ألمانيا: الولايات الشرقية تعيد اليمين المتطرف إلى الطليعة للمرة الأولى منذ هزيمة النازيين

المستشار الألماني يحذّر من التحالف مع «البديل من أجل ألمانيا»... والحزب المتطرف يتحدث عن «فوز تاريخي»

زعيما حزب «البديل من أجل ألمانيا» أليس فايدل وتينو شروبولا في مؤتمر صحافي في برلين غداة فوز حزبهما بانتخابات في الولايات الشرقية (رويترز)
زعيما حزب «البديل من أجل ألمانيا» أليس فايدل وتينو شروبولا في مؤتمر صحافي في برلين غداة فوز حزبهما بانتخابات في الولايات الشرقية (رويترز)
TT

ألمانيا: الولايات الشرقية تعيد اليمين المتطرف إلى الطليعة للمرة الأولى منذ هزيمة النازيين

زعيما حزب «البديل من أجل ألمانيا» أليس فايدل وتينو شروبولا في مؤتمر صحافي في برلين غداة فوز حزبهما بانتخابات في الولايات الشرقية (رويترز)
زعيما حزب «البديل من أجل ألمانيا» أليس فايدل وتينو شروبولا في مؤتمر صحافي في برلين غداة فوز حزبهما بانتخابات في الولايات الشرقية (رويترز)

استفاقت ألمانيا على آثار الزلال السياسي الآتي من ولاياتها الشرقية، التي أعادت أول حزب يميني متطرف منذ النازيين، إلى الطليعة. وفيما بدا صدى للماضي، فاز حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف بالانتخابات المحلية في ولاية تورينغن، التي كانت أول ولاية ألمانية أوصلت الحزب النازي إلى السلطة عام 1932.

وأصبح بيورن هوكيه، زعيم «البديل» في تورينغن والذي يعدّ من أكثر المتشددين داخل حزبه وأدين لاستخدامه شعارات نازية محظورة، هو الرجل المفضل لدى الناخبين في الولاية لتشكيل الحكومة. وفاز حزبه بقرابة 33 في المائة من الأصوات، بزيادة بنحو 10 في المائة عن الانتخابات السابقة عام 2019. لكن النتيجة تعني أنه إذا أراد الحكم، فسيتعين عليه التحالف مع أحزاب أخرى؛ وهو ما ترفضه كل الأحزاب، على الأقل حتى الآن.

زعيم «البديل من أجل ألمانيا» في ولاية تورينغن بيورن هوكيه الفائز في الانتخابات المحلية (رويترز)

وكرّر المستشار الألماني دعوته لكل الأحزاب لرفض التحالف مع «البديل من أجل ألمانيا» غداة صدور النتائج، التي وصفها بأنها «مقلقة» قائلاً: «على بلادنا ألا تعتاد على ذلك، ويجب ألا تعتاد عليه، فهو يضعف الاقتصاد ويقسم المجتمع ويدمر سمعة بلادنا».

وحل ثانياً في ولاية تورينغن الحزب «المسيحي الديمقراطي» اليميني الوسط الذي تنتمي إليه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وحصل على قرابة 24 في المائة من الأصوات.

وانهارت أصوات الحزب اليساري المتطرف «دي لينكا»، وريث الحزب الشيوعي عندما كانت الولاية تحت الحكم السوفياتي، والذي يقود الولاية منذ سنوات. وانخفضت نسبة أصواته من 31 في المائة في الانتخابات الماضية إلى 13 في المائة، وذلك بعد أن انقسم الحزب على نفسه مطلع العام. وانشقت عنه زعيمته السابقة، زارا فاغينشت، التي تتمتع بكاريزما وشعبية كبيرة في الولايات الشرقية، لتؤسس حزبها الذي يحمل اسمها، وتحصل على 16 في المائة من الأصوات.

واختلفت فاغينشت المقربة من روسيا، مع «دي لينكا» حول دعم أوكرانيا، وحول سياسته المتعلقة باللاجئين. ويعتمد حزبها اليوم سياسة محافظة تجاه اللاجئين ويدعو إلى تخفيض أعدادهم، كما يدعو إلى إنهاء وقف دعم كييف والتصالح مع موسكو.

