اليمين المتطرف على أبواب السلطة في فرنسا

انتقادات لرهان ماكرون «الخطير» بحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات تشريعية

قائدا حزب «التجمع الوطني» مارين لوبان وجوردان بارديلا يخاطبان أنصارهما مساء الأحد (أ.ف.ب)
قائدا حزب «التجمع الوطني» مارين لوبان وجوردان بارديلا يخاطبان أنصارهما مساء الأحد (أ.ف.ب)
TT

اليمين المتطرف على أبواب السلطة في فرنسا

قائدا حزب «التجمع الوطني» مارين لوبان وجوردان بارديلا يخاطبان أنصارهما مساء الأحد (أ.ف.ب)
قائدا حزب «التجمع الوطني» مارين لوبان وجوردان بارديلا يخاطبان أنصارهما مساء الأحد (أ.ف.ب)

لم تخطئ استطلاعات الرأي في توقع نتائج الانتخابات الأوروبية التي شهدتها فرنسا، الأحد، مع 19 دولة أوروبية أخرى؛ حيث جاءت النتائج متطابقة إلى حد بعيد مع التوقعات. وتفيد آخر الأرقام بأن لائحة حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، برئاسة جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 عاماً، حصلت على 31.5 في المائة من الأصوات، ما سيمكِّنها من إرسال 30 نائباً إلى البرلمان الأوروبي الجديد. بالمقابل، فإن لائحة حزب «النهضة» الرئاسي، والحزبين المتحالفين معه: «الديمقراطي» الوسطي و«هورايزون» برئاسة إدوارد فيليب، رئيس الوزراء الأسبق وأحد السياسيين الأكثر شعبية، لم تحصل إلا على 14.6 في المائة من الأصوات، ما يتيح لها إرسال 13 نائباً إلى برلمان ستراسبورغ الأوروبي.

تغير جذري في المشهد السياسي

بالطّبع، هذه النتائج النهائية جاءت بمثابة لطمة غير مسبوقة للرئيس إيمانويل ماكرون الذي بنى صعوده السياسي على مجابهة اليمين المتطرف، وتخطّي الأحزاب التقليدية يميناً ويساراً. وفي الانتخابات الرئاسية الماضية في عام 2022؛ حيث تفوّق على منافسته مارين لوبان، زعيمة اليمين المتطرف، أكّد ماكرون أنه لن يألو جهداً في مواجهة اليمين المتطرف الذي عدّه خارج «القوس الجمهوري»؛ الذي يضمّ الأحزاب الملتزمة بقيم الجمهورية يميناً ويساراً. وبيّنت النتائج أن المشهد السياسي الفرنسي تغيّر جذرياً، فذهب إلى أقصى اليمين.

مظاهرة طلابية ضد اليمين المتطرف في باريس الاثنين (أ.ف.ب)

هذه النتيجة لا يمكن مقارنتها بما حصل في دول أوروبية أخرى، نظراً لحجم فرنسا الديموغرافي والسياسي والاقتصادي والاستراتيجي داخل البناء الأوروبي. فرنسا ليست بلجيكا ولا مالطا ولا لوكسمبورغ؛ هي مع ألمانيا دولة مؤسسة ورائدة ومؤثرة في مسيرة الاتحاد.

وبيّنت الأشهر الأخيرة، فيما خصّ الحرب في أوكرانيا، أن ماكرون شكّل «القاطرة» التي دفعت غالبية عواصم الاتحاد إلى انتهاج سياسة أكثر تشدداً إزاء روسيا، أكان لجهة تمكين القوات الأوكرانية من استهداف الأراضي الروسية بالأسلحة الأوروبية، أو عزمه بناء تحالف يُمكّن كييف من الحصول على طائرات «ميراج 2000-5» التي تصنعها شركة «داسو» للطيران الفرنسية، أو إرسال مدربين عسكريين لتدريب الجيش الأوكراني على الأراضي الأوكرانية نفسها.

