«البديل» الألماني يبحث خطوات لتجنب حظره... ويسعى للابتعاد عن جناح الشباب الأكثر تطرفاً

مع استعداد أكثر من 100 نائب لطرح مشروع يطلق عجلة لمنع الحزب الذي يروج للأفكار النازية وترحيل اللاجئين علناً

شعار حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف المهدد بالحظر (د.ب.أ)
شعار حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف المهدد بالحظر (د.ب.أ)
TT

«البديل» الألماني يبحث خطوات لتجنب حظره... ويسعى للابتعاد عن جناح الشباب الأكثر تطرفاً

شعار حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف المهدد بالحظر (د.ب.أ)
شعار حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف المهدد بالحظر (د.ب.أ)

منذ مدة تعلو أصوات في ألمانيا لحظر الحزب اليميني المتطرف «البديل من أجل ألمانيا». والآن ومع اقتراب الانتخابات العامة المبكرة نهاية فبراير (شباط)، تتسارع الخطوات لهذا الحظر، وهو ما يُظهر أنه بدأ يخيف الحزب اليميني المتطرف الذي يحلق عالياً في استطلاعات الرأي، ويحل ثانياً بنسبة تصل إلى 18 في المائة.

وفيما يبدو أنها خطوة استباقية للالتفاف على حظر محتمل، تبحث قيادات «البديل من أجل ألمانيا» فصل الحزب الأم عن جناح الشباب المصنف من قبل المخابرات بأنه أكثر تطرفاً، ويبدو أنه قد يكون السند القانوني لحظر الحزب أو أجزاء منه.

أليس فايدل زعيمة حزب «البديل من أجل ألمانيا» داخل البرلمان (إ.ب.أ)

ويبحث المجلس التنفيذي للحزب، بحسب «وكالة الأنباء الألمانية»، فصل الحزب الأم عن جناح الشباب أو حتى حل الأخير، وتأسيس جناح شباب منفصل يكون مرتبطاً بشكل مباشر بالحزب الأم، ما يسمح بالتحكم به بشكل أسهل. وحالياً لا ينتمي بالضرورة أعضاء جناح الشباب للحزب الأم، وهو ما يريد المجلس التنفيذي تغييره. وفي الخطط المطروحة، يريد الحزب أن يحمل المنتمون لجناح الشباب وهم عادة دون سن الـ36، إلى الحزب في الوقت نفسه. ويسمح ذلك للمجلس التنفيذي باتخاذ خطوات تأديبية مباشرة أو طرد الأعضاء بشكل أسهل مما هو جار حالياً.

وغالباً ما يتورط أعضاء الجناح الشاب بالحزب في فضائح تحرج الحزب الأم؛ لشدة تطرفهم. وفيما يتحفظ الحزب الأم على المجاهرة علناً ببعض السياسات التي تناقش سراً، مثل ترحيل ملايين المهاجرين والألمان من أصول مهاجرة، يجاهر المنتمون لجناح الشباب بها علناً.

آنا لايستن مثلاً، واحدة من المنتمين لجناح الشباب، بدأت حملة علنية على «إنستغرام» لعمليات الترحيل. ونشرت صورة لها تنظر إلى الكاميرا مبتسمة وفي أدنى الصورة طائرة مع عبارة «إعادة ترحيل»، وتسأل في التعليقات: «هل طفح الكيل بالنسبة إليكم من الخطط السرية؟ إذاً انضموا إلى فريق (إعادة الترحيل)، وأظهروا تأييدكم العلني للخطة».