وإذا أرادت الأحزاب إبقاء «البديل من أجل ألمانيا» خارج السلطة في تورينغن، سيتعين على ثلاثة منها، «المسيحي الديمقراطي» و«دي لينكا» و«تحالف زارا فاغينشت»، التحالف معاً لتشكيل حكومة رغم كل الخلافات الجوهرية بين الأحزاب الثلاثة، خصوصاً فيما يتعلق بروسيا. ويجد حزب ميركل نفسه في وضع صعب للغاية؛ إذ يتعين عليه مراجعة تعهداته السابقة بعدم التحالف مع حزب فاغينشت، وتخطي مطالباته له بالتعهد بوقف دعم الحرب في أوكرانيا، ومعارضة إرسال الولايات المتحدة صواريخ بعيدة المدى إلى ألمانيا العام المقبل. وبدت فاغينشت نفسها متحمسة لمشاركة حزبها في الحكومة، وقالت في مؤتمر صحافي عقدته في برلين غداة النتائج إنه «سيتعين على الحزب المسيحي الديمقراطي أن يخطو خطوات تقرّبه لنا لكي نتمكن من الوفاء بوعودنا للناخبين».

ورغم أن الحزبين يتفقان في مسألة الهجرة فهما يختلفان بشكل أساسي حول روسيا. ولكن المرشح الرئيس للحزب اليميني الوسطي في تورينغن، ماريو فويت، رأى أن «السياسة الدولية لا يتم اتخاذ قرارات فيها في تورينغن»، في إشارة إلى مطالب فاغينشت حول روسيا والصواريخ الأميركية، مضيفاً أن الحزب يجري مشاورات في كيفية المضي قدماً.

المستشار الألماني أولاف شولتس في زولينغن يشارك بتجمع في ذكرى ضحايا الاعتداء الإرهابي قبل أسبوع (رويترز)

وبكل الأحوال، وحتى مع بقاء «البديل لأجل ألمانيا» خارج السلطة في تورينغن، فهو بات يتمتع بأغلبية معارضة تمنحه قوى لرفض تسيير قوانين تتطلب ثلثي الأصوات، مثل تعيين القضاة ومناصب أخرى مدنية.

وفي ولاية ساكسونيا، ورغم عدم فوز «البديل لأجل ألمانيا» بالمرتبة الأولى، فإنه حصل على نسبة غير مسبوقة من الأصوات؛ إذ حصل على قرابة الـ31 في المائة في حين حل «المسيحي الديمقراطي» في الطليعة بفارق ضئيل وحصل على 32 في المائة من نسبة الأصوات. ونجحت فاغينشت كذلك بالحصول على 12 في المائة من نسبة الأصوات، في حين انخفضت نسبة حزبها السابق «دي لينكا» إلى قرابة 4 في المائة بانخفاض 6 نقاط عن الانتخابات الماضية.

ورغم تحقيق «البديل من أجل ألمانيا» نتائج غير مسبوقة في هذه الولاية كذلك، فمن غير المرجح أن يتغير الكثير فيها. ويحكم الولاية منذ سنوات الحزب المسيحي الديمقراطي بتحالفات مع حزب الخضر والحزب الاشتراكي، ويمكن أن يستمر هذه المرة بالمثل. ولا يتمتع «البديل من أجل ألمانيا» بأغلبية معارضة معطلة كما في ولاية تورينغن.

زارا فاغينشت زعيمة حزب يساري باسمها مؤيد لروسيا (إ.ب.أ)

وإذا كانت نتائج الانتخابات أظهرت تقدماً لم يعد مشكوكاً به لحزب «البديل من أجل ألمانيا»، وكذلك أكدت شعبية الحزب اليساري الجديد المؤيد لروسيا، فإن الأحزاب المشاركة في الحكومة كانت الخاسر الأكبر. ورغم أن الحزب الاشتراكي نجح بالبقاء في البرلمانين، فهو خسر أصواتاً مقارنة بالانتخابات الماضية، ولم يتمكن حزبا الخضر والليبراليين حتى من دخول برلمان تورينغن لأنهما حققا نسباً أقل من 5 في المائة، وهي النسبة التي يجب على الأحزاب الحصول عليها لدخول البرلمان.

واستغل «البديل من أجل ألمانيا» النتائج لدعوة الحكومة الألمانية للاستقالة، وقالت زعيمة الحزب، أليس فايدل، في مؤتمر صحافي ببرلين: «بعد النتائج التاريخية، يتعين على المستشار أولاف شولتس أن يستخلص العبر ويحزم حقائبه ويفرغ المقاعد مع شركائه في الحكومة». وأضافت أن «الناخبين يريدون حكومة مختلفة»، محذرة من «تجاهل الناخبين في تورينغن وساكسونيا». لا يتجاوز عدد الناخبين في تورينغن مليوناً و300 ألف ناخب، في حين يبلغ عدد الناخبين في ساكسونيا قرابة 3 ملايين من أصل 60 مليون ناخب من أنحاء البلاد.