ماكرون أخذ يطرح نفسه «زعيماً» لأوروبا، بعد أن «تحوّل من حمامة إلى صقر» في تعامله مع الملف الأوكراني. وجاءت الاحتفالات بالذكرى الثمانين لإنزال النورماندي؛ حيث استضاف ما لا يقلّ عن 25 رئيس دولة وحكومة، ثم قمّته مع الرئيس الأميركي جو بايدن لتجعله رقماً رئيسياً في السياسة الدولية، و«المحاور» الطبيعي لأميركا أوروبياً.

ماكرون شارك الاثنين بمدينة تول جنوب البلاد في احتفال تكريمي لـ99 ضحية قتلهم الجيش الألماني يوم 9 يونيو 1944 (أ.ف.ب)

كل ذلك تبخّر مع إعلان نتائج الانتخابات في الساعة الثامنة من مساء الأحد. «التجمع الوطني» فرض نفسه بوصفه أول قوة سياسية في فرنسا، ووجد أنه على أعتاب السلطة، بحيث إن «السقف الزجاجي» الذي كان يمنعه من الوصول إليها تهاوى بشكل جدي في إعادة تشكيل المشهد السياسي على الساحة الفرنسية. ولو أضيف إليه ما حصل عليه حزب إريك زيمور الأكثر تطرفاً منه، لتبين أن أقصى اليمين الشعبوي والقومي المعادي للمهاجرين، والمندّد بـ«فقدان الهوية الأوروبية»، و«خروج مناطق من فرنسا عن سلطة الدولة» و«تغلغل الإسلام المتطرف»، والسّاعي لسياسة انطوائية وغير المتحمّس للبناء الأوروبي، تحوّل إلى القوة الأكبر؛ حيث يحصل على نحو 40 في المائة من الدعم الشعبي. والجديد أنّه يتقدّم في كافة المناطق الفرنسية، ولم يعد محصوراً بالأرياف أو في جنوب وشمال البلاد.

زلزال حل البرلمان

جوردان بارديلا رئيس لائحة اليمين المتطرف الفائزة في الانتخابات الأوروبية (رويترز)

​كل ما سبق وقع كالصاعقة على الطبقة السياسية في الداخل، وأرعب كثيراً من القادة الأوروبيين. بيد أن الزلزال السياسي حلّ بعد أقل من ساعة، عندما ظهر الرئيس الفرنسي على شاشات التلفزة، ليعلن حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة بجولتين في 30 يونيو و7 يوليو (تموز).

ومنذ تلك اللحظة، صبّت التعليقات كلها في اتجاه واحد: مقامرة غير محسوبة النتائج، جنون، رهان خاسر، فتح أبواب قصور الجمهورية أمام اليمين المتطرف، ماكرون يريد «المساكنة» مع جوردان بارديلا رئيساً للحكومة التي ستشكل بعد الانتخابات النيابية.

وتذكّر الجميع ما حصل عام 1997، عندما حلّ الرئيس جاك شيراك الديغولي البرلمان بعد مرور عامين فقط على انتخابه، لتعطل الحركة في البلاد بسبب إضرابات واضطرابات اجتماعية احتجاجاً على خطط الحكومة الإصلاحية. وجاءت النتيجة بعكس ما اشتهى؛ إذ خسر الانتخابات التي فاز بها الحزب «الاشتراكي»، ما حمل زعيمه ليونيل جوسبان إلى رئاسة الحكومة؛ حيث أمضى في منصبه 5 سنوات.

قرار متسرّع

أنصار حزب «التجمع الوطني» يحتفلون بنتائج الانتخابات في باريس مساء الأحد (أ.ب)

​في كلمته إلى الفرنسيين، جاء فيها ما حرفيته: «إن قرار حل البرلمان خطير وثقيل؛ لكنه يعبِّر عن ثقتي بكم أنتم مواطنيّ الأعزاء، وبقدرة الشعب الفرنسي على الاختيار الصحيح له وللأجيال القادمة، كما أنه يعبِّر عن ثقتي بنظامنا الديمقراطي». وأضاف ماكرون: «ليعُد القرار إلى الشعب، وهذا القرار يُعَد (قمة العمل بقيم) الجمهورية. إنه أفضل من أي ترتيبات أخرى. إن زمن توضيح الأمور الضروري قد حان، ولي ثقة بفرنسا التي عرفتْ دوماً المحافظة على وحدتها في الأزمنة الصعبة، والنضال من أجل رسم صورة المستقبل؛ بدل الانطواء والاستسلام أمام كافة الطروحات الديماغوجية».

