«جبهة شعبية» انتخابية لليسار الفرنسي تستفز المؤسسات اليهودية

ماكرون يرفض الاستقالة مهما تكن نتيجة الاستحقاق النيابي

الرئيس إيمانويل ماكرون يثق بقدرته على الفوز في الانتخابات النيابية (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون يثق بقدرته على الفوز في الانتخابات النيابية (أ.ف.ب)
TT

«جبهة شعبية» انتخابية لليسار الفرنسي تستفز المؤسسات اليهودية

الرئيس إيمانويل ماكرون يثق بقدرته على الفوز في الانتخابات النيابية (أ.ف.ب)
الرئيس إيمانويل ماكرون يثق بقدرته على الفوز في الانتخابات النيابية (أ.ف.ب)

عجلت المؤسسات اليهودية في فرنسا في فتح النار على الاتفاق السريع الذي توصلت إليه أحزاب اليسار من أجل تشكيل «جبهة شعبية» تخوض الانتخابات النيابية، المقررة يومي 30 يونيو (حزيران) الحالي و7 يوليو (تموز) المقبل، وأعلنت حرباً لا هوادة فيها ضد أحد المكونات الجديدة في هذه الجبهة؛ وهو حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون الذي ما فتئ يندد بـ«حرب الإبادة» التي تقوم بها إسرائيل ضد غزة. ودرجت هذه المؤسسات على استهداف ميلونشون، وأيضاً المحامية الفرنسية ــ الفلسطينية ريما حسن التي انتخبت نائبة في البرلمان الأوروبي الجديد على لائحة «فرنسا الأبية».

ولادة «مبدئية» لـ«الجبهة الشعبية»

قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان أوجد حالة من «الهستيريا» السياسية، ودفع الأحزاب كافة إلى التعجيل في ترتيب أوراقها وتحالفاتها بسبب المهلة القصيرة للغاية التي تفصل فرنسا عن الاستحقاق الانتخابي الرئيسي، الذي سيرسم الصورة السياسية للبلاد للسنوات المقبلة.

والمسألة الرئيسية التي ستفرزها نتائج الانتخابات تتمثل في معرفة ما إذا كان اليمين المتطرف؛ ممثلاً في «التجمع الوطني»؛ الفائز الأكبر في الانتخابات الأوروبية، سيتمكن، بفضل الانتخابات البرلمانية، من الوصول إلى السلطة في أحد أهم البلدان داخل الاتحاد الأوروبي.

وكانت المفاجأة نجاح أحزاب اليسار الثلاثة («الاشتراكي» و«الشيوعي» و«فرنسا الأبية»)، ومعها حزب «الخضر»، في التوصل بسرعة إلى اتفاق «مبدئي» يقوم على خوض الانتخابات معاً تحت شعار «الجبهة الوطنية»، وعلى تقدم مرشحين باسمها في الدوائر الـ577 التي تتشكل منها الخريطة الانتخابية. وكان لافتاً أن الأحزاب الأربعة وضعت خلافاتها السياسية والشخصية جانباً؛ وهدفها قطع الطريق على وصول اليمين المتطرف إلى السلطة.

إريك سيوتي رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي يحدث صدمة باستعداده للتحالف مع اليمين المتطرف (أ.ف.ب)

بيد أن نجاح اليسار الأولي فتح عليه أبواب جهنم، وأثار خصومه بسبب الخطر الذي يشكله. فرئيس الحكومة، غبريال أتال، سارع إلى وصفه بـ«المثير للاشمئزاز»، مركزاً هجومه على «فرنسا الأبية» الذي اتهمه أكثر من مرة بأنه «معادٍ للسامية»، وبأنه لم يُدِن مرة هجمات «طوفان الأقصى». وأبدى أتال عتبه على «الحزب الاشتراكي» الذي يراه من ضمن «القوس الجمهوري»، والذي كان ماكرون يطمع في استمالة بعض نوابه للسير في ركابه. وكان الأخير يراهن على الخلافات الداخلية المستحكمة بين مكونات «الجبهة الشعبية» ليبعد خطرها.

