي السياسة المسرح لا سيطرة فيه لطرف واحد، بل فوضى عارمة لا تولّد إلا أزمات متلاحقة، وفي الطبائع لا يبدو أن الفرنسي سيقتنع بأن عليه أن يعمل أكثر، ويتقشّف قليلاً، ويتخلى عن قسط من الرفاهية التي اعتاد عليها طوال عقود...

في الحقيقة ليس هذا موضوع البحث، بل هناك شق آخر لا يقل أهمية عن «الداخل»؛ لأن فرنسا هي العمود الأساسي للاتحاد الأوروبي، ومن دونها لا يمكن لهذا التكتل أن يضطلع بدور جيوسياسي كبير، خصوصاً أن دور العمود الثاني - ألمانيا - متراجع، وصوت برلين لا ينضح بشيء من الاستقلال والفرادة، بل أمسى صدى ضعيفاً لخطاب سياسي غير محلّي...

الاقتصاد الثاني

فرنسا هي ثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا، وبالتالي قد تُلحق أزمة سياسية مطولة ضرراً باقتصاد منطقة اليورو. ولئن كانت المشاكل السياسية والاقتصادية الفرنسية لم تدقّ ناقوس الخطر بعدُ في أنحاء الاتحاد الأوروبي، فإن أوساطاً كثيرة تتحدث عن تزايد المخاوف غير المعلَنة من أن تؤثر أزمة مطولة على آفاق نمو منطقة اليورو (20 دولة من أصل 27 في الاتحاد)، ومفاوضات موازنة الاتحاد ذات الأجل الطويل البالغة تريليونَي يورو.

استطراداً، قد تعجز فرنسا التي تئن تحت وطأة الدين العام والعجز في الموازنة عن مواكبة الإصلاحات اللازمة للاتحاد للحفاظ على قدرته التنافسية في ظل المشهد الجيوسياسي العالمي المضطرب، والمنافسة المتزايدة من واشنطن وبكين.

مارين لوبن ورئيس حزب «التجمع الوطني» جوردان بارديللا (أ.ف.ب)

والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الصعاب التي تواجهها فرنسا أصبحت تُشبه تلك التي تواجهها منطقة اليورو، وتحديداً تعاظم الدين العام. وأي صدمة في الاقتصاد الكلي الفرنسي ستكون لها عواقب على الدول الأوروبية الأخرى.

من منظور مؤسسات الاتحاد الأوروبي في بروكسل، تُثير الأزمة السياسية الفرنسية حالةً من عدم الفهم. فبعدما بعثت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أُجريت بقرار من الرئيس إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2024 آمالاً لدى بعض الأوروبيين بأن فرنسا ستتبنى أخيراً «ثقافة التسوية»؛ ما لبثت هذه الآمال أن تبددت بعد التطورات الأخيرة.

وقد عكسَ الإعلام المخاوف الأوروبية مما يجري؛ فعنونت صحيفة «دي تسايت» الألمانية اليومية: «البلاد (فرنسا) تغرق في الفوضى». ويقول دانيال فرويند، النائب الألماني عن «حزب الخضر» في البرلمان الأوروبي: «تتابع وسائل الإعلام الألمانية الوضع الفرنسي عن كثب. ويتزايد القلق مع اتساع الفجوة بين أسعار الفائدة الألمانية والفرنسية».

وكتبت صحيفة «دي ستاندارد» البلجيكية أن «فرنسا تبحر كسفينة هائمة منذ أشهر، وقد غيّرت رُبّانها مراراً». وعلّق رئيس الوزراء البلجيكي الاشتراكي السابق (2011 - 2014)، إليو دي روبو، وهو الآن عضو في البرلمان الأوروبي، بقوله: «ضعف فرنسا يعني ضعف أوروبا... إذا نظرنا إلى الوضع من الخارج، فإن ما يفعله السياسيون الفرنسيون يؤكد أنهم ليسوا جدّيين». والمقصود أن أقطاب اليمين المتطرف والوسط (أتباع الماكرونيّة) واليسار همّهم الفوز بسباق الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في ربيع 2027 بدل أن يسعوا إلى تسوية تضمن شيئاً من الاستقرار.

