لا يمكن لروسيا أن تهرب من قدرها الجغرافيّ... لا يمكن لروسيا أن تهرب من تاريخ حروبها؛ إنْ كانت مع الشرق الآسيويّ في الغزوات المغوليّة، أو من الغرب بغزوات نابليون وهتلر. إنها الأمة القلقة. متطلّباتها الأمنية أكبر بكثير من إمكاناتها الماديّة. وصفها السيناتور الأميركي الراحل جون ماكين بأنها محطّة بنزين تتنكّر في دولة. وصفها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بأنها «قوّة كبرى؛ لكن إقليمية».
يمكن وصف تاريخ روسيا بأنه «صراع سيزيفي»؛ (أسطورة سيزيف من أكبر الأساطير اليونانية القديمة شهرة بسبب عقوبته في العالم السفلي)، فهي كانت، ولا تزال، مُضطرة إلى إثبات نفسها وانتزاع الشرعية والاعتراف بها من الغرب على أنها «قوّة عظمى». لذلك تلعب روسيا دائماً دور اللاعب «المُعطِّل - المُخَرْبِط (Disruptor)» على مسرح النظام العالميّ... تلعب لعبة «اللاتماثل (Asymmetry)» مع الغرب. تعبّئ الفراغ وتوجد حيث لا يوجد الغرب... هكذا هو دور شركة «فاغنر» في «القارة السوداء».
يتّسم تاريخ روسيا بأنه تاريخ الصراع مع الغرب، فنادراً ما كانت تتجّه شرقاً، إلا لخلق العازل الذي يحمي مركز الثقل السياسيّ؛ موسكو. وسّع إيفان الرهيب الوجود الروسيّ شرقاً حتى جبال الأورال، فخلق العازل شرقاً. وسّع بطرس الأكبر مساحة روسيا غرباً، فهزم الملك السويدي وبنى مدينة بطرسبرغ. تنكّر بطرس الأكبر في ثياب عادية ليزور أوروبا الغربية؛ فقط ليتعرّف على التكنولوجيا الغربيّة، خصوصاً في مجالَي الملاحة البحريّة وبناء السفن. أما كاترين الكبرى، فهي التي وسّعت نطاق الامبراطوريّة جنوباً باتجاه البحر الأسود، فسيطرت على شبه جزيرة القرم، وأسست للأسطول البحري الروسي هناك.
يُنسب لكاترين الكبرى أنها قالت: «لو عشت مائة سنة، لكنت أخضعت أوروبا، وضربت عنجهيّة الصين، وفتحت الباب واسعاً أمام التجارة مع الهند». فهل لا تزال روسيا اليوم ضمن هذا النطاق الجغرافيّ؟ بالطبع.
خلال «اللعبة الكبرى (Great Game)» في آسيا الوسطى مع بريطانيا، اتُّفق على خلق منطقة عازلة بين الإمبراطوريتيّن، فكان «خطّ مورتمور دوراند»، الدبلوماسيّ البريطانيّ، الأمر الذي خلق ما تسمى اليوم دولة أفغانستان.
في كلّ نظام عالميّ مُستحدث، تسعى روسيا إلى حجز مكانها على أنها قوّة عظمى. شكّلت فترة الحرب الباردة أهمّ مرحلة لروسيا بوصفها قوّة عظمى؛ ففي هذه المرحلة كانت روسيا الندّ الأساسي لـ«العم سام» في نظام عالمي ثنائيّ القطب. كما شكّلت مرحلة الحرب الباردة الامتداد الجغرافيّ الأقصى لروسيا. لكن قدر روسيا الجغرافيّ يترنّح بين الامتداد والانحسار، فعند كل تمدّد تتسبب روسيا في مشكلات جيوسياسيّة لأوروبا، كما عند كل انحسار، خصوصاً أن موجة الانحسار تكون عادة مؤقتة؛ لأنها تشكّل مرحلة الاستعداد للتمدد مجدّداً، كما موج البحر.