وما فعله أتال فعلته المنظمات اليهودية مضاعفاً؛ إذ سارع جوناتان عارفي، رئيس «المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية» في فرنسا، إلى وصف الاتفاق، من خلال تغريدة على منصة «إكس»، بـ«العار»، مضيفاً أن «معاداة السامية (أي التهمة الملتصقة بميلونشون) لا تبدو سبباً كافياً لرفض الدخول في تحالف من أجل حفنة من المقاعد» النيابية.

وكتب «اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا» على المنصة نفسها أن «(الجبهة الشعبية) قامت في عام 1936 من أجل محاربة معاداة السامية، بينما (الجبهة الشعبية) في 2024 قامت على تحالف معيب مع (الجهات) المعادية للسامية».

أما «رابطة محاربة العنصرية ومحاربة السامية»، فقد اتهمت «الحزب الاشتراكي» بأنه، بتحالفه مع «فرنسا الأبية»، «تناسى تاريخه وثقافته السياسية ومعاركه للدفاع عن الإنسانوية». وفي السياق عينه، اتهم أرييل غولدمان، رئيسُ «الصندوق الاجتماعي اليهودي الموحد»، الاشتراكيين بالتحالف مع حزب مؤيد لـ«حماس».

جوردان باديلا رئيس حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف... هل يكون هو رئيس الحكومة الفرنسية المقبل؟ (أ.ف.ب)

خيبة ماكرون الثانية

لم ينجح رهان ماكرون الأول تمزق اليسار، وخسر (حتى اليوم) تعويله على انضمام نواب وشخصيات من اليمين التقليدي إلى «القوس الجمهوري» الذي يسعى لانبعاثه، ويمثل الأمل الوحيد بألا يصاب حزبه وحلفاؤه بهزيمة ماحقة في الانتخابات. وجاءت الصدمة الكهربائية من أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي، ووريث الديغولية التاريخية، الذي أعلن ظهر الثلاثاء، في مقابلة تلفزيونية، عن رغبته في إقامة «تحالف» مع اليمين المتطرف، قائلاً: «نحن بحاجة إلى التحالف، مع الحفاظ على هويتنا... مع حزب (التجمع الوطني) ومرشحيه». وبذلك يكون سيوتي قد داس على محرم احترمه جميع رؤساء الجمهورية اليمينيين وقادة الحزب في العقود الماضية. وفيما سارعت مارين لوبن، زعيمة حزب «التجمع الوطني»، إلى الترحيب بما أقدم عليه سيوتي، واصفة إياه بأنه «خيار شجاع»، انصبت الانتقادات عليه من داخل حزبه واتهمته بـ«خيانة» مبادئه، ودعا قادة كبار من داخله، مثل رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه، ورئيس مجموعته النيابية أوليفيه مارليكس، ورئيسه السابق لوران فوكييز، إلى استقالته أو إقالته. إلا إن الأخير رفض، معللاً رفضه بأنه يدين بمنصبه للمحازبين وليس لأحد غيرهم.

مارين لوبن زعيمة «التجمع الوطني» الفائز في الانتخابات الأوروبية: جاهزون لتسلم السلطة وقيادة البلاد (أ.ف.ب)

بعد أن أعلن ماكرون مساء الأحد حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات نيابية جديدة، كثرت التساؤلات عما سيقوم به في حال جاءت نتائجها مطابقة لنتائج الانتخابات الأوروبية، حيث حصل «التجمع الوطني» على ضعف ما حصل عليه تحالف ماكرون. ومن الفرضيات التي طرحت أن ماكرون قد يجد نفسه مضطراً إلى تقديم استقالته؛ لأن الاستفتاء الشعبي يكون قد بيّن أنه لم يعد يحظى بثقة مواطنيه. ولقطع دابر التأويلات ولتخفيف الضغوط عليه، سارع إلى التأكيد، في مقابلة نشرتها مجلة «لو فيغارو ماغازين»، أنه «مهما تكن نتيجة الانتخابات؛ فإنه لن يستقيل». وقد أمضى ماكرون عامين من ولايته الثانية وما زالت أمامه 3 أعوام.