شعار حملة «البديل من أجل ألمانيا» الآن (إ.ب.أ)

وتشير آنا بذلك إلى الاجتماع السري الذي كشفته وسائل إعلام ألمانية، وعقد نهاية العام الماضي في فندق فاخر في ضواحي برلين، شارك فيه يمينيون متطرفون من بينهم أعضاء بارزون في حزب «البديل»، مثل مستشار زعيمة الحزب أليس فايدل، وناقش الاجتماع ترحيل الملايين من ألمانيا. وتسبب الاجتماع بحرج كبير لقيادات الحزب التي نفت أن تكون تلك سياسة تعتمدها، وقالت إن المشاركات كانت فردية. وشبّه الكثيرون الاجتماع باجتماع عقده الحزب النازي خلال الحرب العالمية الثانية، في مكان قريب من المكان الذي اجتمع فيه أعضاء «البديل»، واتخذوا فيه ما يعرف بـ«الحل النهائي» الذي شكل بداية «الهولوكوست».

جلسة برلمانية في «البوندستاغ» (إ.ب.أ)

ومن الفضائح الأخرى داخل جناح الشباب، ما تسبب به أحد أعضائه البالغ من العمر 22 عاماً ويدعى دانيال هاليمبا، بعد أن كتب في كتاب الضيوف عبارة: «زيغ هايل»، وهي تحية النصر النازية التي كان يؤديها أعضاء الحزب النازي، وهي محظورة اليوم في ألمانيا. ويواجه هاليمبا إجراءات بالفصل داخل الحزب، علماً بأن الجناح السياسي بدأ حملة تضامن معه في البداية منعاً لفصله.

وتتكرر قصة كهذه داخل الجناح الشاب، وهو ما بات يشكل حرجاً للحزب الذي يحاول إبعاد شبهات النازية عنه، وتصوير نفسه على أنه حزب يميني محافظ، يسعى للحفاظ على القيم الألمانية، رغم اعتماده سياسات معادية للمهاجرين. ولكن الشبهات بالتطرف لا تحوم فقط حول الجناح الشاب، بل حول أعضاء من الحزب تورط العديد منهم أيضاً بفضائح تحرج الحزب، على رأسهم بيورن هوكيه الذي يحظى بشعبية كبيرة في ولايته تورينغن، وهي ولاية شرقية فاز فيها «البديل» بالانتخابات المحلية قبل بضعة أشهر.

الكتلة البرلمانية لحزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف (أ.ف.ب)

وفي عام 2017، انتقد هوكيه النصب التذكاري للمحرقة في برلين، وقال إن على ألمانيا أن تحدث «تغييراً بـ180درجة في سياستها بالتذكر». وخضع مؤخراً لمحاكمة لاستخدامه شعاراً نازياً محظوراً وغُرّم بدفع 13 ألف يورو، رغم نفيه بأنه كان يعلم بأن الشعار نازي. وأبعد من ذلك والأخطر ربما، أنه كتب عام 2014 لأعضاء الحزب يدعوهم للترويج لإلغاء المادة الـ130 من القانون الجنائي الألماني التي تجرم التحريض على الكراهية ضد جماعات معينة، ومادة أخرى تجرم نكران الهولوكوست.

وهذه الحالات تحديداً، أمثلة من جناح الشباب وتصريحات هوكيه، هي التي يعتمد عليها أكثر من 113 نائباً في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) من مختلف الأحزاب السياسية، في مشروع قرار يدعو المحكمة الدستورية لبحث حظر الحزب. وكان يأمل النواب طرح المشروع للمناقشة في البرلمان شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولكنه تأجل ريثما يقدم خبراء قانونيون رأياً في مدى إمكانية نجاح الحظر في حال تبناه «البوندستاغ»، وأحاله إلى المحكمة الدستورية. بالفعل فقد قدم أكثر من 17 محامياً في القانون الدستوري رأيهم بأن الأدلة المجموعة يمكن أن تكون كافية لحظر الحزب. ولم يُحدد بعد موعدٌ لمناقشة المشروع الذي يتطلب الحصول على أكثر من نصف أصوات البرلمان لكي تتم إحالته على المحكمة الدستورية. ورغم تعجل بعض النواب في طرح المشروع قبل الانتخابات العامة التي كان من المفترض أن تُجرى نهاية سبتمبر (أيلول) المقبل، ولكن تم تقديم الموعد لـ23 فبراير بعد انفراط الائتلاف الحاكم، فإن المحكمة الدستورية قد تستغرق وقتاً في إصدار قرارها حتى ولو تم إحالة الملف إليها بسرعة.