ودعا ماكرون الفرنسيين إلى التوجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع، موضحاً أن فرنسا «بحاجة لأكثرية واضحة، حتى تعمل في أجواء من الصفاء والوئام». وطرح ماكرون نفسه مدافعاً صلباً عن اتحاد أوروبي قوي وأوروبا مستقلة؛ لأنها «مفيدة لفرنسا»، ومؤكداً أن تصاعد الطروحات القومية والديماغوجية «يُشكّل خطراً بالنسبة لأمتنا، ولكن أيضاً بالنسبة لأوروبا ولموقع فرنسا داخلها وفي العالم».

مارين لوبان زعيمة «التجمع الوطني» تتأهب لإلقاء خطاب عقب فوز حزبها حيث أعلنت أنه «جاهز لتسلُّم السلطة» (إ.ب.أ)

كل القراءات والتحليلات التي أعقبت قرار ماكرون صبّت في اتجاه واحد: إذا كان رهان الرئيس الفرنسي الذي تنتهي ولايته الثانية في ربيع عام 2027 يقوم على اعتبار أن الانتخابات الجديدة ستوفر له أكثرية برلمانية لم يحصل عليها في انتخابات عام 2022 التشريعية، فإن رهانه خاطئ. والانطباع الذي عبّر عنه كثير من السياسيين أن ماكرون اتّخذ قراراً «متسرّعاً»؛ لا بل إن مسؤولين سياسيين اعتبروا أنه «خضع» لطلب بارديلا حلّ البرلمان، بينما أعلنت زعيمة «التجمع الوطني» أن حزبها «جاهز» لتسلم قيادة البلاد.

خطة مُحكمة

مئات المتظاهرين تجمّعوا في باريس للاحتجاج ضد صعود اليمين المتطرف وسط باريس (أ.ف.ب)

لكن حقيقة الأمر تجافي هذا الانطباع. فقد بيّنت معلومات صحافية -ومنها ما جاء على موقع صحيفة «لوموند» المستقلة، والتي تعد الأكثر رصانة في فرنسا- أن «ضربة» ماكرون السياسية كانت مجهّزة سلفاً، ومُعدّة لإحداث صدمة نفسية وسياسية لدى الفرنسيين. وحسب الصحيفة المذكورة، فإن «خلية» ضيّقة كانت تعمل منذ شهور في قصر الإليزيه، لبلورة سيناريو حل البرلمان، من بينها شخصيات مقرّبة من الرئيس اليميني الأسبق نيكولا ساركوزي.

والأطرف من ذلك أن رئيس الحكومة غبريال أتال، ووزراء رئيسيين مثل وزير الاقتصاد برونو لومير، لم يكونوا على اطّلاع على ما يخطط له الإليزيه. وسيناريو حل البرلمان كان مُعداً للاستخدام في حال جاءت نتائج الانتخابات كارثية بالنسبة للمعسكر الرئاسي. أما إذا حصلت اللائحة الرئاسية على نسبة تتراوح ما بين 20 و22 في المائة، فعندها كان سيعوّل على الألعاب الأولمبية التي تستضيفها فرنسا نهاية يوليو، ثم الاحتفال بتدشين كاتدرائية نوتردام بعد انتهاء أعمال الترميم، للاتجاه بصدمة الانتخابات الأوروبية إلى التراجع والنسيان.

حسابات ماكرون

يراهن ماكرون على «قدرة الفرنسيين على القيام بالخيار الأفضل» لبلادهم في الانتخابات القادمة، ما يعني عملياً أن ينتخبوا مرشحي الأحزاب غير المتطرفة التي تضم -إلى جانب «التجمع الوطني»- حزب «فرنسا الأبية» اليساري المتشدد. والخوف الكبير أن يحصل اليمين المتطرف على الأكثرية المطلقة، ما سيُلزم ماكرون باستدعاء جوردان بارديلا إلى تشكيل الحكومة القادمة التي ستحل محل حكومة غبريال أتال، بحيث يكون للسلطة التنفيذية رأسان غير متناغمين. وسبق أن جرّب ذلك في الماضي رئيسان: الاشتراكي فرنسوا ميتران، واليميني جاك شيراك.

