​فرنسا على مفترق طرق... وماكرون قد يصبح «الخاسر الأكبر»

يواجه ضغوطاً لدعم «جبهة جمهورية» تحول دون وصول اليمين المتطرف إلى السلطة

ناخبان فرنسيان يدليان بصوتهما في مكتب اقتراع بلوزان السويسرية الأحد (إ.ب.أ)
ناخبان فرنسيان يدليان بصوتهما في مكتب اقتراع بلوزان السويسرية الأحد (إ.ب.أ)
TT

​فرنسا على مفترق طرق... وماكرون قد يصبح «الخاسر الأكبر»

ناخبان فرنسيان يدليان بصوتهما في مكتب اقتراع بلوزان السويسرية الأحد (إ.ب.أ)
ناخبان فرنسيان يدليان بصوتهما في مكتب اقتراع بلوزان السويسرية الأحد (إ.ب.أ)

منذ الثامنة صباحاً، بدأ الناخبون الفرنسيون البالغ عددهم 49.5 مليون شخص بالتدفق بكثافة غير معهودة على مراكز الاقتراع، في إطار الجولة الأولى من الانتخابات لاختيار نوابهم الـ577 من بين 4011 مرشحاً، وذلك لولاية من خمس سنوات.

وأفادت وزارة الداخلية أن نسبة المشاركة حتى الخامسة بعد الظهر وصلت إلى 59.39 في المائة، بزيادة 20 نقطة عما كانت عليه في انتخابات العام 2022 في الفترة عينها. وقياساً لنسب الظهيرة، فإنه من المنتظر أن تتخطى المشاركة نسبة 67 في المائة مع إغلاق مكاتب الاقتراع في العاصمة باريس والمدن الكبرى عند الثامنة مساء.

وتدل هذه النسب على أن الرهان على تعبئة شعبية واسعة من أجل انتخابات استثنائية كان صائباً، الأمر الذي تفسره التحديات الكبرى التي ستفرض نفسها على البلاد، فيما ملامح المستقبل القريب تبدو غامضة.

ماكرون الخاسر الأكبر

وبانتظار الجولة الثانية الأحد المقبل، التي سترسم صورة المجلس النيابي الجديد والتوازنات السياسية الجديدة، يبدو واضحاً، اليوم، أن التحدي الأكبر سيواجهه «ائتلاف الوسط» المشكل من الأحزاب الثلاثة «تجدد»، و«الحركة الديمقراطية»، و«هورايزون» الداعمة للرئيس إيمانويل ماكرون وعهده.

ماكرون برفقة مواطنيه خارج مكتب اقتراع في منتجع «لو توكيه» (أ.ف.ب)

ذلك أن الائتلاف المذكور يظهر بصورة «الحلقة الأضعف» من بين المجموعات السياسية الثلاث؛ اليمين المتطرف الممثل بـ«التجمع الوطني»، وتحالف أحزاب اليسار والخضر تحت اسم «الجبهة الشعبية الجديدة» وائتلاف الوسط، الذي يهيمن على الانتخابات المبكرة. وعمد ماكرون إلى حل البرلمان ليل التاسع من يونيو (حزيران)، عقب النتائج الهزيلة التي حصل عليها داعموه في الانتخابات الأوروبية. وثمة إجماع داخل الطبقة السياسية على أن الرئيس الفرنسي «ارتكب خطأً سياسياً من الحجم الكبير» بإقدامه على حل البرلمان، وأنه قام برهانات خاسرة سيكون هو وحزبه أول من سيدفع ثمنها.

الدليل على ذلك «وقبل أن تظهر نتائج الجولة الأولى من الانتخابات»، التراجع الكبير للوائح «ائتلاف الوسط»، والنسبة غير المسبوقة من أصوات الناخبين التي ترجح استطلاعات الرأي منذ ثلاثة أسابيع أن يحصل عليها اليمين المتطرف. وذهب الرئيس السابق فرنسوا هولاند إلى أن «الماكرونية السياسية قد انتهت».