زعيمة حزب «البديل من أجل ألمانيا» أليس فايدل خلال مشاركتها في جلسة داخل «البوندستاغ» (رويترز)

ويواجه مشروع قرار النواب عراقيل أخرى؛ أبرزها عدم الحصول على دعم كافٍ ربما لتمريره، خاصة أن قادة الأحزاب الرئيسية يترددون بدعمه خوفاً من فشل الحظر وارتداداته السلبية.

وقد عبر المستشار الألماني أولاف شولتس، المنتمي للحزب الاشتراكي، عن معارضته للمشروع، وقال قبل يومين: «علينا أن نكون شديدي الحذر في عملية الحظر؛ لأنها قد تستغرق سنوات، وفي النهاية قد تنتهي الأمور بشكل خاطئ». وأكثر ما يخشاه معارضو التحرك أنه قد يتسبب بوقف مراقبة الحزب؛ لأن إحالة الملف للمحكمة الدستورية سيوقف عمليات المخابرات السرية في مراقبته، ما يعني سحب كل أشكال المراقبة والعملاء المتخفين الذين يجمعون حالياً أدلة حول مدى تطرف الحزب.

المستشار الألماني أولاف شولتس أمام البرلمان (د.ب.أ)

وتراقب المخابرات الداخلية العامة المعروفة بـ«هيئة حماية الدستور» الحزب منذ سنوات بعد تصنيفه بأنه يشتبه بأنه متطرف، فيما تصنف جناح الشباب التابع له بأنه «متطرف بشكل مؤكد». وكان من المفترض أن يصدر تقرير من المخابرات قبل نهاية العام حول استنتاجاتها بما إذا كان الحزب متطرفاً بشكل مؤكد، ما يستوجب متابعة مراقبته بشكل أوسع، ما يتيح استكمال جمع الأدلة، وقد يؤدي في النهاية إلى حظره. ولكن التقرير تأجل لما بعد الانتخابات في فبراير؛ لمنع التأثير على التصويت وإعطاء الأحزاب حظوظاً متساوية في الانتخابات.


مقالات ذات صلة

أوروبا إيمانويل ماكرون (إلى اليمين) يحيي عن بعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري بمناسبة مؤتمر اقتصادي في الرياض الثلاثاء (أ.ف.ب)

فرنسا تواجه أزمة سياسية حادة وأصوات تطالب برحيل الرئيس ماكرون عن الإليزيه والبلاد تدخل في نفق مجهول.

ميشال أبونجم (باريس)
شؤون إقليمية وزير الإسكان الإسرائيلي يتسحاق جولدكنبف ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في الكنيست (أ.ف.ب)

اليمين الإسرائيلي يخطط لتقليص تمثيل العرب في الكنيست

حذّر قانونيون وحقوقيون من خطورة خطط يعدها اليمين الإسرائيلي لسن قوانين في الكنيست (البرلمان)، وترمي إلى تقليص أعضائه من النواب العرب وإضعاف تأثيرهم السياسي.

نظير مجلي (تل أبيب)
أوروبا المرشح المؤيّد لروسيا كالين جورجيسكو يتحدث للإعلام بعدما ترشح بوصفه مستقلاً للانتخابات الرئاسية في بوخارست 21 أكتوبر 2024 (أ.ب)

رومانيا: مفاجأة روسية في الانتخابات الرئاسية

تُعد نتيجة الانتخابات بمثابة زلزال سياسي في هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه 19 مليون نسمة، وبقي إلى الآن في منأى عن المواقف القومية على عكس المجر أو سلوفاكيا.

«الشرق الأوسط» (بوخارست)
شؤون إقليمية نتنياهو متوسطاً وزير الدفاع المُقال يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي في أكتوبر 2023 (د.ب.أ)

نتنياهو يمهد لإقالة رئيس أركان الجيش بموجة انتقادات

بعد أن نجح في التخلص من وزير دفاعه، يوآف غالانت، من دون خسائر فادحة، يتجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لإزاحة رئيس أركان الجيش، هيرتسي هاليفي.