تجمّع خلال إضراب عمّالي في باريس (أ.ف.ب)

وتحدثت الصحيفة البرتغالية «بوبليكو» عن «أزمة نظام... نظام دستوري أصبح مختلاً»، ونددت بغياب نيّة التسوية وثقافة الحوار، ودعت فرنسا إلى اتباع المثال البرتغالي الذي يجمع بين «الاستقرار الحكومي والحيوية الديمقراطية».

الدواء المرّ

بلغة الأرقام، لا توجد دولة في الاتحاد الأوروبي تحمل عبء دين عام أكبر من دين فرنسا؛ فقد ارتفع الرقم إلى 3.35 تريليون يورو (3.9 تريليون دولار)؛ أي ما يعادل 113 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة إلى 125 في المائة بحلول عام 2030. وتعاني باريس عجزاً في الموازنة يتراوح بين 5.4 في المائة و5.8 في المائة، علماً أن قواعد الاتحاد الأوروبي لا تسمح بعجز يفوق 3 في المائة، وبالتالي لا مفر لأي حكومة فرنسية من تقليص الإنفاق بشكل كبير.

وبينما يقول الخبير الاقتصادي الألماني فريدريش هاينمان، إنه ليس قلقاً من أزمة ديون جديدة قصيرة الأجل في الأشهر المقبلة، يستدرك: «منطقة اليورو غير مستقرة حالياً. وعلينا أن نتساءل: إلى أين يتجه هذا الوضع إذا كانت دولة كبيرة مثل فرنسا، التي شهدت ارتفاعاً مطرداً في نسبة الدين في السنوات الأخيرة، تواجه المزيد من عدم الاستقرار السياسي؟».

ويعتقد هاينمان أن الأمل معقود على تدخل البنك المركزي الأوروبي عبر شراء السندات الفرنسية لتحقيق الاستقرار في السوق، «لكن هذا الأمل قد يكون في غير محله؛ إذ يجب على البنك المركزي الأوروبي الحرص على عدم تقويض مصداقيته» عبر التدخل غير المدروس في حلّ أزمة ضخمة كهذه.

أعلام الاتحاد الأوروبي خارج مقر المفوضية في العاصمة البلجيكية بروكسل (رويترز)

المأزق الجيوسياسي

تواجه أوروبا فسيفساء من الصعاب: حرب روسيا وأوكرانيا، وسياسة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في ما يخص التجارة العالمية، وصعود الشعبويين اليمينيين المتطرفين في مختلف دول القارة، ومشكلة الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط...

في السياق، أعرب مسؤولون ودبلوماسيون في بروكسل وعواصم أوروبية أخرى عن مخاوفهم من أن تضعف قيادة ماكرون في قضايا دولية مثل أوكرانيا وغزة بشكل كبير.

ونسب موقع «بوليتيكو» إلى دبلوماسي من إحدى دول الاتحاد الأوروبي، طلب عدم كشف اسمه، قوله: «فرنسا دولة كبيرة، والاضطراب السياسي المستمر فيها يُعرّض منطقة اليورو بأكملها للخطر. هذا هو الموضوع الرئيسي في كل النقاشات اليوم».

فرنسا هي القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي؛ لذا لا يمكن للاتحاد أن يكون ذا قوة جيوسياسية واقتصادية وعسكرية بوجود فرنسا ضعيفة. فألمانيا لا تستطيع الاضطلاع بالدور وحدها؛ لأسباب كثيرة، منها أنها لم تتخلص بعدُ من كل رواسب ماضيها في الحربين العالميتين الأولى والثانية. وإنصافاً، كان ماكرون على مدى سنوات وراء كل أفكار إنهاض الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وتعزيز تماسكه سياسياً، حتى إنه دعا في ولايته الأولى إلى إنشاء جيش أوروبي بدل الاتكال على «حلف شمال الأطلسي» (ناتو) الذي تدير اللعبة فيه الولايات المتحدة.