انتقادات حادة

ونقلت صحيفة «لو موند» المستقلة عن مستشاره الإعلامي السابق غاسبار غانتزر قوله: إن «التاريخ سيحاكم ماكرون، وإذا فاز اليمين المتطرف بالسلطة، فسيعده المسؤول عن ذلك». ولم تتردد مجلة «دير شبيغل» الألمانية، الأسبوع الماضي في تقديم تحليل تحت عنوان: «هل ستسقط فرنسا؟ كيف قدم إيمانويل ماكرون فرنسا إلى اليمين المتطرف؟». وسبق للمستشار أولاف شولتس ولغيره من القادة الأوروبيين التعبير عن قلقهم إزاء الوضع السياسي في فرنسا وما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية، التي من شأنها قلب التوازنات السياسية في الاتحاد الأوروبي، وتهشيم العلاقة الخاصة القائمة بين باريس وبرلين، لا بل تهديد المشروع الأوروبي.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف بعد خروجها من مركز الاقتراع في مدينة هينان - بوفون شمال البلاد الأحد (رويترز)

أما إدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق، ومن أكثر الشخصيات السياسية شعبية في فرنسا، فقد اتهم ماكرون بـ«القضاء على الأكثرية»، ووصف حل البرلمان بـ«العمل المتهور»، ما يعني أن رئيس الجمهورية «منقطع» عن حقيقة الواقع السياسي الذي تعيشه فرنسا، وعن انفراط عقد الفرنسيين الذين مشوا في مشروعه السياسي وساعدوه مرتين في 2017 و2022 في هزيمة مارين لوبان، مرشحة اليمين التي لم تتردد في تأكيد أن حزبها، «التجمع الوطني»، «جاهز لتسلم السلطة».

الوعد المنسي

إذا صدقت استطلاعات الرأي وفاز اليمين المتطرف بالأكثرية النيابية «289 نائباً»، أو اقترب منها إلى حد بعيد بحيث يحصل على الأكثرية النسبية، فلن يكون من مفر لماكرون سوى استدعاء رئيس الحزب المذكور لتشكيل حكومة جديدة، بحيث تصبح السلطة التنفيذية في فرنسا برأسين في إطار ما يسمى «المساكنة» بين رئيس للجمهورية من فريق، وحكومة من فريق آخر.

والمفارقة أن ماكرون وعد الفرنسيين منذ انتخابه الأول أن هدفه السياسي الأول هو محاربة اليمين المتطرف، ومنعه من حكم البلاد. لكن النتيجة جاءت مغايرة للواقع تماماً، إذ بعد سبع سنوات على رأس الجمهورية، ها هو يقدم السلطة على «طبق من فضة» لليمين المتطرف الواصل إليها مع برنامج شعبوي وخطط تتعارض مع الدستور الفرنسي، ولا تحترم القيم المعمول بها في إطار الجمهورية.

جوردان بارديلا رئيس حزب «التجمع الوطني» قد يكون على بُعد خطوات من رئاسة الحكومة (أ.ف.ب)

ومن الأمثلة على ذلك، حرمان مزدوجي الجنسية من تسلم وظائف «حساسة أو استراتيجية»، ما يعني عملياً التشكيك في ولائهم للجمهورية الفرنسية، ونسف مبدأ المساواة بين الفرنسيين. كذلك، يريد اليمين المتطرف تنظيم استفتاء شعبي لحرمان المولودين على الأراضي الفرنسية من الجنسية، وهو مبدأ معمول به منذ عام 1851. ورغم أن «التجمع الوطني» عمد إلى «تهذيب» برنامجه الانتخابي، فإن وصوله إلى السلطة يثير مخاوف داخل الأوساط الإعلامية والثقافية والنقابية والدبلوماسية.