إذا أردت أن تعرف السلوك الحالي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فما عليك إلا قراءة نص خطابه في «المؤتمر الأمني» في ميونيخ عام 2007. شكّل هذا الخطاب خريطة طريق للمخطّط الجيوسياسيّ للرئيس بوتين. رفض الهيمنة الأميركية الأحاديّة على العالم، وانتقد استعمال أميركا القوّة المفرطة؛ «الأمر الذي جعل العالم أقلّ أمناً». وختم بالقول إن القيم الأميركيّة ليست كونيّة. ذهب بوتين بعدها إلى حرب محدودة في جورجيا. بعدها جرّب عسكره وعتاده في الحرب السوريّة. لكن التحوّل الأكبر كان في غزوه أوكرانيا. عاقبه الغرب، وعزله، وساعد أوكرانيا على الصمود، كما وسّع حلف «الناتو» ليضيق الخناق أكثر حول روسيا.
الشرق مقابل الغرب
يتّبع حالياً الرئيس بوتين استراتيجيّة «إلى الشرق دُرْ (Look East Strategy)». لكن الأسس والبنى التحتيّة لهذه الاستراتيجيّة ليست جاهزة للتنفيذ. ويعود هذا الأمر إلى سببين أساسيّين؛ هما: العائق الجغرافيّ. وتاريخ روسيا الذي ارتبط دائماً بأوروبا. بعد الحرب الأوكرانيّة، سُدّت الأبواب أمام بوتين وفي كل الأبعاد باتّجاه الغرب. تمدّد «الناتو» فأصبح بحر البلطيق بحيرة خارجة عن السيطرة الروسيّة. هذا عدا ديناميكيّة الحرب في البحر الأسود، في ظلّ الحرب الأوكرانية على البحرية الروسيّة هناك. كما أن البحر الأسود هو أصلاً بحيرة يطوّقها حلف «الناتو» ويتحكّم في مضائقها عبر تركيا.
فها هو بوتين في «منظّمة شنغهاي للتعاون»؛ المنظمة التي ابتكرتها وتديرها الصين، وهي منظّمة دولية، ذات طابع سياسيّ، وأمنيّ، واقتصاديّ. زاد التبادل التجاريّ بين الصين وروسيا، فوصل إلى نحو 240 مليار دولار العام الماضي. هذا عدا العلاقات التاريخيّة بين الهند وروسيا. فهل بدأنا نرى تشكّل المثلث الجيوسياسيّ، المؤلّف من روسيا، والهند والصين؟ وهل يمكن لهذا المثلث أن يكون البديل لمشروع الرئيس الصينيّ «الحزام والطريق»، خصوصاً أنه يحوي مركز الثقل العالمي؛ إن كان في البُعد البشريّ، أو حتى الاقتصادي؟
يحاول الرئيس بوتين مأسسة العلاقة مع الشرق، عبر بناء مشاريع كبيرة، تهدف كلّها إلى الربط والوصل مع الشرق، مقابل تجميد التواصل مع الغرب الأوروبيّ. فهناك، على سبيل المثال، مشروع «الكوريدور» من الشمال إلى الجنوب، الذي يربط روسيا بإيران ومنها إلى الهند. هذا عدا محاولات الربط البرّي بين الصين وروسيا في الشرق الروسي، ومحاولة التموضع البحري الروسي في البحر الأحمر عبر الطلب من السودان إنشاء قاعدة بحريّة.
التحدّيات
هل يمكن لروسيا أن تموّل هذه المشاريع؟ أو حتى إيران؟ وإذا موّلت الصين، فهل سيبقى الطابع الروسي مسيطراً على أيّ مشروع؟ كيف يمكن التوفيق بين الصين والهند، وهما العدوان اللدودان المتجاوران، والمتنافسان على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين؟ كيف يمكن للصين أن تتملّق دول آسيا الوسطى؛ وهي المنطقة التي تشكّل أحد أعمدة المُسلّمات الجيوسياسية لروسيا؟ هل يمكن لروسيا أن تلعب دور «لاعب جونيور» إلى جانب الصين في صراعها مع «العم سام»؛ وهي التي تتحدّى العالم للاعتراف بها على أنها قوّة عظمى؟ وماذا لو عادت الصين إلى المطالبة باسترداد أراضٍ حصلت عليها روسيا من الصين بالقوّة؟