وقال ماكرون في المقابلة: «ليس (التجمع الوطني) من يتولى كتابة الدستور. المؤسسات واضحة، ومنصب رئيس الجمهورية محفوظ مهما تكن نتائج الانتخابات. والدستور بالنسبة إليّ لا يمكن المساس به». وأعرب عن قدرته على الفوز في الانتخابات، نافياً أن يكون قد عمد إلى خيار غير عقلاني. وأضاف: «أقول للفرنسيين: لا تخافوا. اذهبوا واقترعوا». وكان مقرراً أن يعقد مؤتمراً صحافياً بعد ظهر الثلاثاء. إلا إنه أُجّل للأربعاء.

سلطة تنفيذية برأسين

تقول مصادر سياسية في باريس إنه في حال اكتسح اليمين المتطرف الانتخابات، فسيكون اضطرارياً دعوة رئيس «التجمع الوطني» وتكليفه تشكيل الوزارة الجديدة. وبذلك، سيكون على رأس السلطة التنفيذية مسؤولان؛ واحد في قصر الإليزيه (ماكرون)، وآخر في قصر ماتينيون (مقر رئيس الحكومة)؛ بحيث ستكثر مواضيع الاختلاف بينهما، خصوصاً أن لكل منهما رؤيته وسياسته. وفي أي حال، فإن سيناريو كهذا يعني أن الضعف السياسي سينهش رئيس الجمهورية في الداخل والخارج، وبالتالي؛ فإن موقع فرنسا وقدرتها على التأثير في الشؤون الأوروبية والعالمية سيتراجعان. كما أن ضبابية الوضع السياسي ستؤثر على صحة الاقتصاد، وبرز ذلك سريعاً مع تراجع «بورصة باريس» بعد الإعلان عن فوز اليمين المتطرف.


مقالات ذات صلة

«الملقّن» جهاز بايدن «المفضل» يثير مخاوف مانحين ومستشارين

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن يتحدث خلال حفل بالغرفة الشرقية للبيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن 3 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

«الملقّن» جهاز بايدن «المفضل» يثير مخاوف مانحين ومستشارين

أثار استخدام الرئيس الأميركي جو بايدن المتكرر للملقّن الآلي، حتى في الأماكن الخاصة مثل جمع التبرعات في منزل، مخاوف بين بعض المانحين والمراقبين.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)

​مساعٍ فرنسية لتشكيل تحالف حكومي واسع

مساعٍ استباقية لتشكيل تحالف واسع لحكم فرنسا حال فشل اليمين المتطرف في الحصول على الأكثرية المطلقة.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية بريسكا ثيفينو تلقي كلمة خلال مؤتمر صحافي بعد الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء في قصر الإليزيه الرئاسي في باريس 3 يوليو 2024 (أ.ف.ب)

المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية تتعرّض لهجوم خلال حملتها الانتخابية

في المرحلة الأخيرة قبل الانتخابات التشريعية الفرنسية المحتدمة في 7 يوليو، أبلغ العديد من المرشحين عن تعرضهم للهجوم أثناء حملتهم، ومنهم الناطقة الحكومية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
أوروبا يتوقع أن يفوز حزب «العمال» بقيادة كير ستارمر بغالبية مطلقة (أ.ب) play-circle 00:31

انتخابات بريطانيا: «العمّال» على أبواب «داونينغ ستريت»

دُعي 46 مليون ناخب إلى صناديق الاقتراع لتجديد مقاعد مجلس العموم المؤلف من 650 مقعداً، وسط توقعات بأن يفوز «العمال» بأغلبية ساحقة.

شؤون إقليمية إيران تختار بين الإصلاحي بزشكيان والمتشدد جليلي (رويترز)

إيران تختار رئيسها غداً... و«الاستخبارات» ترجح «المتشدد» جليلي

تجرى غداً الجمعة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في إيران بين مرشحين اثنين؛ «الإصلاحي» مسعود بزشكيان، و«المتشدد» سعيد جليلي.