أنصار حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف يحتفلون بنتائج الانتخابات البرلمانية مساء الأحد (أ.ب)

بعد وقت قليل من إعلان حل البرلمان، سارع ستيفان سيجورنيه، وزير الخارجية الذي احتفظ -رغم توزيره- برئاسة حزب «النهضة»، إلى توجيه نداء من أجل «حشد كل القوى الجمهورية». ووعد سيجورنيه من سماهم «النواب المنتهية ولايتهم في المعسكر الجمهوري» بـ«الاستفادة من دعمنا إذا كانوا يوافقون على المشروع المقدم»، بحيث لا يرشح حزبه منافسين أمام النواب الذين يقبلون الانضمام إليه. وواضح أن النداء موجّه لحزب «الجمهوريين» اليميني التقليدي الذي حصل على 7.6 في المائة من الأصوات، ما سيُمكّنه من إرسال 6 نواب إلى البرلمان الأوروبي.

والحسابات الرئاسية أن الانتخابات الرئاسية شيء، والنيابية شيء آخر، وأن عدداً من نواب اليمين التقليدي الحاليين قد يفضلون الانشقاق عن حزبهم والالتحاق بالحزب الرئاسي، في حال طمحوا للاحتفاظ بمقاعدهم. وسبق لماكرون أن نجح سابقاً في اجتذاب أعداد قليلة منهم. من هنا، فإن الأيام القادمة ستشهد مساومات وصفقات من فوق الطاولة أو من تحتها.

قطعاً، لا يشكل حزب «الجمهوريين» خطراً على ماكرون، بعكس اليسار المتنوع الذي إذا حافظ على وحدته كما في الانتخابات النيابية السابقة، فإنه قد يكون مصدر الخطر؛ خصوصاً أن الحزب «الاشتراكي» عادت إليه بعض قواه السابقة، وحصل على نحو 14 في المائة من الأصوات، وعلى 13 مقعداً. وهذا التقدم قد يدفع بمن تركوه من المحازبين للعودة إلى صفوفه. لكن رهان ماكرون أن الخلافات بين حزب «فرنسا الأبية» و«الاشتراكيين» و«الشيوعيين» و«الخضر» عميقة لدرجة أنهم سيكونون عاجزين عن الاتفاق فيما بينهم، وتشكيل جبهة ولوائح موحدة.

جان لوك ميلونشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» يأمل بتوحيد قوى اليسار المتنوع في الانتخابات القادمة (أ.ف.ب)

يبقى أن الخطر الأكبر عنوانه «التجمع الوطني». ومنذ اليوم الأول بعد الانتخابات الأوروبية، ستنطلق استطلاعات الرأي لقياس قدرته على الحصول على الأكثرية المطلقة، بينما كان لديه 88 نائباً في البرلمان المنحل. ونقلت «لوموند» أن التوقعات تفيد بأن الحد الأقصى الذي قد يصل إليه هو 239 نائباً، بينما الأكثرية المطلقة تفترض الحصول على 289 نائباً.

وباختصار، فإن فرنسا -بعد الزلزال- قادمة على مرحلة من الضبابية والتحولات التي يصعب منذ اليوم التنبؤ بمآلاتها. والثابت فيها -في أي حال- أن طموحات ماكرون في الحصول على الأكثرية بعيدة جداً عن الواقع، وبالتالي فإن أياماً صعبة تنتظره للأعوام الثلاثة المتبقية له في قصر الإليزيه.


مقالات ذات صلة

ماكرون وروته يؤكدان ضرورة بقاء الدعم لأوكرانيا «أولوية مطلقة»

أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته يتصافحان في أثناء إلقائهما بياناتهما خلال اجتماعهما في قصر الإليزيه في باريس 12 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

ماكرون وروته يؤكدان ضرورة بقاء الدعم لأوكرانيا «أولوية مطلقة»

أكد كل من الرئيس الفرنسي والأمين العام لحلف الناتو، اليوم الثلاثاء، أهمية أن يبقى الدعم العسكري لأوكرانيا في مواجهة روسيا «أولوية مطلقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (يمين) يصافح الرئيس دونالد ترمب (د.ب.أ)

