الرئيس الفرنسي يدفع باتجاه بناء الدفاع الأوروبي

حثّ على تعزيز الصناعات الدفاعية وتبني مبدأ «الأفضلية الأوروبية»

إيمانويل ماكرون يلقي خطابه في جامعة السوربون الخميس 25 أبريل (أ.ب)
إيمانويل ماكرون يلقي خطابه في جامعة السوربون الخميس 25 أبريل (أ.ب)
TT

الرئيس الفرنسي يدفع باتجاه بناء الدفاع الأوروبي

إيمانويل ماكرون يلقي خطابه في جامعة السوربون الخميس 25 أبريل (أ.ب)
إيمانويل ماكرون يلقي خطابه في جامعة السوربون الخميس 25 أبريل (أ.ب)

يريد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن يكون الصوت الداعي لتحويل الاتحاد الأوروبي من مجموعة اقتصادية وتجارية كبرى في العالم، إلى قطب له قدراته الدفاعية والعسكرية، ويكون قادراً على إسماع صوته، وفرض احترام مصالحه في عالم متغير، وخطر.

والطريق إلى ذلك، وفق ماكرون، تمرّ من خلال «بناء دفاع أوروبي يتحلى بالمصداقية»، بحيث تكون القارة القديمة قادرة على الدفاع عن مصالحها، وليست مرتهنة للإرادة الأميركية. ولا شك أن الانتخابات الأميركية المقبلة، واحتمال أن يعود الرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، تضغط على الأوروبيين، خصوصاً أن الأخير له مواقف متذبذبة إزاء الحلف الأطلسي، ولا يخفي استهزاءه بالاتحاد الذي يأخذ على أعضائه اتّكالهم على الولايات المتحدة في الدفاع عنهم بمواجهة روسيا، وامتناعهم عن الإيفاء بالتزاماتهم المالية إزاء الحلف. ولأن الحرب عادت إلى أوروبا، وهي متواصلة منذ بدء «العملية العسكرية الخاصة» الروسية ضد أوكرانيا، فإن الأوروبيين بدأوا باستشعار الحاجة لتطوير قدراتهم العسكرية الخاصة، رغم تمسكهم بالمظلة الأميركية - الأطلسية.

دعوة متكررة

إن دعوة إيمانويل ماكرون إلى تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية لا تحمل جديداً. فخطابه الخميس في جامعة السوربون التاريخية يُذكّرنا بخطاب ألقاه في المكان نفسه، في العام 2017، بعد أشهر قليلة على وصوله إلى قصر الإليزيه.

الرئيس الفرنسي حث على الذهاب إلى استراتيجية دفاعية أوروبية مشتركة (رويترز)

ولكن ما بين الخطابين فروق في الرؤية: ماكرون 2017 كان يدعو إلى «الاستقلالية الاستراتيجية» لأوروبا، التي فُهمت على أنها تخلٍّ عن الحلف الأطلسي، الأمر الذي أغاظ العديد من الدول الأوروبية، كألمانيا وبولندا وهولندا ودول البلطيق، وغالبية الدول المنضمة حديثاً إلى الحلف الأطلسي بعد انهيار حلف وارسو، وتبعه الاتحاد السوفياتي. ونقطة ارتكازها أنها ليست مستعدة للاستعاضة عن حلف موجود منذ 49 عاماً، وضمن لها السلام والأمن، بدفاع أوروبي غير موجود حقيقة.

وقد فهم ماكرون أن عليه أن يُعدّل طروحاته، وهو ما فعله شيئاً فشيئاً. وحُجّته كانت أن الاستقلالية الاستراتيجية لا تعني الانفصال عن الحلف الأطلسي، بل قيام قوة أوروبية إلى جانب الحلف الأطلسي، وليس بديلاً عنه. وجاء في خطابه ظهر الخميس: «نحن بحاجة إلى بناء مفهوم استراتيجي لدفاع أوروبي ذي مصداقية»، مضيفاً أنّه «يتعين على أوروبا أن تكون قادرة على الدفاع عما تعتبره عزيزاً عليها مع حلفائها، إذا كانوا جاهزين للقيام بذلك إلى جانبنا، ووحدنا، إن كان ذلك ضرورياً».

حُجّة الرئيس الفرنسي الأولى عنوانها «العدوانية الروسية»، التي يرى فيها المحرّك الأول القادر على دفع الأوروبيين للتحرك. وقال: «عندما نرى أن جارنا (روسيا) قد أصبح عدوانياً، وأنه يمتلك قدرات باليستية، وقد عمد إلى تطويرها في السنوات الأخيرة، كما أنه يمتلك السلاح النووي، وقد أبان عن قدراته (في هذا المجال)، نرى عندها أنه يتعين علينا أن نذهب إلى بناء مفهوم استراتيجي أوروبي خاص بنا يتمتع بالمصداقية».