«الشرق الأوسط» (لندن)

​مساعٍ فرنسية لتشكيل تحالف حكومي واسع

الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
TT

​مساعٍ فرنسية لتشكيل تحالف حكومي واسع

الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)
الرئيس إيمانويل ماكرون مقترعاً الأحد الماضي في منتجع «لو توكيه» (رويترز)

تدخل فرنسا، ليل الجمعة إلى السبت، في مرحلة صمت انتخابي لن ينتهي إلا في الثامنة من مساء الأحد مع بدء صدور النتائج النهائية لدورة الإعادة «الحاسمة» للانتخابات البرلمانية، التي ستدخل فرنسا في نفق سياسي مظلم دفعها إليه قرار الرئيس إيمانويل ماكرون، مساء التاسع من يونيو (حزيران) حل البرلمان. والسؤال الأول والرئيسي والذي تتطارحه الأحزاب كافة يدور حول معرفة ما إذا كان حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف سيحوز على الأكثرية المطلقة في البرلمان الجديد، بحيث يتولى حكم البلاد للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية أواسط القرن الماضي.

قيل الكثير حول خطأ الحسابات السياسية الذي ارتكبه ماكرون بحل البرلمان، فيما لم يكن هناك ما يفرض عليه ذلك، لا من جانب الدستور ولا من جانب التوازنات السياسية. ولأن اليمين المتطرف هيمن على الدورة الانتخابية الأولى بحصوله مع حلفائه على أكثر من 33 في المائة من الأصوات، وتبين للجميع أنه قادر، بفضل الدينامية السياسية التي يتمتع بها، على قلب الطاولة بوجه معارضيه، فإن الهم الأكبر للكتلتين السياسيتين اللتين برزتا «الجبهة الشعبية» الجديدة التي تضم أحزاب اليسار الثلاثة والخضر، و«ائتلاف الوسط» الحاضن للأحزاب الداعمة لماكرون وعهده، كان يدور حول كيفية احتواء اليمني المتطرف ومنعه من الحصول على 289 نائباً؛ وهو الرقم السحري الذي يمثل الأكثرية المطلقة في البرلمان.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف والمرشحة للرئاسة في الانتخابات المقبلة لدى وصولها الثلاثاء إلى مقر حزبها بباريس (أ.ف.ب)

والطريق إلى ذلك، عنوانها انسحاب مرشحي المجموعتين في الدوائر، حيث السباق يدور بين ثلاثة مرشحين؛ بينهم مرشح اليمين المتطرف، وذلك لمنع تشتت الأصوات وقطع الطريق على فوزه بالمقعد. وعمد كل «الجبهة الوطنية» و«ائتلاف الوسط» إلى سحب 220 مرشحاً، بحيث تراجعت المنافسة السياسية من 310 منافسات إلى 90 منافسة. والجهد الأكبر بذلته الجبهة اليسارية، فيما شهدت أوساط ائتلاف الوسط انقسامات ومساومات تركزت حول رفض كثير من المرشحين الانسحاب لصالح مرشحي حزب «فرنسا الأبية» الذي يتزعمه جان لوك ميلونشون، المتهم بالطوائفية ومعاداة السامية والسعي إلى إثارة الفوضى. أما حزب «الجمهوريين» اليميني التقليدي المنقسم على ذاته، بعد تحالف رئيسه إريك سيوتي مع «التجمع الوطني»، فهو تائه بين من يدعوه إلى البقاء داخل القوس الجمهوري، وبين من يشده للالتحاق باليمن المتطرف والاقتداء برئيسه.

