الهوة تتعمق بين جناحَي الناتو... ودول شرق أوروبا لا تريد «الطلاق» مع واشنطن

الرئيس الأميركي يشكك بصدقيتهم الأطلسية... والأوروبيون يردّون

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته والرئيس البولندي أندريه دودا خلال مؤتمر صحافي مشترك (رويترز)
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته والرئيس البولندي أندريه دودا خلال مؤتمر صحافي مشترك (رويترز)
TT
20

الهوة تتعمق بين جناحَي الناتو... ودول شرق أوروبا لا تريد «الطلاق» مع واشنطن

الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته والرئيس البولندي أندريه دودا خلال مؤتمر صحافي مشترك (رويترز)
الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته والرئيس البولندي أندريه دودا خلال مؤتمر صحافي مشترك (رويترز)

إذا كانت ثمة حاجة لأدلة إضافية على الشرخ العميق الناشئ بين جناحَي الحلف الأطلسي (ناتو) الأميركي والأوروبي، فإن ما جاء على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الخميس، في حديثه للصحافة في البيت الأبيض، يكفي لإثبات وجوده والتأكد منه بشكل قاطع؛ ذلك أن ما يوفر للحلف الغربي معناه أنه يشكل ضمانة للدول الأعضاء (وتحديداً للأوروبيين) بأنها ستحظى بتضامن شركائها في الحلف في حال تعرضها لاعتداء خارجي. وهذا المبدأ ينص عليه بشكل لا يقبل اللغط البند الخامس من شرعة تأسيس الحلف في عام 1949. والحال أن ترمب لم يتردد في إفهام الأوروبيين أن الأمور تغيرت، وأن الاستفادة من مظلة الحماية الأميركية - الأطلسية أصبحت مشروطة.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بين رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنتونيو كوستا في بروكسل (رويترز)
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بين رئيس المفوضية الأوروبية أورسولا فون در لاين ورئيس المجلس الأوروبي أنتونيو كوستا في بروكسل (رويترز)

ولدى سؤاله عن هذا الأمر، قال ترمب في إشارة إلى الأوروبيين: «إذا لم يدفعوا، فلن أدافع عنهم». وذهب ترمب إلى حد التشكيك بمدى التزام الأوروبيين بهذا المبدأ بقوله: «إذا واجهت الولايات المتحدة مشكلة واتصلنا بفرنسا أو غيرها من الدول التي لن أذكرها بالاسم، وقلنا (لدينا مشكلة)، فهل تعتقد أنهم سيأتون لمساعدتنا، كما يُفترض بهم أن يفعلوا؟ لست متأكداً من أنهم سيفعلون».

هل الـ500 مليار يورو كافية لإرضاء الرئيس الأميركي؟

المفارقة أن ترمب يهدد الأوروبيين بتركهم لمصيرهم في حال مهاجمتهم، وهذا جاء في اليوم نفسه الذي كان القادة الأوروبيون مجتمعين في بروكسل من أجل إطلاق خطة إعادة تسلح جماعية غير مسبوقة. فبعد أن كان ترمب، في ولايته الأولى، يطالب الأوروبيين بتخصيص 2 في المائة من ناتجهم الداخلي العام، أصبح اليوم يطالبهم بمضاعفة هذه النسبة، لا بل الذهاب إلى 5 في المائة. وسبق لأمين عام الحلف الأطلسي مارك روته، أن أكد أكثر من مرة أن غالبية الأطلسيين تخطت هذه النسبة.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحضر قمة الاتحاد الأوروبي (رويترز)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يحضر قمة الاتحاد الأوروبي (رويترز)

ومؤخراً، أعلنت ألمانيا عن خطة تسلح طموحة بالتوافق بين المستشار الحالي أولاف شولتس، والقادم فريدريتش ميرتس، تقضي بتخصيص 500 مليار يورو إضافية للدفاع في السنوات الخمس القادمة. وسبق لحكومة شولتس أن قررت في 2022 تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني. وتزامن ذلك مع إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية عن خطة غير مسبوقة لصرف 800 مليار يورو على تسلح الاتحاد، من بينها 150 مليار يورو ستعمد المفوضية إلى استدانتها جماعياً وباسم المفوضية، وسيتاح للدول الأعضاء أن تغرف منها لتسلحها وفق مبادئ محددة توافق عليها القادة الأوروبيون في قمة بروكسل الأخيرة.