أما الآن فتواجه فرنسا احتمال صعود أكبر لليمين الشعبوي، وتخشى الأوساط العليا في الاتحاد الأوروبي أن تصل زعيمة «التجمع الوطني» مارين لوبن إلى قصر الإليزيه؛ فتكبر دائرة الدول التي يحكمها هذا التوجه، من المجر مع فيكتور أوربان، وسلوفاكيا مع روبرت فيكو، وقريباً جمهورية التشيك مع أندري بابيش رئيس الوزراء السابق (2017 - 2021) الذي حقق فوزاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة يرجّح عودته إلى السلطة... يضاف إلى هؤلاء صعود اليمين المتطرف في ألمانيا وسواها...

كل هذا يعني أن الأصوات المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي وعملية الاندماج ستتعالى، وقد تفضي في موازاة تطورات أخرى إلى انفراط عقد التكتل مع ما يستتبعه ذلك من تداعيات سياسية واقتصادية هائلة... من هنا تتعاظم أهمية ما يجري في فرنسا، خصوصاً من الآن حتى نهاية ولاية ماكرون الثانية في مايو (أيار) 2027. وليس من المبالغة القول إن التطورات الجارية في العالم كله تشي بأن الفترة المقبلة ستكون «مثيرة للاهتمام» على أكثر من صعيد، بما يشمل السلام العالمي...


مقالات ذات صلة

«ستاندرد آند بورز» تفاجئ فرنسا بخفض تصنيفها بسبب «الاضطراب السياسي»

الاقتصاد ليكورنو يتفاعل خلال المناقشة قبل التصويت على اقتراحين لسحب الثقة من الحكومة (رويترز)

«ستاندرد آند بورز» تفاجئ فرنسا بخفض تصنيفها بسبب «الاضطراب السياسي»

خفّضت وكالة «ستاندرد آند بورز» التصنيف الائتماني للديون السيادية الفرنسية، محذرة من حالة الاضطراب السياسي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو يلقي خطاباً خلال مناقشة قبل التصويت على اقتراحين لسحب الثقة من الحكومة الفرنسية خلال جلسة عامة في الجمعية الوطنية في باريس 16 أكتوبر 2025 (رويترز)

رئيس الحكومة الفرنسية ينجو من تصويتين لحجب الثقة

نجا رئيس الوزراء الفرنسي سيباستيان لوكورنو من تصويتين لحجب الثقة في البرلمان، اليوم (الخميس)، بعدما تلقى دعما حاسما من الحزب الاشتراكي بعد تقديمه تنازلات.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) يتحدث مع وزير القوات المسلحة الفرنسي حينها سيباستيان ليكورنو خلال زيارة إلى هانوي - فيتنام 26 مايو 2025 (أ.ف.ب)

فرنسا على حافة أزمة سياسية حادة مع تصويت البرلمان لحجب الثقة عن حكومة ماكرون

قد تغرق فرنسا أكثر في أزمة سياسية يوم الخميس، إذ تواجه حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون تصويتين لحجب الثقة في البرلمان ضد رئيس الوزراء سيباستيان لوكورنو.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب «التجمع الوطني» مارين لوبان خلال جلسة أسئلة للحكومة في الجمعية الوطنية الفرنسية في باريس 15 أكتوبر 2025 (أ.ف.ب)

مجلس الدولة الفرنسي يؤكد منع مارين لوبان من الترشح للانتخابات

فشلت السياسية الفرنسية اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، في محاولتها إلغاء قرار منعها من خوض الانتخابات.

«الشرق الأوسط» (باريس)
تحليل إخباري سيباستيان لوكورنو رئيس الحكومة الفرنسية يلقي كلمته في الجمعية الوطنية بعد ظهر الثلاثاء (إ.ب.أ)

تحليل إخباري مصير لوكورنو وحكومته يقرَّر الخميس في البرلمان الفرنسي

تجاوب رئيس حكومة فرنسا مع مطالب الحزب الاشتراكي لتجنب حجب الثقة عنه عبر تجميد العمل بقانون التقاعد وفرض ضرائب استثنائية على كبريات الشركات والثروات الكبرى.