ماكرون: على أوروبا ألا «تُفوض للأبد» أمنها لأميركا

عَدّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخميس، في بودابست أن الأوروبيين يجب ألا «يُفوضوا للأبد» أمنهم للأميركيين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
الولايات المتحدة​ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع ترمب بالبيت الأبيض في أبريل 2018 (أرشيفية - أ.ب)

علاقة مودة بين ترمب وماكرون «باتت من الماضي»

في عام 2018 زُرعت شجرة في حدائق البيت الأبيض رمزاً للصداقة بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس الأميركي يومها دونالد ترمب، لكنها تلفت بعد فترة قصيرة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر في باريس دعماً للبنان يوم 24 أكتوبر الماضي (إ.ب.أ)

إسرائيل تتغلب على فرنسا في المحاكم وتشارك في معرض «يورونافال»

تغلبت إسرائيل على فرنسا في المحاكم التي سمحت لشركاتها بالحضور والمشاركة في معرض «يورونافال» للصناعات الدفاعية البحرية الذي ينطلق الاثنين.

ميشال أبونجم (باريس)
شمال افريقيا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ.ف.ب)

ماكرون يعترف: عسكريون فرنسيون قتلوا القيادي الجزائري العربي بن مهيدي

اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الجمعة، بأن القيادي في «جبهة التحرير الوطني» التي قادت حرب التحرير في الجزائر، العربي بن مهيدي، «قتله عسكريون فرنسيون».

«الشرق الأوسط» (باريس)

بوتين يسعى إلى استعادة كورسك قبل تنصيب ترمب

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
TT

بوتين يسعى إلى استعادة كورسك قبل تنصيب ترمب

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يصافح السيناتور ماركو روبيو خلال مناسبة انتخابية في رالي بولاية نورث كارولينا (أ.ب)

تشير التعيينات التي لم تؤكد كلها بعدُ، على الأقل بالنسبة إلى تسمية السيناتور ماركو روبيو لشغل منصب وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، إلى أن ملف الحرب في أوكرانيا قد لا يكون بهذه السوداوية المتوقعة... فـ«هل نفي المحادثة تعبير عن امتعاض روسي؟».

سؤال طُرح على خلفية نفي موسكو المكالمة الهاتفية التي جرت بين ترمب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم الخميس الماضي، وكشفت عنها وسائل إعلام أميركية عدة يوم الاثنين.

ويقول مراقبون إن هذا النفي قد يكون بداية «امتعاض» روسي من احتمال وجود تغيير في «توقعات» موسكو، خصوصاً أن الفريق المشكل لإدارة سياسات واشنطن الخارجية، هو من الصقور الجمهوريين، الذين يتخذون مواقف متشددة من روسيا. ووفق المكالمة، فقد طلب ترمب من بوتين وقف أي تصعيد جديد للحرب، فيما الأخير يستعد لشن هجوم شتوي على كورسك، بعدما نشر 50 ألف جندي روسي وكوري شمالي؛ لاستعادتها من أوكرانيا قبل تسلم ترمب منصبه في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، بما يمكنه من الجلوس إلى طاولة المفاوضات من موقع أقوى، من دون الاضطرار إلى الدخول في مساومات لتبادل الأراضي.

ترمب حتى الساعة لم يصدر تعليقات جديدة حول رؤيته لمستقبل تلك الحرب. لكنه قال مراراً إنه يتمتع بعلاقة جيدة ببوتين. وزُعم أيضاً أنه أخبره بأن الولايات المتحدة ستقصف موسكو إذا حاولت مهاجمة أوكرانيا. وقال إنه يريد مساعدة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.