واتهم زعيم الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، ماركوس رودر، الحكومة الفيدرالية في برلين بالمسؤولية عن صعود «البديل من أجل ألمانيا»، ووصف الانتخابات في الولايتين الشرقيتين بأنها «نقطة تحول في تاريخ ألمانيا ما بعد الحرب».

وما زال الكثير من سكان الولايات الشرقية يحملون أفكاراً معادية للولايات المتحدة وحلف «ناتو»، ومؤيد لروسيا. وقد زادت الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار نتيجة الحرب في أوكرانيا، من نقمة الكثيرين منهم على سياسات الحكومة المؤيدة لكييف. ويحمّل الكثير منهم كذلك اللاجئين والمهاجرين مسؤولية غياب الوظائف والضغوط على الخدمات العامة، علماً أن الولايات الشرقية التي كانت جزءاً من «جمهورية ألمانيا الديمقراطية» من عام 1949 وحتى عام 1990، ما زالت تعاني تبعات الوحدة اقتصادياً وما زالت أضعف وأفقر من الولايات الغربية.

ولم يثر فوز «البديل من أجل ألمانيا» قلق السياسيين فقط، بل عبّرت كذلك مجموعات دينية عن قلق من صعود اليمين المتطرف. وأصدر المجلس اليهودي المركزي بياناً قال: «هل يمكن أن نتعافى من هذه الضربة؟». ووصفت الرابطة المركزية للألمان الكاثوليك فوز «البديل» بأنه «مخيف» ويشكل «ضربة للديمقراطية».

وخرجت مظاهرات فور بدء صدور النتائج في ولاية تورينغن تدعو لرفض العودة إلى عام 1933 وإلى «حظر النازية» وحظر «البديل من أجل ألمانيا».

وتراقب المخابرات الألمانية الحزب المصنف يمينياً متطرفاً والذي تأسس عام 2013 وكسب تأييداً بشكل أساسي بسبب سياساته المعادية للمهاجرين واللاجئين. وخرجت فضائح كثيرة مؤخراً لأعضاء في الحزب، من بينها مشاركتهم في اجتماع سري ناقش ترحيل الملايين من المهاجرين والألمان من أصول مهاجرة. ومع ذلك، لم تؤثر أي من الفضائح على شعبيته، بل زادتها، على الأقل من الولايات الشرقية.


مقالات ذات صلة

قمة اليمين الأوروبي المتطرف تُبايع ترمب وتفتح النار على المؤسسات الأوروبية

أوروبا القادة الأوروبيون المشاركون في التجمع بمدريد (رويترز)

قمة اليمين الأوروبي المتطرف تُبايع ترمب وتفتح النار على المؤسسات الأوروبية

عرض اليمين الأوروبي المتطرف عضلاته هذا السبت في قمته الرابعة التي استضافتها العاصمة الإسبانية، وشارك فيها جميع القيادات اليمينية الأوروبية المتطرفة.

شوقي الريّس (مدريد)
أوروبا القادة الأوروبيون المشاركون في التجمع بمدريد (رويترز)

اليمين المتطرف الأوروبي: «لنجعل أوروبا عظيمة من جديد»

يشارك كثير من قادة اليمين المتطرف الأوروبي، يتصدّرهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وزعيمة أقصى اليمين الفرنسي مارين لوبن، في تجمع انطلق صباح السبت في مدريد

«الشرق الأوسط» (مدريد)
شؤون إقليمية عيناف زانغاوكر والدة الرهينة الإسرائيلي ماتان تحمل ملصقاً لابنها مكتوباً عليه «أعيدوه إلى المنزل الآن!» بينما يعقد أفراد عائلات الرهائن مؤتمراً صحافياً خارج مقر كيريا العسكري بتل أبيب 17 يناير 2025 (إ.ب.أ)

الإسرائيليون وخطة ترمب: مؤيدون داعمون... وواقعيون يحذرون من «أوهام»

رغم احتفاء اليمين الإسرائيلي بخطة الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، لتهجير أهل غزة؛ فإن أصواتاً عاقلة رأت فيها «مجرد أوهام لها تبعات خطيرة».