ميشال أبونجم (فرنسا)

ألمانيا توقف شخصاً إضافياً بشبهة الانتماء إلى خلية تابعة لـ«حماس»

النيابة العامة الفيدرالية الألمانية تعلن إيقاف مشتبه به بالانتماء إلى خلية تابعة لحركة «حماس» (أ.ف.ب)
النيابة العامة الفيدرالية الألمانية تعلن إيقاف مشتبه به بالانتماء إلى خلية تابعة لحركة «حماس» (أ.ف.ب)
TT

ألمانيا توقف شخصاً إضافياً بشبهة الانتماء إلى خلية تابعة لـ«حماس»

النيابة العامة الفيدرالية الألمانية تعلن إيقاف مشتبه به بالانتماء إلى خلية تابعة لحركة «حماس» (أ.ف.ب)
النيابة العامة الفيدرالية الألمانية تعلن إيقاف مشتبه به بالانتماء إلى خلية تابعة لحركة «حماس» (أ.ف.ب)

أعلنت النيابة العامة الفيدرالية الألمانية، الأربعاء، أن الشرطة أوقفت مشتبهاً به بالانتماء إلى خلية تابعة لحركة «حماس» كانت تخطط لهجمات تستهدف مؤسسات إسرائيلية أو يهودية.

ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أوضحت النيابة أن الموقوف (برهان. ك)، المولود في لبنان، اعتُقل مساء الثلاثاء أثناء دخوله ألمانيا من جمهورية التشيك.

وأشارت إلى أن المشتبه به اشترى في أغسطس (آب) «بندقية آلية وثمانية مسدسات من نوع غلوك وأكثر من 600 طلقة ذخيرة داخل ألمانيا»، ونقلها إلى مشتبه به آخر يُدعى (وائل. ف).

وكان الأخير من بين ثلاثة رجال أُوقفوا الشهر الماضي في برلين للاشتباه في حيازتهم أسلحة وذخائر.

وأضافت النيابة العامة أن الشرطة الدنماركية فتشت مواقع في كوبنهاغن ومحيطها على صلة بكل من (برهان. ك). ومشتبه به آخر، فيما اعتُقل مشتبه إضافي الأسبوع الماضي في لندن بناء على طلب من السلطات الألمانية.

من جهتها، نفت حركة «حماس» الفلسطينية أي صلة لها بالمخطط.


تقدم روسي متسارع يربك الغرب

سيارة مدمرة في مدينة بوكروفسك مع تقدم القوات الروسية أمس (رويترز)
سيارة مدمرة في مدينة بوكروفسك مع تقدم القوات الروسية أمس (رويترز)
TT

تقدم روسي متسارع يربك الغرب

سيارة مدمرة في مدينة بوكروفسك مع تقدم القوات الروسية أمس (رويترز)
سيارة مدمرة في مدينة بوكروفسك مع تقدم القوات الروسية أمس (رويترز)

بينما تسعى كييف لتثبيت خطوطها قبل حلول الشتاء، تبدو أوروبا غارقة في «المنطقة الرمادية» بين الحرب والسلم، في وقت تتكثف فيه الهجمات السيبرانية وحوادث التخريب والتجسس بالطائرات المسيرة، ما يعكس تصعيداً روسيّاً غير معلن يتجاوز حدود أوكرانيا. وتتواصل مؤشرات التحول الميداني في الحرب الروسية - الأوكرانية، مع تحقيق القوات الروسية مكاسب متتالية على جبهات القتال، وسط تراجع القدرات الدفاعية الأوكرانية ونفاد الذخائر الغربية.

بحسب تحقيق موسع نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، يشهد المجال الجوي الأوروبي موجة غير مسبوقة من الطائرات المسيرة المجهولة المصدر، يُشتبه بأن روسيا تقف وراءها.

Russian President Vladimir Putin chairs a meeting with members of the Security Council in Moscow, Russia, November 5, 2025. Sputnik/Gavriil Grigorov/Pool via REUTERS

في ألمانيا وحدها، رُصدت 3 اختراقات يومياً فوق منشآت عسكرية وصناعية حساسة، بينما أغلقت مطارات كبرى، مثل فرانكفورت وميونيخ مؤقتاً بسبب خطر الاصطدام بطائرات مدنية. وقالت الصحيفة إن هذه الحوادث ليست سوى «قمة جبل الجليد» في حرب هجينة متصاعدة تشمل تخريباً في السكك الحديدية، وهجمات إلكترونية على بنى تحتية للطاقة، وحملات تضليل إعلامي تستهدف الرأي العام الأوروبي.