نظير مجلي (تل ابيب)
تحليل إخباري أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية تتوسط عدداً من قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل أبريل الماضي (أ.ب)

تحليل إخباري «نيران صديقة» على طريق ولاية فون دير لاين الثانية

حلقة في مسلسل استمرار جنوح المؤسسات الأوروبية نحو اليمين، بعد الانتخابات الأخيرة، مع تراجع قدرة الدولتين الكبريين في الاتحاد، ألمانيا وفرنسا، على ضبط الأمور

شوقي الريّس (بروكسل)

مصير رئيس الحكومة الفرنسية حُسم وسيناريوهات متعددة لما بعد إسقاطه

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة إلى الحكومة في الجمعية الوطنية (رويترز)
رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة إلى الحكومة في الجمعية الوطنية (رويترز)
TT

مصير رئيس الحكومة الفرنسية حُسم وسيناريوهات متعددة لما بعد إسقاطه

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة إلى الحكومة في الجمعية الوطنية (رويترز)
رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه يتحدث خلال جلسة الأسئلة الموجهة إلى الحكومة في الجمعية الوطنية (رويترز)

أطلق جوردان بارديلا، رئيس حزب التجمع الوطني، رصاصة الرحمة على ميشال بارنييه، رئيس الحكومة الفرنسية، بتأكيد المؤكد وذلك بإعلانه صباح الأربعاء أن نواب حزبه سيصوّتون لصالح سحب الثقة من بارنييه؛ ما يعني إسقاطه وإسقاط حكومته بشكل «فوري».

وأوضح بارديلا أن نواب اليمين المتطرف البالغ عددهم 141 نائباً سيضمون أصواتهم إلى أصوات «الاتحاد الشعبي الجديد»، أي تحالف أحزاب اليسار والخضر (193 نائباً) الذي أعلن عزمه إسقاط بارنييه وقدَّم لهذه الغاية عريضة نيابية إلى جانب العريضة التي قدمها اليمين المتطرف. والمثير للعجب أن بارديلا أعطى بارنييه مهلة تنتهي في الساعة الثالثة ليتراجع رئيس الحكومة عن قراره رفض زيادة المعاشات التقاعدية وإصراره على تمرير قانون تمويل الضمان الاجتماعي من خلال طرح الثقة بالحكومة.

رئيس الحكومة ميشال بارنييه يتشاور بعد ظهر الأربعاء مع اثنين من النواب قبل بدء جلسة البرلمان رسمياً (أ.ب)

والحال، أن المهلة الزمنية مرَّت ولم يصدر عن القصر الحكومي أي إعلان جديد. وإذا سارت الأمور على هذا النحو، فإن الجمع بين أصوات الطرفين سيوفر العدد اللازم والمريح لإعادة بارنييه إلى بيته في بادرة لم تحصل سوى مرة واحدة في تاريخ الجمهورية الخامسة تعود لعام 1962 عندما سقطت حكومة جورج بومبيدو خلال ولاية الرئاسية الأولى للجنرال شارل ديغول.

الحكم المبرم بحق بارنييه

إزاء الحكم المبرم المنتظر، لم يبق بارنييه مكتوف اليدين، بل حاول خلال مقابلة تلفزيونية مطولة ليلة الثلاثاء أن يعبئ ناخبي اليمين المتطرف ضد قرار الحزب، محذراً من العواقب الخطيرة المترتبة على إسقاطه بالنسبة لمصير الميزانية العامة لعام 2025 أو لتدهور القوة الشرائية وزيادة الضرائب على 18 مليون فرنسي وتراجع الاقتصاد، فضلاً عن الأزمة السياسية والنفق المجهول الذي ستدخله فرنسا.