نظير مجلي (تل ابيب)
أوروبا فريدريش ميرتس، زعيم حزب «الاتحاد الديموقراطي المسيحي» يتحدث خلال جلسة للبرلمان الألماني (أ.ب)

«النواب» الألماني يرفض اقتراح قانون بشأن الهجرة مدعوماً من اليمين

صوّت النواب الألمان بأغلبية ضئيلة ضدّ اقتراح قانون لتقييد الهجرة تقدّم به المحافظون المعارضون وأيّده حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف.

«الشرق الأوسط» (برلين)
أوروبا إيلون ماسك خلال ظهوره عبر دائرة الفيديو أمام تجمع انتخابي لحزب «البديل من أجل ألمانيا» قبل أيام (د.ب.أ)

قلق في ألمانيا مع تزايد حظوظ «البديل» قبل أقل من شهر على الانتخابات

وصف المستشار الألماني أولاف شولتس دعم مالك منصة «إكس» إيلون ماسك لحزب «البديل لألمانيا» بأنه «مقرف»، في وقت تتزايد حظوظ الحزب مع اقتراب الانتخابات العامة.

راغدة بهنام (برلين)

الأوروبيون أمام النهاية «الترمبية» لحرب أوكرانيا: إحباط أو فرصة لصحوة متأخرة

أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف أمام مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (إ.ب.أ)
أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف أمام مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (إ.ب.أ)
TT

الأوروبيون أمام النهاية «الترمبية» لحرب أوكرانيا: إحباط أو فرصة لصحوة متأخرة

أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف أمام مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (إ.ب.أ)
أعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف أمام مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (إ.ب.أ)

عندما عبرت جحافل الجيش الروسي الحدود الأوكرانية في مثل هذا اليوم قبل 3 سنوات، شعر الأوروبيون، لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بأن المشروع الذي كانوا يبذلون جهوداً كبيرة لإرسائه على أسس الرفاه الاقتصادي والسلم الاجتماعي قد أصبح في دائرة الخطر. وأدركوا أن العطلة التي منحوها لأنفسهم بعيداً عن الحروب والنزاعات المسلحة طوال 7 عقود قد انتهت، وأن القوة الناعمة لم تعد كافية لدرء الحرائق عن حدود الواحة الأوروبية في زمن التحولات الجيوسياسية الكبرى. وعادوا ليكتشفوا من جديد أن أمنهم لا يزال مرهوناً بمظلة «الصديق الأميركي» وبمناوراته وحساباته المتقلبة.

رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا متحدثاً إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الخميس في بروكسل (د.ب.أ)

مع الإدارة الأميركية السابقة فتحت الحكومات الأوروبية خزائنها وأغدقت على أوكرانيا مساعدات مالية وعسكرية غير مسبوقة، وفرضت على روسيا كل أنواع العقوبات متجاوبةً مع رغبات واشنطن التي رفعت شعار منع موسكو من قطف ثمار مغامرتها مهما كان الثمن. لكن بعد 3 سنوات من الاستنزاف العسكري والاقتصادي، تبدو هذه الحرب بلا أفق، سوى توطينها لعقود على غرار عدد من الحروب والأزمات الإقليمية.

وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو (أ.ف.ب)

ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا والحكومات الأوروبية تُردد أن الوقت قد أزف لتحصين الاتحاد بذراع عسكرية تكون قادرة على حمايته من المطامع الإمبراطورية المتأصلة في العقل السياسي الروسي، ومن نزوات الذين يتعاقبون على سدة الكرملين. ووضعت المفوضية خطة مفصلة لسياسة دفاعية مشتركة تقوم على إزالة القيود القانونية المفروضة على معدلات الإنفاق العسكري، وعلى زيادة مخصصات الصناعات الحربية، وتوحيد تكنولوجياتها، وتنسيق المهام القيادية، وصولاً إلى تشكيل هيئة أركان أوروبية واحدة على رأس قوات مسلحة تحت راية الاتحاد وإمرة المجلس ومراقبة البرلمان الأوروبي.

أمين عام «الناتو» ووزير دفاع إستونيا ووزير الدفاع الأميركي خلال اجتماع مجموعة الاتصال الدفاعية الخاصة بأوكرانيا في مقر الحلف (أ.ب)

لكن بعد مرور 3 سنوات على نشوب هذه الحرب الأولى على حدود الاتحاد منذ 70 عاماً، ووصول شظاياها إلى عمق المشهد السياسي الأوروبي، بقيت هذه الخطة مجرد تصور تتبناه الدول الأعضاء بدرجات متفاوتة من الحماس والإرادة السياسية لتنفيذه، فيما راحت تتسع دائرة الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية التي ترفض دخول المشروع الأوروبي نفق سباق التسلح الذي يتعارض مع المبادئ والقيم المؤسسة للاتحاد.