المستشار الألماني فريدريش ميرتس لخّص الموقف بدقة حين قال: «لسنا في حرب مع روسيا، لكننا لم نعد في سلام أيضاً». فالقارة، بحسب مراقبين، تعيش حالة من «اللايقين الاستراتيجي»؛ إذ تواجه تهديداً غير تقليدي يصعب الردّ عليه عسكرياً دون المخاطرة بتصعيد شامل.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يسار) يصافح أحد الجنود بالقرب من مدينة بوكروفسك في منطقة دونيتسك (أ.ب)

غير أن الكرملين اتهم الأوروبيين، قائلاً إن هناك «أجواء عسكرية» في أوروبا، وإن روسيا ترى أن أوروبا تستعد للحرب معها، ما قد يؤدي إلى إجهاد اقتصاداتهم، بحسب المتحدث باسمه ديمتري بيسكوف.

تزايد الشكوك وتآكل الردع

الاتهامات الغربية لروسيا بالتورط في تلك الهجمات تأتي في سياق التقدم العسكري الروسي داخل أوكرانيا، وتراجع الدعم الغربي. فبينما تنفي موسكو أي علاقة بالاختراقات، يرى محللون أن الكرملين يستخدم هذه الوسائل لتقويض الجبهة الداخلية الأوروبية وإضعاف حماسها لدعم كييف.

وقد وثّقت أجهزة الأمن الألمانية آلاف الحوادث المرتبطة بطائرات مسيّرة خلال هذا العام، بعضها فوق مصانع للأسلحة والبنية التحتية للطاقة. ووفق تقرير داخلي للشرطة الفيدرالية الألمانية بعنوان «السلاح الجديد: الطائرة المسيرة»، فإن عدد الحوادث تجاوز 4 آلاف، معظمها منسق، ما يشير إلى تورط جهة فاعلة.

وتعاني السلطات الأوروبية من صعوبات تقنية وقانونية في مواجهة هذه التهديدات. فالكشف عن طائرات صغيرة منخفضة الارتفاع أمر معقد، كما أن إسقاطها في مناطق مأهولة قد يثير مشكلات أمنية وقضائية. هذا الارتباك الإداري بين الشرطة والجيش وهيئات الطيران المدني جعل بعض الخبراء يحذرون من أن «الدول لم تعد تسيطر فعلياً على أجوائها».

بوتين خلال تفقده جنوداً مصابين في مستشفى عسكري بموسكو (رويترز)

التهديد لا يقتصر على الجو. فقد شهد العام الماضي سلسلة حوادث غامضة في المياه الأوروبية، بينها تخريب كابلات بحرية وأنابيب غاز تربط القارة بالأسواق العالمية. ورغم غياب الأدلة القاطعة، يشتبه مسؤولون في أن موسكو تسعى لإظهار قدرتها على ضرب نقاط ضعف أوروبا الحيوية دون إطلاق النار. ويقول ديف بيتس، وهو مسؤول سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، إن «الخصوم أدركوا أن بإمكانهم الاختباء خلف الغموض والإنكار لتنفيذ عمليات تخريب وإكراه سياسي دون إثارة ردّ عسكري».

إلى جانب ذلك، رصدت وحدات الاستخبارات الأوروبية نشاطاً متزايداً لحملات التضليل الإعلامي عبر الإنترنت. شركة «غوغل ثريت إنتليجنس» أكدت ارتفاعاً كبيراً في المحتوى الموالي لروسيا الذي يسعى إلى إضعاف الدعم الشعبي لأوكرانيا وإبراز موسكو في صورة المنتصر، خصوصاً بعد الانتهاكات الجوية الأخيرة في بولندا وبلجيكا.