السد المنيع

ثمة سبيل وحيد لمنع اليمين المتطرف من الإمساك بتلابيب السلطة، وذلك من خلال تشكيل ما يسمى في فرنسا «الجبهة الجمهورية» التي يمكن أن تضم كافة الأطراف التي تتبنى قيم الجمهورية من حرية وإخاء ومساواة، والتقاليد المتبعة والرغبة في العيش المشترك. وثمة سابقة «تاريخية» برزت في عام 2002 عندما تشكلت هذه الجبهة لمنع جان ماري لوبان، والد المرشحة الرئاسية مارين لوبان وزعيمة اليمين المتطرف، من الفوز في الانتخابات الرئاسية، حيث تنافس في جولتها الحاسمة مع الرئيس اليميني الأسبق جاك شيراك. وكانت النتيجة احتواء لوبان الأب، حيث فاز شيراك بنسبة 80 في المائة من الأصوات، وهي نسبة لم يحصل عليها أي رئيس آخر في الجمهورية الخامسة، بمن فيهم مؤسسها الجنرال شارل ديغول. بيد أن أمراً مثل هذا مرهون بما سيقرره الرئيس ماكرون و«ائتلاف الوسط» بالنظر إلى أنه سيحل في كثير من الدوائر الانتخابية في المرتبة الثالثة.

غابريال أتال رئيس الحكومة الحالي يلتقط صورة «سيلفي» في ضاحية «فان» جنوب باريس (رويترز)

وينص القانون الانتخابي على أن أي مرشح يحصل على نسبة 12.5 في المائة من أصوات الناخبين في الدائرة التي يترشح فيها من حقه الاستمرار في التنافس في الجولة الثانية. لكن حظوظه بالفوز ستكون عملياً معدومة. لكنه بالمقابل، يستطيع تجيير أصواته إما إلى مرشح اليمين المتطرف، وإما إلى «الجبهة الشعبية الجديدة».

من هنا تأتي أهمية «التعليمات» الصادرة عن الائتلاف، وعن المرشحين أنفسهم، للناخبين. لكن الصعوبة تكمن في أن غابريال أتال، رئيس الحكومة، الذي قاد الحملة الانتخابية عن جبهة ماكرون، بنى دعايته السياسية على «التحذير والتخويف من مخاطر الأطراف»، بحيث إن وصول أي من المجموعتين إلى السلطة سيعني «دفع البلاد إلى الإفلاس والفوضى».

جان لوك ميلونشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» لحظة اقتراعه في أحد مراكز العاصمة (أ.ف.ب)

وبكلام آخر، فإن أتال يساوي بين المجموعتين، علماً بأن اليسار هو من ضمن لماكرون الفوز بالانتخابات الرئاسية مرتين متتاليتين، وبالتالي سيعدّ رفض ائتلافه الدعوة للاقتراع ضد اليمين المتطرف بمثابة «خيانة»؛ لذا ستكون الأيام القليلة الفاصلة عن الجولة الثانية حاسمة، إن لم يكن لاحتواء تقدم «التجمع الوطني»، فعلى الأقل لمنعه من الحصول على الأكثرية المطلقة.

وفي رسالة جماعية، نشرتها صحيفة «لو موند» يوم 25 يونيو، دعت 220 شخصية سياسية ومن المجتمع المدني الماكرونيين إلى التوقيع على اتفاق مبدئي مسبق للتنازل المتبادل بين جبهة اليسار والائتلاف الماكروني، وتمكين المرشح المتمتع بأكبر فرصة من منازلة اليمين المتطرف.

ووجهت مارتين أوبري، الوزيرة السابقة والشخصية المرموقة المنتمية إلى «الحزب الاشتراكي»، ورئيسة بلدية مدينة ليل (شمال)، رسالة إلى الرئيس ماكرون على منصة «إكس» جاء فيها: «السيد الرئيس، أنت غير قادر على رفض مبدأ التنازل الذي سمح لك بالفوز بولايتين رئاسيتين، وإلا فإنك تخاطر عن وعي بتمكين التجمع الوطني من الحصول على الأكثرية المطلقة».

هل سيستمع ماكرون لهذه النداءات الموجهة إليه؟ السؤال مطروح بقوة وله تبعات جذرية على مستقبل فرنسا، وعلى صورتها في أوروبا والعالم، وعلى دورها في الأزمات؛ أكانت حرب أوكرانيا أو غزة أو مستقبل الاتحاد الأوروبي. فالصوت الغالب يساراً هو التنازل للمرشح الأكثر أهلية، والهدف تحصين «السد المنيع» بوجه اليمين المتطرف. بيد أن المثل الشعبي يقول: «يد واحدة لا تصفق».