وكانت لافتةً إشارة ترمب إلى فرنسا وحدها، من بين مجموع دول الحلف الأطلسي، للتشكيك بصدقية التزامها بالبند الخامس من شرعة النادي الأطلسي. وأثارت هذه الإشارة تساؤلات عديدة في باريس، ولم يتردد الرئيس ماكرون في الرد على ترمب في المؤتمر الصحافي الليلي الذي عقده في بروكسل بعد انتهاء أعمال القمة، مذكّراً إياه بأن المرة الوحيدة التي تم خلالها تفعيل الفقرة الخامسة كانت بطلب من الولايات المتحدة بعد هجمات سبتمبر (أيلول) 2001، ومشاركة الحلف الأطلسي، بما فيها قوة فرنسية، في الحرب الأميركية في أفغانستان.

وقال ماكرون ما حرفيته: «نحن حلفاء مخلصون وأوفياء. أي شخص يتجرأ (على نكران ذلك)، عليه، ببساطة، أن ينظر إلى تاريخنا المعاصر الذي يبين ببساطة ما نكنه للولايات المتحدة الأميركية، وما أكنه لقادتها من الاحترام والصداقة». وخلص ماكرون إلى القول: «لقد كنا دائماً بجانب بعضنا» في المحن.

رسالة الأوروبيين إلى ترمب

حقيقة الأمر أن باريس لا تعي سبب استهدافها. فالعلاقات بين ماكرون وترمب جيدة، وبرز ذلك في مناسبتين على الأقل: الأولى، عندما جاء الأخير إلى باريس في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بدعوة من ماكرون، للمشاركة في احتفال تدشين كاتدرائية نوتردام بعد انتهاء أعمال الترميم التي طالتها عقب الحريق الكبير الذي أصابها في عام 2019. والثانية، عند زيارة ماكرون لواشنطن في 25 فبراير (شباط) الماضي، والتي أبرزت التقارب بين المسؤولين، أقله بروتوكولياً.

دونالد تاسك رئيس وزراء بولندا خلال خطاب له في البرلمان الجمعة بعد مشاركته في القمة الأوروبية ودفاعه عن ضرورة الإبقاء على العلاقة الأطلسية مع الولايات المتحدة (أ.ب)
دونالد تاسك رئيس وزراء بولندا خلال خطاب له في البرلمان الجمعة بعد مشاركته في القمة الأوروبية ودفاعه عن ضرورة الإبقاء على العلاقة الأطلسية مع الولايات المتحدة (أ.ب)

وتعتبر مصادر فرنسية أن واشنطن «لم تهضم» أن يتزعم ماكرون الفريق الأوروبي الداعي لرد قوي على سياسات ترمب، إن لجهة الدعوة إلى «الاستقلالية الأوروبية الاستراتيجية»، أو لتوفير أقصى دعم ممكن للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، أو للتعاطي بالندية في موضوع الرسوم الباهظة التي يريد ترمب فرضها على المصدّرين الأوروبيين. وفي أي حال، تذكر المصادر الفرنسية أن باريس هي «الأقل حاجة» من بين كافة أعضاء الاتحاد الأوروبي لـ«المظلة النووية الأميركية»؛ لكونها دولة نووية «رسمية»، ثم إن باريس تقترح إطلاق نقاش مع من يرغب من الأوروبيين للنظر في إمكانية استفادتهم من «المظلة الفرنسية». كذلك، تعتبر مصادر أخرى في باريس أن ترمب رغم تهديداته لأوروبا، فإنه قد لا يرغب في ظهور «قيادة أوروبية» قادرة على تجميع الأوروبيين ودفعهم لمواقف متصلبة إزاء الولايات المتحدة. وحتى اليوم، يبدو أن ماكرون قادر على لعب هذا الدور بالتنسيق (أو بالتقاسم) مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، في انتظار أن ينجح فريدريتش ميرتس في تشكيل حكومة ألمانية جديدة، ويصبح مستشار ألمانيا الجديد.