جندي أوكراني يسير بجوار مبانٍ متضررة وسط بوكروفسك في منطقة دونيتسك بأوكرانيا (أ.ب)

تبدل موازين القوى

على الأرض، تشير تقارير ميدانية إلى أن القوات الروسية استعادت المبادرة على جبهات الشرق والجنوب، خصوصاً في دونيتسك وزابوروجيا، وسط صعوبات متزايدة تواجهها القوات الأوكرانية في تأمين الذخائر وقطع الغيار. ويرى محللون أن الحملة الروسية اعتمدت تكتيك «القضم البطيء»، مستفيدة من الإنهاك الأوكراني وتراجع الإمدادات الغربية.

وتحدثت مصادر عسكرية غربية عن تراجع الدعم اللوجستي الأميركي بعد إعادة إدارة الرئيس دونالد ترمب النظر في برامج المساعدات، مقابل تعزيز العقوبات الاقتصادية على موسكو. فقد فرضت واشنطن في أكتوبر (تشرين الأول) عقوبات مشددة على شركتي «روسنفت» و«لوك أويل»، متهمة الكرملين بتمويل عملياته العسكرية من عائدات النفط. كما أعلنت لندن حظر خدمات الشحن البحري للغاز الطبيعي الروسي، في خطوة إضافية لخنق موارد موسكو.

مدفعيون أوكرانيون يطلقون النار من مدفع «هاوتزر» ذاتي الحركة باتجاه القوات الروسية بالقرب من بلدة بوكروفسك على خط المواجهة في منطقة دونيتسك يوم 15 أكتوبر 2025 (رويترز)

تخوف من تمدد الصراع شرقاً

لكن القلق الأكبر يتمثل في احتمال أن تمتد الحرب خارج أوكرانيا. صحيفة «واشنطن بوست» حذّرت في افتتاحيتها من أن «الكرملين بدأ ينقل أدوات الحرب الهجينة إلى جواره الآسيوي»، مشيرة إلى مؤشرات على نشاط روسي مريب في كازاخستان وأرمينيا، وهما بلدان مهمان في المجال الحيوي الروسي.

وتحدثت تقارير استخباراتية عن محاولات روسية لإثارة اضطرابات في المناطق ذات الغالبية الروسية في كازاخستان، فيما كشفت السلطات الأرمينية مؤامرة انقلابية يُشتبه في ضلوع رجال أعمال موالين لموسكو فيها.

ويرى محللون أن هذه التحركات تهدف إلى منع انزياح دول آسيا الوسطى والقوقاز نحو الغرب، بعد أن فقدت موسكو كثيراً من نفوذها هناك بفعل حرب أوكرانيا. ويقول خبراء أميركيون إن روسيا، العاجزة حالياً عن فتح جبهات جديدة عسكرية، تفضل الاستثمار في الفوضى السياسية والمعلوماتية لتقويض خصومها. ويحذر هؤلاء من أن «الفرصة الجيوسياسية لاحتواء النفوذ الروسي لن تدوم طويلاً»، داعين واشنطن والاتحاد الأوروبي إلى دعم اقتصادي واستثماري أوسع في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، ولا سيما قطاعات المعادن النادرة والطاقة.

مجموعة السبع: دعم هشّ وتردد متزايد

في خضم هذه التطورات، اجتمع وزراء خارجية دول مجموعة السبع في نياغرا على الحدود الأميركية - الكندية، في محاولة لتوحيد الموقف الغربي بشأن أوكرانيا. لكن خلف البيانات المتفائلة، بدت الانقسامات واضحة. فبينما شددت ألمانيا وفرنسا على ضرورة إيجاد «مخرج دبلوماسي» يوقف الحرب، دعت واشنطن ولندن إلى مواصلة الضغط الاقتصادي والعسكري على موسكو. وقالت وزيرة الخارجية الكندية أنيتا أناند إن «العالم يواجه بيئة متقلبة ومعقدة، والتحدي هو في الحفاظ على وحدة الصف الغربي».

ويأتي هذا الاجتماع في وقت تواجه فيه كييف شتاءً قاسياً جديداً، مع تدمير متكرر لمحطات الكهرباء والبنية التحتية للطاقة. وتشير تقديرات أوكرانية إلى أن أكثر من 40 في المائة من منظومتها الكهربائية خرجت عن الخدمة، فيما يزداد الضغط الداخلي على الحكومة الأوكرانية للبحث عن تسوية.