برنامج «التجمع الوطني»

منذ اليوم، تدور تساؤلات حول ما سيعمد اليمين المتطرف إلى تنفيذه من برنامجه الانتخابي الراديكالي، ولكن أيضاً بشأن تعامل الخارج معه وتأثيرات ذلك كله على سياسة فرنسا الخارجية؛ من الحرب في أوكرانيا، ومستقبل الترسانة النووية الفرنسية والجهة التي تديرها، والعلاقة مع روسيا والولايات المتحدة الأميركية ودور ونفوذ فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي وفي مجلس الأمن الدولي وبشأن أزمات العالم كله، خصوصاً أن باريس تمتلك ثالث أكبر شبكة دبلوماسية في العالم.

جوردان بارديلا ومارين لوبان خلال إطلاق حملة «التجمع الوطني» للانتخابات الأوروبية في مرسيليا (رويترز)

وفي الجانبين الاقتصادي والمالي، برزت في الأسابيع الثلاثة الماضية علامات مقلقة لجهة ارتفاع قيمة الفوائد على الديون الفرنسية، والوهن الذي أصاب العملة الأوروبية الموحدة (اليورو). كذلك، برزت تساؤلات حول السياسة الاقتصادية لفرنسا التي كان عنوانها الليبرالية وتشجيع الاستثمار وخفض الضرائب على الشركات.

وأخيراً، ورغم التحول في طروحات «التجمع الوطني»، وهو الاسم الجديد لـ«الجبهة الوطنية» التي كان جان ماري لوبان أحد مؤسسيها، فما زالت العديد من المخاوف تنتاب شرائح من الفرنسيين بسبب رؤيته المتسمة بالعنصرية ومعاداة الأجانب والسامية والجالية المسلمة، فضلاً عن علاقاته مع روسيا.


مقالات ذات صلة

فرنسا: غموض وتوتر قبل 3 أيام من الجولة الثانية للانتخابات التشريعية

أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يغادر مركز الاقتراع أثناء زيارته له للتصويت في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية المبكرة في لو توكيه باري بلاج 30 يونيو 2024 (رويترز)

فرنسا: غموض وتوتر قبل 3 أيام من الجولة الثانية للانتخابات التشريعية

قبل ثلاثة أيام من الدورة الثانية للانتخابات التشريعية الفرنسية التي شهدت جولتها الأولى اختراقاً غير مسبوق لليمين المتطرف، يبقى عدم اليقين سيد الموقف.

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خلال لقائه أخيراً بكبير مستشاري الرئيس الأميركي آموس هوكستين (د.ب.أ)

هوكستين في باريس لتنسيق جهود خفض التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»

يسعى المبعوث الأميركي آموس هوكستين في باريس إلى «ترجمة توافق الرئيسين بايدن وماكرون بشأن إقامة آلية تنسيق للمناقشات مع إسرائيل ولبنان إلى واقع».

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس (إ.ب.أ)

المستشار الألماني: أتبادل الرسائل النصية مع ماكرون يومياً

أعرب المستشار الألماني أولاف شولتس عن دعمه للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد الهزيمة الساحقة في الانتخابات البرلمانية.

«الشرق الأوسط» (برلين )
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (رويترز)

ماكرون يحضّ نتنياهو على «منع اشتعال» الوضع بين إسرائيل و«حزب الله»

شدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اليوم الثلاثاء على «الضرورة المطلقة لمنع اشتعال» الوضع بين إسرائيل و«حزب الله» في لبنان.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا فرنسي يوزع منشورات انتخابية لليمين المتطرف الثلاثاء (أ.ف.ب)

انسحابات متبادلة للمرشحين لمنع وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في فرنسا

مجموعة ماكرون والجبهة الشعبية الجديدة تسعيان لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى السلطة من خلال انسحابات المرشحين المتبادلة.