لذا، فإن الرئيس الفرنسي كشف أنه سيعمد في الأشهر القادمة إلى «دعوة شركائنا إلى إطلاق مبادرة دفاعية أوروبية يجب أن تُجسّد بداية مفهوم استراتيجي». ولأن أمراً كهذا لا يمكن تصوره من غير المكون النووي، ولأن فرنسا هي وحدها «بعد بريكست» من بين دول الاتحاد الأوروبي التي تمتلك السلاح النووي، فإن ماكرون يشدد على أن قدرة الردع النووي الفرنسية «ستشكل عنصراً لا يمكن الالتفاف عليه في بناء الدفاع عن القارة الأوروبية»، أي بمعزل عن الردع النووي الأطلسي ثلاثي الأطراف: «الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا».

المظلة النووية الأوروبية

وخلاصة الرئيس الفرنسي أن توافر هذه القدرات الدفاعية ذات المصداقية من شأنها أن «تمكننا من توفير الضمانات الأمنية التي ينتظرها شركاؤنا في كافة أرجاء أوروبا، والتي سيكون الإطار الأمني المشترك الضامن لأمن الجميع».

المفوض الأوروبي تييري بروتون المسؤول عن الأسواق الداخلية الأوروبية مستمعا لخطاب ماكرون (إ.ب.أ)

وفق التصور الرئاسي، فإنه سيكون لباريس دور ريادي في بناء الدفاع الأوروبي، لأنها الوحيدة المتمتعة بالقدرات النووية. بيد أن طرحاً كهذا يثير عشرات الأسئلة. والسؤال الأهم يتناول استعداد باريس لمشاركة الأوروبيين في قرار اللجوء إلى السلاح النووي من عدمه. كذلك، ليس مؤكداً أن كل الدول الأوروبية ستكون مستعدة في السير وراء فرنسا، وتسليمها قيادة الدفاع الأوروبي. ولن يكون من المستغرب في حال قبلت طرح باريس أن تكشف عن شروطها، علماً بأن الدول التي تحفّظت على «الاستراتيجية الدفاعية الفرنسية» قد أصبحت جاهزة اليوم للتخلي عن المظلة النووية الأوروبية.

ما يطرحه ماكرون لن يتحقق في شهور، أو سنوات قليلة، لأنه، كما تقول مصادر فرنسية، «يتطلب تغيراً جذرياً في الذهنيات» داخل فرنسا، وخارجها. من هنا، أهمية متابعة ردود الفعل التي لن تتأخر؛ من اليمين الفرنسي المعروف برفضه تقاسم قوة الردع الفرنسية مع آخرين وإن كانوا شركاء باريس في الاتحاد الأوروبي. كذلك، يتعين النظر لردود فعل العواصم الأوروبية الرئيسية، كبرلين وروما ووارسو ومدريد.

قوة تدخل سريع

وبانتظار أن تتبلور المواقف، فإن ماكرون يقترح «قوة تدخل سريع مشكلة من خمسة آلاف رجل، بحلول العام 2025، تكون قادرة على الانتشار في المحيط الأوروبي المعادي خلال وقت قصير، وتكون مهمتها بشكل خاص أن تهب لمساعدة مواطنينا».

بيد أن ماكرون لم يوضح الفضاء الجغرافي الذي يعنيه، والذي سيكون بطبيعة الحال الشرق الأوسط وأفريقيا. ويريد الرئيس الفرنسي كذلك أن يهتم الأوروبيون، إلى جانب قدراتهم الدفاعية، بأمنهم السيبراني الذي قفز، في الأشهر الأخيرة، إلى مقدمة الاهتمامات الأوروبية، وذلك على خلفية التهديد الذي باتت تشكله روسيا والصين وفق تأكيدات عدة عواصم أوروبية.

واقتراح قوة الانتشار السريع ليس جديداً، بل طرح منذ عدة أعوام. بيد أن السير به ما زال يعاني صعوبات جمة حول تشكيلها، وتمركزها، وقيادتها، إضافة إلى غيرها من التساؤلات السياسية، واللوجيستية.

لم ينس ماكرون حرب أوكرانيا، وربطها بالصناعات الدفاعية الأوروبية، والحاجة لتطويرها في إطار جهد بعيد المدى، مع التركيز على «إعطاء الأولوية للموردين الأوروبيين في شراء المعدات العسكرية»، إن كانت الخاصة بجيوشهم، أو لإيصالها إلى القوات الأوكرانية. وتساءل الرئيس الفرنسي: «كيف سننجح في بناء سيادتنا واكتفائنا الذاتي إن لم نعمل على تطوير الصناعات الدفاعية الأوروبية؟ ولذا، علينا تبني مبدأ الأفضلية الأوروبية، وإطلاق برامج تسلح أوروبية، وتبنّي مبدأ أن يلعب بنك الاستثمار الأوروبي دوراً أكبر لجهة توفير التمويلات الإضافية (لهذه الصناعة)». وهذا الدور يبدو أكثر إلحاحاً وفق رؤية الرئيس الفرنسي، خصوصاً أن أوروبا «ليست مسلحة ضد المخاطر التي نواجهها» في عالم «تغيرت فيه قواعد اللعبة».