ويجد الغرب نفسه أمام مشهد ضبابي: روسيا تتقدم عسكرياً، وتوسّع نفوذها عبر «حروب رمادية» تتحدى الخطوط الحمراء دون تجاوزها، بينما يعاني التحالف الغربي من إنهاك مالي وسياسي متزايد. وفيما تسعى كييف للصمود مدعومة بتعاطف شعبي واسع، تدرك أن ميزان القوى بدأ يميل تدريجياً لمصلحة موسكو.

ويرى مراقبون أن ما يجري اليوم لا يشبه الحرب الباردة القديمة، بل صراعاً مفتوحاً ومتعدد الطبقات، عسكرياً وإلكترونياً ومعلوماتياً واقتصادياً، تخوضه روسيا لإعادة رسم موازين القوة في أوروبا والعالم. وفي حين تصرّ موسكو على أن عمليتها في أوكرانيا تسير وفق «خطة محسوبة»، فإن الأوروبيين يعيشون اليوم مرحلة بينية قلقة، لا حرب شاملة فيها، ولا سلام حقيقي، بل واقع رمادي جديد يجعل القارة على حافة مواجهة أكبر لا يمكن التنبؤ بنتائجها.


وكالتان أمميتان تحذران من «16 بؤرة جوع» في العالم

فلسطينيون ينتظرون الحصول على الطعام من مطبخ خيري في مدينة غزة (رويترز)
فلسطينيون ينتظرون الحصول على الطعام من مطبخ خيري في مدينة غزة (رويترز)
TT

وكالتان أمميتان تحذران من «16 بؤرة جوع» في العالم

فلسطينيون ينتظرون الحصول على الطعام من مطبخ خيري في مدينة غزة (رويترز)
فلسطينيون ينتظرون الحصول على الطعام من مطبخ خيري في مدينة غزة (رويترز)

حذرت وكالتان تابعتان للأمم المتحدة معنيتان بالغذاء، اليوم الأربعاء، من أن ملايين الأشخاص حول العالم قد يواجهون المجاعة، فيما يفاقم نقص التمويل أوضاعاً متردية أصلاً، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

وأفاد التقرير المشترك الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي أن النزاعات والعنف هما السببان الرئيسيان لانعدام الأمن الغذائي الحاد في غالبية البلدان المعرضة للخطر.

وأدرجت الوكالتان، ومقرهما في روما، هايتي ومالي وفلسطين وجنوب السودان والسودان واليمن ضمن أسوأ البلدان، «حيث يواجه السكان خطراً وشيكاً لجوع كارثي».

فتاة فلسطينية صغيرة تقف خارج منزلها المدمر في جباليا الواقعة شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

واعتُبرت أفغانستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبورما ونيجيريا والصومال وسوريا «محل قلق بالغ»، بالإضافة إلى بوركينا فاسو وتشاد وكينيا إضافة إلى لاجئي الروهينغا في بنغلادش.

وقالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين: «نحن على شفير كارثة جوع يمكن تجنبها تماماً وتهدد بتفشي المجاعة على نطاق واسع في العديد من البلدان»، محذرة من أن عدم التحرك «سيؤدي فقط إلى مزيد من عدم الاستقرار والهجرة والنزاع».

وأشار التقرير إلى أن تمويل الإغاثة الإنسانية يعاني من «نقص خطير»، إذ لم يتم جمع سوى 10.5 مليار دولار من أصل 29 مليار دولار مطلوبة لمساعدة المعرضين للخطر.

وقال برنامج الأغذية العالمي إنه بسبب تخفيضات التمويل، خفّض المساعدات المقدمة للاجئين والنازحين، فيما علق برامج التغذية المدرسية في بعض البلدان.

وحذرت منظمة الأغذية والزراعة من أن الجهود المبذولة لحماية سبل العيش الزراعية مهددة، «وهي ضرورية لتحقيق استقرار إنتاج الغذاء ومنع تكرار الأزمات».

وأضافت أنه يلزم توفير التمويل للبذور وخدمات صحة الثروة الحيوانية، «قبل بدء مواسم الزراعة أو حدوث صدمات جديدة».