وانضم نواب من تحالف الوسط واليمين الداعم له منبهين من المنزلق الذي تسير إليه البلاد. ولم يبقَ الرئيس إيمانويل ماكرون الموجود منذ الاثنين في زيارة دولة إلى السعودية صامتاً إذا شكك بحتمية إسقاط الحكومة، واتهم زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن بـ«ممارسة خبث لا يحتمل»؛ لأنها ضمت أصوات نواب حزبها إلى أصوات اليسار المتطرف ممثلاً بحزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون.

رئيسة مجموعة نواب اليمين المتطرف مارين لوبن التي تسبب تصويت حزبها إلى جانب نواب تحالف في إسقاط ميشال بارنييه (رويترز)

كذلك حرص ماكرون على قطع الطريق لمن ينادون باستقالته بوصفها مخرجاً «وحيداً» من الأزمة السياسية التي قد تتحول أزمة «مؤسساتية» معتبراً أن دعوة كهذه تندرج في إطار ما سماه «التخيل السياسي». وقال، الثلاثاء، لعدد من الصحافيين الذين رافقوه في زيارته إلى السعودية: «أنا أقف أمامكم (بصفة رئيس) لأن الشعب الفرنسي انتخبني مرتين. أنا فخور جداً بذلك وسأحترم هذه الثقة بكل طاقتي حتى الثانية الأخيرة لأكون مفيداً للبلاد».

عودة إلى المربع الأول

حقيقة الأمر أن مسؤولية ما يجري حالياً في فرنسا تقع على كاهل ماكرون؛ وذلك لسببين رئيسين: الأول، أنه، شخصياً، مَن قرر حل المجلس النيابي وهو حق يعطيه إياه الدستور. إلا أنه لجأ إليه من غير أسباب واضحة أو مقنعة. وكانت النتيجة أن البرلمان الجديد المنبثق من انتخابات يونيو (حزيران) الماضي جاء من غير أكثرية مطلقة ولا نسبية. كذلك، فإن حزبه خسر ما لا يقل عن سبعين نائباً. والآخر، أن ماكرون الذي يخوله الدستور اختيار شخصية لتشكيل الحكومة، ولا يفرض عليه أي قيود، لم يتصرف وفق العرف المعمول به في فرنسا، بل استدعى بارنييه المنتمي إلى حزب حلّ في المرتبة الرابعة ولا يتمتع إلا بـ47 نائباً، بينما تحالف اليسار حصل على 193 مقعداً.

كتلة اليسار في البرلمان (رويترز)

ويتذكر الجميع كيف ناور ماكرون لأسابيع لاستبعاد مرشحة اليسار لوسي كاستيه بحجة أنها غير قادرة على توفير أكثرية نيابية تدعم عملها على رأس الحكومة. وبالمقابل، سمى بارنييه وأقنع اليمين الكلاسيكي بالانضمام إلى الأحزاب الثلاثة الداعمة له التي تمتلك 163 نائباً. وأكثر من ذلك، تفاهم مع لوبن حتى تعطي الحكومة الجديدة فرصة للعمل وأن تمتنع عن الدفع لإسقاطها وبذلك يكون قد وضعها «رهينة» بين يدي اليمين المتطرف.

ورغم الخلافات السياسية العميقة بين اليمين المتطرف واليسار المتشدد، فإن لوبن التي تعاني صعوبات مع القضاء، اختارت إرباك المشهد السياسي والإقدام على إبراز عضلاتها وإفهام مَن لم يفهم أنها من تصنع الحكومات وأنها من يطيح بها.