القوس الجمهوري

بعد ثلاثة أسابيع من الاتهامات المتبادلة بين هاتين المجموعتين، تبدلت الأجواء وحلت محلها الدعوة إلى قيام «قوس جمهوري» يضم أوسع مروحة من الأحزاب يميناً ويساراً ووسطاً لمواجهة «خطر» التجمع الوطني. وسارعت مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف إلى اتهام ماكرون بوضع العِصي في دواليب الديمقراطية ومنع الناخبين الفرنسيين من التعبير بكامل حريتهم عن خياراتهم السياسية، وإعاقتهم عن طريق «إقامة أحلاف ظرفية مغايرة للطبيعة».

وبعد مهمة الانسحابات، برزت صعوبة أخرى تتناول صورة «اليوم التالي». ذلك أنه في حال عجز اليمين المتطرف عن الحصول على الأكثرية المطلقة، وبالتالي عن تسلم السلطة، فمن سيتولى إدارة البلاد؟

غابرييل أتال خارجاً من القصر الرئاسي بعد اجتماع مجلس الوزراء الأربعاء وتظهر وراءه وزيرة الثقافة (أ.ب)

سريعاً جداً، طرح مبدأ قيام حكومة تضم الأطراف كافة المندرجة تحت اسم «القوس الجمهوري»، بعيداً عن «التجمع الوطني»، وعن حزب «فرنسا الأبية» الذي يشكل القوة الضاربة داخل «الجبهة الشعبية الجديدة». وسارع مانويل بومبار، المنسق الوطني لشؤون الحزب المذكور والمقرب من ميلونشون إلى تأكيد أن «فرنسا الأبية»، «لن تذهب إلى الحكم، إلا من أجل تنفيذ برنامجها الانتخابي وليس لأي هدف آخر».

المشكلة في فرنسا أن الطبقة السياسية فيها لم تعتد ممارسة السلطة بناء على برنامج حكم مشترك متفاوض عليه، يكون بمثابة عقد يتيح لأحزاب مختلفة أن توجد داخل حكومة واحدة على غرار ما يحصل في ألمانيا أو إسبانيا. وواضح أن حكومة مثل هذه، حتى تقوم، يجب أن تتمتع بأكثرية بديلة. وبهذا الخصوص، قال غابرييل أتال، رئيس الحكومة الحالية، إن هذه الأكثرية يمكن أن تتشكل «من مجموعات سياسية من اليمين واليسار والوسط تعمل معاً على أساس كل مشروع على حدة، لخدمة مصالح الشعب الفرنسي». بيد أن تطوراً جذرياً مثل هذا يفترض، كما أضاف، تبني «شكل جديد من الحكم وطريقة جديدة للعمل». وبكلام أوضح، يقول أتال إن شكل الحكم «العمودي» الذي يعمل به منذ مجيء الرئيس ماكرون إلى رئاسة الجمهورية قبل سبع سنوات، حيث المسائل كافة تحسم في قصر الإليزيه، لا يمكن أن يتواصل، وإن ثقافة سياسية جديدة يجب أن تحل محل الثقافة السابقة.

تحديات صعبة

حقيقة الأمر أن أمراً مثل هذا قد يكون سهلاً ومنطقياً من الناحية النظرية، إلا أن تنفيذه على أرض الواقع سيواجه، بلا شك، صعوبات وعقبات بين أطراف متناحرة منذ سنوات ويصعب عليها محوها بعصاة سحرية.

أولى الصعوبات تكمن في إيجاد نقطة التوازن بين مكوناتها المختلفة. واستبقت مارين توندوليه، الأمينة العامة لحزب «الخضر» الآخرين بقولها إنه «يتعين بناء التحالف الموعود حول المجموعة السياسية التي تحل في المقدمة، أي حول الجبهة الشعبية الجديدة»، وليس حول المجموعة الداعمة لماكرون. وأضافت أن رئيس الحكومة المقبلة «لا يمكن أن يكون من معسكر الرئيس ماكرون».