تردد شرق أوروبا

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً إلى الصحافة في بروكسل عقب انتهاء أعمال القمة الخاصة حيث رد على هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الأوروبيين في الحلف الأطلسي (أ.ف.ب)
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون متحدثاً إلى الصحافة في بروكسل عقب انتهاء أعمال القمة الخاصة حيث رد على هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على الأوروبيين في الحلف الأطلسي (أ.ف.ب)

وفي أي حال، فإن الأوروبيين نجحوا الخميس في تحقيق هدف رئيسي، وهو توجيه رسالة تصميم إلى واشنطن، ومعناها أن دول الاتحاد الـ27 في مواجهة ما تراه من تغير الأحلاف القديمة، وتخلي ترمب عن أوكرانيا، ورغبته في التقارب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وربما على حسابهم؛ نجحت في اختبار الحفاظ على وحدتها، وتأكيد رغبتها في تولي مسؤولية أمنها بالتوازي مع الوقوف إلى جانب أوكرانيا.

بيد أن هذه المبادرات الأوروبية رغم أهميتها والتوافق على مبادئها العامة، لا تخفي قلق بعض دول الاتحاد التي لا تريد القطيعة مع واشنطن، خصوصاً تلك القريبة من الحدود الروسية، والتي تستشعر التهديد الروسي أكثر من غيرها. وتضم هذه المجموعة، بشكل رئيسي، دول بحر البلطيق وبولندا ورومانيا ومولدافيا. وعبر عن مخاوفها رئيس وزراء بولندا دونالد تاسك الذي قال في بروكسل: «لا شك أن الحرب في أوكرانيا، والنهج الجديد للإدارة الأميركية تجاه أوروبا، وسباق التسلح الذي أطلقته روسيا؛ كل ذلك يضعنا أمام تحديات جديدة». وأضاف تاسك المعروف بميوله الأوروبية، بعكس رئيس جمهورية بولندا: «اليوم، أصبحت الولايات المتحدة شريكاً أكثر تطلباً وصعوبة. ولكن من خلال تعزيز دفاعنا، يجب علينا في الواقع تحسين العلاقات عبر الأطلسي»؛ أي مع الولايات المتحدة. وإحدى السبل لذلك أن هذه الدول وغيرها عازمة على مواصلة شراء الأنظمة الدفاعية الأميركية؛ ما يتناقض مع الرغبة الأوروبية الأخرى التي تمثلها فرنسا بالدرجة الأولى، والقاضية بتعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية كوسيلة لتحقيق الاستراتيجية، بدل الاستمرار في التعويل على ما تنتجه المصانع الأميركية وما يتلازم مع ذلك من تبعية.


مقالات ذات صلة

ترمب: روسيا وأوكرانيا «قريبتان جداً» من التوصل إلى اتفاق

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب لحظة وصوله إلى روما لحضور جنازة البابا فرانسيس (إ.ب.أ) play-circle

ترمب: روسيا وأوكرانيا «قريبتان جداً» من التوصل إلى اتفاق

أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الجمعة، أنّ روسيا وأوكرانيا «قريبتان جداً» من التوصل إلى اتفاق، حاضاً إياهما على الاجتماع لوضع اللمسات الأخيرة عليه.