صورة أرشيفية للرئيس الفرنسي الأسبق جورج بومبيدو الوحيد الذي سقطت حكومته في البرلمان في عام 1962 (أ.ف.ب)

مع سقوط بارنييه، تكون فرنسا قد عادت إلى المربع الأول، حيث لا أكثرية نيابية وحيث لا جهة قادرة على فرض مرشحها لرئاسة الحكومة. وفي حين كان ماكرون يراهن على إعادة تدشين كاتدرائية نوتردام بعد الانتهاء من ترميميها بعد الحريق الكبير الذي التهم الكثير من أجزائها، وذلك بجعلها حدثاً عالمياً سيحضره ما لا يقل عن 60 ملكاً ورئيس دولة وحكومة، أبرزهم دونالد ترمب، العائد قريباً إلى البيت الأبيض، لكن بغياب البابا الذي وجهت إليه الدعوة واعتذر عن تلبيتها، فإن الأزمة السياسية الراهنة ستلقي بظلها على الحدث. والمؤسف أن الانقسامات السياسية لن تتغير والوضع الذي ساد وأفضى إلى تكليف بارنييه ما زال حيث هو، وسيكون على ماكرون ان يناور ويفاوض ويستشير للمجيء بحكومة من غير أكثرية.

سيناريوهات للأسابيع المقبلة

إذا حصل ما هو متوقع وسُحبت الثقة من بارنييه، فعليه أن يقدّم استقالته سريعاً إلى رئيس الجمهورية الذي سيكلفه تسيير شؤون الدولة بانتظار تشكيل حكومة جديدة. وثمة سيناريوهان مستبعدان: الأول، استقالة ماكرون وقد رفض الإقدام عليها بشكل قاطع، والآخر اللجوء إلى المادة 16 من الدستور التي توفر له كلفة السلطات ولـ«فترة محدودة» في حالات عدة، منها إذا كان استقلال البلاد مهدداً أو المؤسسات معطلة أو وجود تهديد خارجي.

وأجمع خبراء القانون الدستوري على أن أياً من هذه الحالات غير متوافر اليوم، وبالتالي فإن هذا السيناريو «خيالي». ولا شك أن التجربة التي جرت مؤخراً في كوريا الجنوبية تشكل مثالاً يتعين عدم الاحتذاء به. كذلك، يتعين استبعاد حل مجلس النواب مجدداً لأن الدستور يمنع اللجوء إليه إلا بعد مرور عام كامل على حله مرة أولى، أي حتى يونيو المقبل.

أعضاء في البرلمان يتوسطهم رئيس الوزراء السابق (إ.ب.أ)

من هنا، يتعين على ماكرون أن يتعامل مع ما هو ممكن، ومنه المقترح الذي طرحه عضو مجلس الشيوخ يانيك جادو والقائل بإيكال رئاسة الحكومة لشخصية من اليسار تضم وزراء يساريين بالطبع، لكن أيضاً شخصيات مما يسمى تحالف الوسط واليمين التقليدي أو «الكتلة المركزية». لكن قيام حكومة «مؤقتة» تعمل على إقرار «التدابير الضرورية» لمسيرة الدولة يفترض فرط تحالف اليسار وتحديداً إبقاء «فرنسا الأبية» خارجاً وإقناع الحزب الاشتراكي والخضر بقبوله. والحال، أن تطوراً كهذا يعني أن الحزب الاشتراكي يخاطر بخسارة الكثير من مقاعده في الانتخابات القادمة واتهامه بـ«بيع التحالف مقابل مقاعد وزارية».

يبدو أن ماكرون في عالم آخر؛ إذ تفيد معلومات متداولة بأنه يفكر بتكليف وزير الدفاع سيباستيان لو كورنو المقرب منه تشكيل الحكومة باعتبار أن أمراً كهذا يمكن أن يحظى بقبول مارين لوبن التي يقيم معها لوكورنو علاقات «طبيعية»؛ ما يعني ركوب مخاطر جديدة شبيهة بما عرفه بارنييه. أما المرشح الآخر فهو فرنسوا بايرو، رئيس حزب «الحركة الديمقراطية» والسياسي الوسطي المخضرم و«عرَّاب» ماكرون، وقد طرح اسمه المرة الماضية. ويقترب هذا الطرح مما يقترحه يانيك جادو مع اختلاف جوهري أن الأول يريد رئيساً من اليسار...

سيناريوهات عدّة والكلمة الفصل فيها تعود للرئيس ماكرون. فهل يبادر سريعاً أم سيتريث بانتظار أن تنضج «الطبخة الوزارية» على نار هادئة؟