ميشال أبونجم (باريس)

لماذا لا ترى روسيا وأوكرانيا تركيا وسيطاً مناسباً لإنهاء الحرب بينهما؟

إردوغان التقى بوتين في آستانة على هامش قمة شنغهاي الأربعاء بعد فترة من انقطاع اللقاءات المباشرة بينهما (الرئاسة التركية)
إردوغان التقى بوتين في آستانة على هامش قمة شنغهاي الأربعاء بعد فترة من انقطاع اللقاءات المباشرة بينهما (الرئاسة التركية)
TT

لماذا لا ترى روسيا وأوكرانيا تركيا وسيطاً مناسباً لإنهاء الحرب بينهما؟

إردوغان التقى بوتين في آستانة على هامش قمة شنغهاي الأربعاء بعد فترة من انقطاع اللقاءات المباشرة بينهما (الرئاسة التركية)
إردوغان التقى بوتين في آستانة على هامش قمة شنغهاي الأربعاء بعد فترة من انقطاع اللقاءات المباشرة بينهما (الرئاسة التركية)

جاء رفض روسيا عرض الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالوساطة مع أوكرانيا ليثير التساؤلات مجدداً عن السبب وراء عدم قبول كل من موسكو وكييف قيام تركيا بدور الوسيط لإنهاء الحرب وإحلال السلام بينهما. وبعد ساعات من لقاء إردوغان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة منظمة شنعهاي للتنمية في آستانة، أعلن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، أن «إردوغان لا يمكنه القيام بدور الوسيط في الصراع الروسي الأوكراني». وأضاف بيسكوف، رداً على سؤال في مقابلة مع تلفزيون روسي، ليل الأربعاء - الخميس، عما إذا كان بإمكان إردوغان الاضطلاع بهذا الدور، بالقول: «لا، هذا غير ممكن».

واقترح إردوغان على بوتين، خلال لقائهما في آستانة، أن تساعد تركيا في إنهاء الحرب الأوكرانية الروسية. ونقلت الرئاسة التركية عن إردوغان قوله، خلال حديثه مع بوتين، إنه يعتقد أنه من الممكن التوصل إلى سلام عادل يلائم الجانبين.

جانب من مباحثات إردوغان وبوتين في آستانة الأربعاء (الرئاسة التركية)

وسبق لتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أن استضافت جولة مفاوضات ولقاء غير رسمي بين الجانبين الروسي والأوكراني في إسطنبول وأنطاليا عام 2022، ولم تتوصلا إلى أي تقدم بشأن وقف الحرب بين الجانبين.

ونجحت وساطة تركيا مع «الأمم المتحدة» في التوصل إلى اتفاقية الممر الآمن للحبوب في البحر الأسود، التي وقّعت في إسطنبول في 22 يوليو (تموز) 2022، والتي سمحت بخروج 33 مليون طن من الحبوب من أوكرانيا، لكنها توقفت بعد عام واحد لانسحاب روسيا منها، بسبب عدم تنفيذ الشق الخاص بها في الاتفاقية.

كما استضافت أنقرة في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 لقاء جمع مدير هيئة المخابرات الخارجية الروسية، سيرغي ناريشكين، ومدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ويليام بيرنز، لم يتم الكشف عما دار فيه، لكن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان وصفه، في مقابلة تلفزيونية مؤخراً، بأنه كان «تاريخياً».

وكان بوتين قد أكد خلاله لقائه وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في موسكو في 11 يونيو (حزيران) الماضي، أن موسكو تبدي اهتماماً بمبادرات تركيا، بما في ذلك ما يتعلق بأمن البحر الأسود، وندرس بعناية وباحترام كبير جميع مبادرات الجمهورية التركية في هذا المسار، وسنبقى على اتصال معها. ولفت بوتين إلى الدور الذي لعبه إردوغان في إبرام «صفقة الحبوب» في البحر الأسود، قائلاً: «ليس خطأنا. إنه لسوء الحظ لم يتم تمديدها. مبادرات أنقرة اللاحقة رفضها الجانب الأوكراني أيضاً في اللحظة الأخيرة».