الرئيسان الفرنسي والأوكراني في بروكسل يوم 18 ديسمبر 2024 (رويترز)

ورغم ذلك، بلغ مجموع الإنفاق العسكري في بلدان الاتحاد الأوروبي العام الماضي 326 مليار يورو، أي بزيادة قدرها 30 في المائة مقارنة مع عام 2021، عشيّة اندلاع الحرب في أوكرانيا. ويُمثّل هذا المبلغ 1.9 في المائة من إجمالي الناتج الأوروبي، أي دون نسبة الـ2 في المائة التي كان يطالب بها دونالد ترمب لعدم رفع الغطاء الأمني عن الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، التي لم تعد مطروحة الآن بعد أن رفعها إلى 5 في المائة، ليعود ويُلمّح بأنها قد لا تكون كافية.

رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال وصولها إلى اجتماع هيئة المفوضين الأسبوعي بمقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل (أرشيفية - أ.ب)

وتفيد بيانات وكالة الدفاع الأوروبية بأنه منذ مطلع عام 2022 خرج ما يزيد على 50 مليار دولار من خزائن الاتحاد والدول الأعضاء لتلبية الاحتياجات العسكرية والدفاعية للقوات المسلحة الأوكرانية، وتزويدها بالذخائر والصواريخ، وتدريب 70 ألف جندي أوكراني، وتمويل مشروعات أمنية مشتركة.

كما حصل الاتحاد الأوروبي، ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع، على الضوء الأخضر لاستخدام فوائد الأصول السيادية الروسية المجمدة من أجل دعم المجهود الحربي الأوكراني، وتجديد مخزون القوات المسلحة الأوكرانية بالصواريخ المتطورة والذخائر التي كانت نفذت من الترسانات الوطنية.

لكن هذا الدعم الأوروبي للمجهود الحربي الأوكراني كان دائماً يخضع لتوجيهات وحسابات الشريك الأميركي، الذي رغم تصميمه المعلن على منع موسكو من تحقيق أهدافها، ودفعه الحكومات الأوروبية إلى تمويل الصمود الأوكراني عسكرياً واقتصادياً، كان قد وضع خطوطاً حمراً لنوعية السلاح الذي يسمح بإرساله إلى أوكرانيا والمناطق الروسية التي يمكن أن يستهدفها.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مستقبلاً المستشار الألماني أولاف شولتس عند مدخل الإليزيه (رويترز)

هذه السياسة التي نهجتها واشنطن منذ بداية الحرب عمّقت الشعور لدى الأوروبيين بأن أهدافهم ومصالحهم لا تتطابق تماماً مع الأهداف والمصالح الأميركية، وأن الأوان قد فات للخروج من ورطة ما كانوا يملكون خيار عدم الوقوع فيها.

وبينما كان هذا الشعور يتنامى مع اقتراب بلوغ الحرب عامها الثالث، من غير أن تظهر على الجيش الروسي بوادر الإنهاك التي كانت تتبدّى بوضوح على القوات الأوكرانية، جاء سيّد البيت الأبيض الجديد ليصبّ الماء البارد على آمال الأوروبيين بنهاية «مشرّفة» لهذه الحرب، أو بأن تكون لهم كلمة في كيفية إنهائها، أو حتى مقعد حول طاولة المفاوضات التي يفترض أن تضع حدّاً لها.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مستقبلاً رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عند مدخل الإليزيه الاثنين (رويترز)

التصريحات التي توالت على ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا، وما عقبها من خطوات، كادت تنسي الأوروبيين طبول الحرب التجارية المعلنة منذ قبل جلوس الرئيس الأميركي الجديد. من المكالمة الهاتفية التي دامت ساعة ونصف الساعة بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين، ولم يعرف عنها الأوروبيون إلا من وسائل الإعلام، وما عقبها من تصريحات للرئيس الأميركي بأن «أوكرانيا قد تصبح روسية يوماً ما»، إلى تصريحات نائبه جيه دي فانس حول عدم واقعية استرداد أوكرانيا المقاطعات المحتلة، وما أكّده الموفد الخاص كيت كيلّوغ بأن أوروبا لن تكون على طاولة المفاوضات حول أوكرانيا، وجبة دسمة من الإحباط في الطبق الأوروبي، أو ربما فرصة أخيرة لصحوة أوروبية، وإن متأخرة.