«الشرق الأوسط» (روما)
أوروبا الرئيس بوتين مستقبلاً الجمعة المبعوث الأميركي الخاص للملف الأوكراني ستيف ويتكوم في الكرملين في زيارته الرابعة لموسكو (أ.ب)

ويتكوف في موسكو لإنقاذ جهود السلام والكرملين يتطلع لإتمام «عناصر محددة»

مع تصاعد وتيرة الانتقادات الأميركية للطرفين الروسي والأوكراني، وتلويح الرئيس دونالد ترمب بوقف جهود الوساطة لإنهاء النزاع في حال عدم تقدم عملية التسوية السياسية،

رائد جبر (موسكو)
أوروبا قاعدة بيتوفيك الأميركية في شمال غرينلاند (أ.ف.ب) play-circle

الدنمارك تتهم روسيا بالوقوف وراء حملة تضليل بشأن غرينلاند

اتهمت الاستخبارات الدنماركية روسيا بالوقوف وراء حملة تضليل، زعمت أن أحد المشرعين الدنماركيين يسعى للحصول على مساعدة روسية لمنع الولايات المتحدة من ضم غرينلاند.

«الشرق الأوسط» (كوبنهاغن)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتحدث للصحافيين قرب مبنى دمره قصف صاروخي روسي (أ.ف.ب)

زيلينسكي: القرم «تابعة» لأوكرانيا و«موقفنا ثابت»

كرر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن شبه جزيرة القرم تعود إلى أوكرانيا رغم أن روسيا ضمتها في 2014، مؤكداً أن موقف كييف من هذه المسألة «ثابت».

«الشرق الأوسط» (كييف)
تحليل إخباري الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتحدث مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر (وسط) والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (إ.ب.أ)

تحليل إخباري اصطدام أميركي - أوروبي بشأن أوكرانيا والطريق إلى السلام

اصطدام أميركي - أوروبي بشأن الحرب في أوكرانيا والطريق إلى السلام، والأوروبيون يطرحون مقاربتهم ويرفضون الاعتراف بضم القرم ورفع العقوبات عن روسيا كما تريد واشنطن.

ميشال أبونجم (باريس)

ويتكوف في موسكو لإنقاذ جهود السلام والكرملين يتطلع لإتمام «عناصر محددة»

الرئيس بوتين مستقبلاً الجمعة المبعوث الأميركي الخاص للملف الأوكراني ستيف ويتكوم في الكرملين في زيارته الرابعة لموسكو (أ.ب)
الرئيس بوتين مستقبلاً الجمعة المبعوث الأميركي الخاص للملف الأوكراني ستيف ويتكوم في الكرملين في زيارته الرابعة لموسكو (أ.ب)
TT
20

ويتكوف في موسكو لإنقاذ جهود السلام والكرملين يتطلع لإتمام «عناصر محددة»

الرئيس بوتين مستقبلاً الجمعة المبعوث الأميركي الخاص للملف الأوكراني ستيف ويتكوم في الكرملين في زيارته الرابعة لموسكو (أ.ب)
الرئيس بوتين مستقبلاً الجمعة المبعوث الأميركي الخاص للملف الأوكراني ستيف ويتكوم في الكرملين في زيارته الرابعة لموسكو (أ.ب)

مع تصاعد وتيرة الانتقادات الأميركية للطرفين الروسي والأوكراني، وتلويح الرئيس دونالد ترمب بوقف جهود الوساطة لإنهاء النزاع في حال عدم تقدم عملية التسوية السياسية، وصل مبعوثه الخاص، ستيف ويتكوف إلى موسكو أمس حاملاً ما يُتوقع أنه الخطوط العريضة لخطة سلام بلورتها الإدارة الأميركية. وأجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والموفد الأميركي محادثات استمرت ثلاث ساعات في إطار اجتماع «بنّاء» تناول خصوصاً احتمال استئناف «مفاوضات مباشرة» بين موسكو وكييف.وقال ترمب إن «الأيام القليلة المقبلة ستكون بالغة الأهمية... فالاجتماعات جارية الآن»، فيما أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو مستعدة لعقد صفقة لتسوية الأزمة في أوكرانيا، لكنه زاد أن هناك «عناصر معينة يجب العمل على إتمامها».