جانب من مراسم توقيع اتفاقية الحبوب في إسطنبول عام 2022 (أرشيفية)

بدوره، أكد فيدان أن «تركيا مصممة على مواصلة جميع أنشطة الوساطة الممكنة بين روسيا وأوكرانيا». وتسعى تركيا إلى عقد مؤتمر سلام حول أوكرانيا بصيغة منصة إسطنبول، وأجرت اتصالات مع الجانبين الروسي والأوكراني خلال الأسابيع الأخيرة لهذا الغرض.

وعلّق هاكان على لقائه بوتين، على هامش اجتماعات وزراء خارجية دول مجموعة «بريكس»، في 11 يونيو، قائلاً إن هناك رسائل بعث بها الرئيس إردوغان، منها أن قضية أوكرانيا مهمة للغاية، و«بحثنا أين نقف، وأكدنا أن تكلفة الحرب المستمرة على المنطقة والعالم مرتفعة للغاية، والأسوأ من ذلك أن هذا الخطر قد ينمو وينتشر جغرافياً ومنهجياً، وأن الأسلحة النووية قد تأتي إلى الواجهة، وقد رأيت هذا خلال رحلتي إلى الصين وروسيا».

وأضاف فيدان: «نرى دائماً أساساً لعملية التفاوض، من الضروري مساعدته قليلاً، هناك انتخابات حاسمة في أوروبا والولايات المتحدة، وهناك ميل للانتظار قليلاً، ولا يريد كل طرف أن يظهر ضعفاً في موقفه بأن يكون أول من ينادي بالسلام والتفاوض والحوار».

وبحسب مراقبين، لا ترى روسيا في تركيا وسيطاً مناسباً مع أوكرانيا، بسبب العلاقات بينهما في المجال العسكري، وتزويدها بالطائرات المسيرة، والتخطيط لإنشاء مصنع بطارياتها المقاتلة الجديدة «كآن» في أوكرانيا، فضلاً عن تأييدها انضمامها للناتو.

زيلينسكي يتوسط قادة «آزوف» (أ.ب)

وتغاضت موسكو ظاهرياً عن إخلال أنقرة باتفاق تبادل الأسرى بين روسيا وأوكرانيا، وقيامها بتسليم 5 من قادة كتيبة «آزوف» للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي خلال زيارته تركيا العام الماضي، على الرغم من الاتفاق على عدم تسليمهم إلا بعد نهاية الحرب.

وعلى الرغم من الغضب الذي شعرت به روسيا، التي تعدّ «آزوف» جماعة إرهابية، فإنها أعلنت أنها تقدر أن تركيا دولة عضو بالناتو، وأن هناك ضغوطاً عليها.

لكن الغضب الروسي انعكس في عدم إتمام بوتين زيارة لتركيا تحدثت عنها أنقرة كثيراً، وأعلنت أكثر من موعد لقيامه بها، كان الكرملين ينفيه في كل مرة، إلى أن التقى إردوغان بوتين، الأربعاء، ودعاه مجدداً لزيارة تركيا.

على الجانب الآخر، فإن أوكرانيا ذاتها لا ترى في تركيا وسيطاً مناسباً مع روسيا، وفي أبريل (نيسان) الماضي، وقبل فترة من انعقاد مؤتمر السلام الدولي حول أوكرانيا في سويسرا، قال زيلينسكي إن تركيا لا تستطيع التوسط، وإن دورها كوسيط في الحرب الروسية الأوكرانية «ليس كافياً» بالنسبة لأوكرانيا. وأضاف زيلينسكي أنه «ممتن» للدعم ورغبة الوساطة التي أبداها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، لكن تركيا التي تربطها علاقات قوية مع روسيا لديها مصالح أخرى.

وفي إشارة إلى علاقات تركيا الاقتصادية مع روسيا، قال زيلينسكي إن أنقرة وحدها لن تكون كافية للوساطة.

وسعت أنقرة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا إلى الحفاظ على موقف متوازن بين الدولتين الجارتين في منطقة البحر الأسود، ورفضت الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، فيما أكدت تمسكها بوحدة وسيادة أوكرانيا.