من جانبه، قال فرنسوا هولاند، الرئيس السابق، إن «اليسار هو الحل وليس دوره فقط أن يقف سداً منيعاً بوجه اليمين المتطرف». ووفق هولاند، يتعين على أحزاب «القوس الجمهوري» أن «تتوافق على برنامج حكم يمثل الحد الأدنى من التفاهمات»، بحيث يتم تأجيل طرح الملفات الخلافية. ودعا كزافيه برتراند، الوزير السابق ورئيس منطقة «الشمال» إلى تشكيل «حكومة مؤقتة»، على غرار ما عرفته فرنسا مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. ورأى فرنسوا بايرو، رئيس حزب «الحركة الديمقراطية» المقرب من ماكرون، نظرا للوضع السياسي المستجد: «البحث عن حلول غير معهودة لتجنب المأزق المؤسساتي».

الطروحات المقدمة حول تسمية الحكومة المقبلة كثيرة، لكن ثمة شروط مسبقة يتعين توافرها وأولها التوافق على برنامج حكم بين الأطراف المدعوة لممارسة السلطة، في حال لم يتمكن منها اليمين المتطرف. والحال أن لا شيء يجمع بين برنامج الجبهة الشعبية وبين «ائتلاف الوسط» أو حزب «الجمهوريين»، لذا يتوقع المراقبون أسابيع من المناقشات والمساومات. وقال وزير العدل الأسبق والخبير القانوني جان - جاك أورفواس إن الحكومة العتيدة التي وصفها بـ«الهجينة»: «لن تكون مؤهلة لإطلاق مبادرات سياسية كبيرة»، بل مهمتها «إصلاح الأخطاء» التي تسببت بها الإصلاحات السابقة والتغييرات العنيفة التي جرت في السابق. أما شخصية رئيس الحكومة العتيدة، فستكون موضع خلاف رئيسي بحيث يتعين أن يكون في موقع «التقاطع» بين الأطراف المختلفة، وأن يكون بعيداً عن الطموحات الرئاسية، فضلاً عن قبوله من الأكثرية البديلة التي من دونها لن يبقى في الحكم يوماً واحداً. ولأن الوضع السياسي على هذه الحال، فإن موقع القرار لن يكون بعد في رئاسة الجمهورية وإنما في البرلمان، ما يعيد الوضع في فرنسا إلى ما كان عليه زمن الجمهورية الخامسة، حيث كانت تتغير التموضعات السياسية فتسقط حكومة وتقوم أخرى.

تنديد التجمع الوطني

مارين لوبان زعيمة حزب «التجمع الوطني» اليميني وجوردان بارديلا المرشح الرئيسي للحزب في الانتخابات الأوروبية يحضران اجتماعاً سياسياً الأحد 2 يونيو 2024 بالعاصمة الفرنسية باريس (أ.ب)

هكذا يبدو المشهد السياسي في فرنسا قبل حلول يوم الأحد الحاسم. وخوف دعاة «القوس الجمهوري» ألا يلتزم الناخبون بتوصيات القيادات السياسية رغم التوافق على الانسحابات والسير في شكل جديد من الحكم. فالتقارب المستجد يبدو هشاً، إذ يخفي ريبة عميقة متبادلة بين جميع هذه الأطراف. وثمة انقسامات داخل الأحزاب لجهة السير بحكومة تحالف واسع. وقالت النائبة ساندرين روسو، عن «الخضر»، إنها ليست جاهزة لأن تتخلى عن برنامج حزبها، وإن «مضمون البرنامج هو الأساس وليس الشكل». ولأن اليمين المتطرف يعي خطورة ما يتم التحضير له، فقد سارع إلى شن هجوم معاكس. وندد جوردان بارديلا، المرشح لرئاسة الحكومة، بـما سماه «تحالفات العار»، داعياً الناخبين إلى منحه مفاتيح السلطة من أجل «مواجهة التهديد الوجودي للأمة الفرنسية» الذي يمثله اليسار، كما يقول.

هل سينجح ماكرون من خلال التحالف الواسع في محو الأخطاء السابقة؟ السؤال مطروح، والإجابة عنه مرهونة بانتظار ما ستسفر عنه صناديق الانتخاب يوم الأحد المقبل لأنها الفيصل، وليس دعوات ماكرون الذي عليه أن يبحث عن حلول أخرى في حال بانت صعوبة قيام «القوس الجمهوري».