ماركو روبيو (أ.ف.ب)

لكن صحيفة «تلغراف» البريطانية نقلت عن الجنرال أوليكساندر سيرسكي، القائد العسكري الأعلى في أوكرانيا، قوله إن «عشرات الآلاف من جنود العدو» وصلوا لطرد قوات كييف من الجيب الروسي، مما أثار مخاوف الغرب من تصعيد كبير للحرب. ويعتقد حلفاء «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» أن بوتين يأمل استعادة تلك الأراضي التي دخلتها أوكرانيا، قبل تنصيب ترمب. وقال الجنرال سيرسكي إن «عشرات الآلاف من جنود العدو من أفضل الوحدات الروسية كانوا يهاجمون المواقع الأوكرانية»

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (أ.ف.ب)

تكثيف الهجمات للتأثير على التفاوض

وأظهر تقييم استخباراتي دفاعي بريطاني، اطلعت عليه الصحيفة، أن من المرجح أن تكثف روسيا هجمات الطائرات من دون طيار الانتحارية على المواقع الأوكرانية في الأيام المقبلة، باستخدام مواقع إطلاق جديدة بالقرب من الحدود.

وذكر سلاح الجو الأوكراني، الثلاثاء، أنه أسقط 46 طائرة من أصل 110 طائرات مسيّرة أطلقتها روسيا ليل الاثنين. وأضاف أنه فُقد أثر 60 طائرة مسيرة روسية في المجال الجوي الأوكراني، فيما غادرت اثنتان أخريان باتجاه بيلاروسيا. وقال إن القوات الروسية استخدمت أيضاً 3 صواريخ خلال الهجوم الذي وقع ليلاً، فضلاً عن قنابل جوية موجهة. وقال حاكم منطقة خاركيف، أوليه سينيهوبوف، إن هجوماً وقع في ساعة متأخرة من مساء الاثنين على مدينة خاركيف.

قوات روسية توجه طلقات مدافعها باتجاه مواقع القوات الأوكرانية في كورسك (أ.ب)

بدورها، قالت وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء، إن أنظمة الدفاع الجوي دمرت 13 طائرة مسيّرة أوكرانية خلال الليل. وأضافت الوزارة عبر قناتها على تطبيق «تلغرام» أن جميع الطائرات المسيّرة أسقطت فوق المناطق المتاخمة لأوكرانيا.

كما أدت ضربة روسية إلى «تضرر» سد في شرق أوكرانيا، ما تسبب في ارتفاع كبير بمنسوب مياه أحد الأنهار، وشكل «تهديداً» بحدوث فيضان في الأراضي المجاورة، وفق ما أعلن مسؤول محلي الاثنين. وقال فاديم فيلاشكينفاديم فيلاشكين، عبر «تلغرام»: «ألحق الروس أضراراً بسد خزان كوراخوف».

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيرته الكورية الشمالية تشوي سونغ هي في موسكو (إ.ب.أ)

وأضاف حاكم المنطقة أن «هذا الهجوم قد يهدد سكان المناطق الواقعة على نهر فوفتشا بمنطقتي دونيتسك ودنيبروبتروفسك». وأكد أن منسوب المياه في هذا النهر الواقع قرب قرية فيليكا نوفوسيلكا «ارتفع بمقدار 1.2 متر»، لكن «لم يبلَّغ عن أي فيضان حتى الآن».

ومن المرجح أيضاً أن يشارك نحو 12 ألف جندي كوري شمالي في القتال بمنطقة كورسك، بموجب اتفاقية الدفاع المشترك بين روسيا وكوريا الشمالية التي وقعها البلدان أخيراً.

وصدقت كوريا الشمالية على المعاهدة التي تنص على تقديم مساعدات عسكرية متبادلة، وفقاً لما ذكرته وسائل الإعلام الحكومية في كوريا الشمالية الثلاثاء، في وقت تقول فيه الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وأوكرانيا إن كوريا الشمالية أرسلت آلاف الجنود إلى روسيا لدعم حربها ضد أوكرانيا.

وقال محللون أوكرانيون إن الكرملين قد يهدف أيضاً إلى استخدام أكبر هجوم مضاد له في منطقة كورسك لبناء الزخم والدفع إلى منطقة سومي شمال شرقي أوكرانيا.

زيادة نفوذ أوكرانيا

لم يشرح ترمب حتى الآن بالتفصيل نوع الصفقة التي يعتقد أنها يمكن أن تنهي الحرب، رغم أن الحلفاء قدموا خططاً مختلفة تنطلق من فكرة تجميد خط المواجهة الحالي.

ويقول جون هاردي، الباحث في الشأن الروسي بـ«مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» بواشنطن، المحسوبة على الجمهوريين، إن «أفضل ما يمكن أن يفعله ترمب لتأمين صفقة جيدة هو زيادة نفوذ أوكرانيا». وأضاف في حديث مع «الشرق الأوسط»: «هذا يعني زيادة المساعدات المقدمة لأوكرانيا، وإزالة القيود المفروضة على الضربات الأوكرانية، وخفض أسعار النفط». وقال إن «أوكرانيا تحتاج إلى أن تكون قادرة على تثبيت خطوطها، ويحتاج بوتين إلى إقناعه بأن مزيداً من القتال لن يكون مفيداً».

جنود من الجيش الروسي يقاتلون ضد الجيش الأوكراني في كورسك (أ.ب)

وكانت صحيفة «وول ستريت جورنال» قد نقلت عن 3 من أعضاء فريق ترمب أن خطته تطرح إقامة منطقة عازلة بعمق 1300 كيلومتر بين روسيا وأوكرانيا تشرف عليها بريطانيا والأوروبيون من دون مساهمة الولايات المتحدة فيها أو تمويلها. كما تقترح تجميد خط المواجهة الحالي حيث هو الآن، وموافقة أوكرانيا على تأجيل طموحها في الانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي (ناتو)» لمدة 20 عاماً. في المقابل، ستضخ الولايات المتحدة في أوكرانيا أسلحة كاملة لردع روسيا عن إعادة بدء الحرب.

واقترح جيه. دي. فانس، نائب الرئيس المنتخب، في سبتمبر (أيلول) الماضي، أن تتمسك روسيا بمكاسبها الحالية شرطاً للسلام. وقال إن بقية أوكرانيا ستظل دولة مستقلة ذات سيادة، وستحصّن جانبَها من الخط بشكل كبير لمنع هجوم روسي ثانٍ. وفي المقابل، ستحصل روسيا على وعد بالحياد الأوكراني. وقال فانس: «إنها لن تنضم إلى (حلف شمال الأطلسي)، ولن تنضم إلى بعض المؤسسات المتحالفة. أعتقد أن هذا هو الشكل النهائي لهذا الأمر».

تقوية موقف كييف

ويوم الاثنين، أجرى رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، في باريس، محادثات مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول الحرب. وقال بيان من رئاسة الحكومة البريطانية إن البلدين سيحاولان وضع أوكرانيا في «أقوى موقف ممكن قبل الشتاء».

وقال جون هيلي، وزير الدفاع البريطاني، إن ترمب كان «محقاً تماماً» في التحذير من التصعيد وفي أن الولايات المتحدة ستواصل سياسة «الأمن من خلال القوة»، على الرغم من تهديد الرئيس المقبل بقطع المساعدات العسكرية عن أوكرانيا. ويشعر الدبلوماسيون الغربيون بالقلق من أن يحاول بوتين الاستيلاء بسرعة على الأراضي قبل تنصيب ترمب؛ لمنح روسيا مزيداً من القوة التفاوضية في أي محادثات سلام.

جمود روس في منطقة كورسك الروسية عند الحدود مع أوكرانيا (أ.ب)

ونفى الكرملين أن يكون ترمب قد تحدث إلى بوتين، على الرغم من التقارير التفصيلية عن محادثتهما التي ظهرت في وسائل الإعلام الأميركية.

جاء ذلك عشية لقاء ترمب الرئيس جو بايدن في البيت الأبيض يوم الأربعاء لمناقشة عملية الانتقال. وقال جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، إن بايدن سيستغل الاجتماع لحث خليفته على مواصلة الدعم الأميركي لكييف.

وتعهدت إدارة بايدن بصرف الأموال المتبقية لأوكرانيا خلال الأسابيع العشرة المقبلة، والتي كان أقرها الكونغرس؛ بما فيها ما يعادل 4.3 مليار دولار من الأسلحة الأميركية المعاد توجيهها، و2.1 مليار دولار عقوداً جديدة من شركات أميركية.

وقال وزير الدفاع البريطاني لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» أمس: «أتوقع أن تظل الولايات المتحدة إلى جانب حلفائها، مثل المملكة المتحدة، وتقف مع أوكرانيا مهما استغرق الأمر للتغلب على غزو بوتين».