مقالات ذات صلة

ماكرون يزور المغرب لإعادة إطلاق العلاقات الثنائية

شمال افريقيا الملك محمد السادس مستقبلاً الرئيس ماكرون خلال زيارته للرباط في نوفمبر 2018 (رويترز)

ماكرون يزور المغرب لإعادة إطلاق العلاقات الثنائية

أعلن قصر الإليزيه لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيزور المغرب في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شمال افريقيا الرئيسان الجزائري والفرنسي في أغسطس 2022 (الرئاسة الجزائرية)

ماكرون لتقديم اعتراف مثير في «مصالحة الذاكرة» مع الجزائر

تشير مؤشرات، تتعلق بمسعى «مصالحة الذاكرتين» بين الجزائر وفرنسا، إلى اعتراف وشيك من الرئيس ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن تعذيب واغتيال العربي بن مهيدي.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون 26 سبتمبر 2024 (أ.ف.ب)

ماكرون: نتانياهو سيرتكب خطأ إن رفض وقف إطلاق النار مع «حزب الله»

 قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الخميس)، إن فرنسا تعارض أن يصبح لبنان غزة جديدة وطالب إسرائيل بوقف هجماتها وحزب الله بالتوقف عن الرد.

«الشرق الأوسط» (مونتريال)
شؤون إقليمية البحث عن ناجين بعد ضربة جوية إسرائيلية شمال بيروت الخميس (رويترز)

جهود فرنسية لمنع اشتعال الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية

الدبلوماسية الفرنسية تنشط لتجنب الحرب الواسعة، والرئيس ماكرون يسير على خطى سلفه جاك شيراك.

ميشال أبونجم (باريس)
أوروبا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حضر اجتماع غداء في الأمم المتحدة (رويترز)

ماكرون يدعو لتقييد حق استخدام «الفيتو» بمجلس الأمن في حالات «القتل الجماعي»

دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، اليوم (الأربعاء)، إلى إصلاح مجلس الأمن الدولي عبر تقييد حقّ استخدام «الفيتو» في حالات «القتل الجماعي».

«الشرق الأوسط» (باريس)

النرويج تُصدر طلباً دولياً للبحث عن شخص على صلة بـ«أجهزة بيجر حزب الله»

إحدى ضحايا انفجارات أجهزة البيجر على نقالة خارج المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت (رويترز)
إحدى ضحايا انفجارات أجهزة البيجر على نقالة خارج المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت (رويترز)
TT

النرويج تُصدر طلباً دولياً للبحث عن شخص على صلة بـ«أجهزة بيجر حزب الله»

إحدى ضحايا انفجارات أجهزة البيجر على نقالة خارج المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت (رويترز)
إحدى ضحايا انفجارات أجهزة البيجر على نقالة خارج المركز الطبي بالجامعة الأميركية في بيروت (رويترز)

قالت الشرطة النرويجية، الخميس، إنها أصدرت طلباً دولياً للبحث عن رجل نرويجي من أصل هندي مرتبط ببيع أجهزة البيجر التي تستخدمها جماعة «حزب الله» اللبنانية وانفجرت الأسبوع الماضي.

واختفى رينسون فوسه (39 عاماً) أثناء رحلة عمل إلى الولايات المتحدة الأسبوع الماضي. وهو مؤسس شركة بلغارية ذكرت تقارير أنها جزء من سلسلة توريد أجهزة البيجر.

وقالت شرطة أوسلو، في رسالة عبر البريد الإلكتروني لوكالة «رويترز» للأنباء، «أمس، 25 سبتمبر/أيلول، تلقت شرطة أوسلو بلاغاً عن شخص مفقود فيما يتعلق بقضية البيجر».

وأضافت «فتحت الشرطة قضية أشخاص مفقودين، وأرسلنا مذكرة دولية (للبحث) عن الشخص».

وأحجم فوسه عن التعليق على مسألة أجهزة البيجر عند الاتصال به هاتفياً، يوم (الأربعاء) الموافق 18 سبتمبر (أيلول)، وأنهى المكالمة عندما سُئل عن الشركة البلغارية. ولم يستجب لعدة محاولات للتواصل معه عبر مكالمات هاتفية ورسائل نصية.

وقالت شركة «دي إن ميديا» النرويجية التي يعمل بها فوسه إنه غادر لحضور مؤتمر في بوسطن في 17 سبتمبر (أيلول)، ولم تتمكن الشركة من الوصول إليه منذ اليوم التالي. ويعمل فوسه في قسم المبيعات بالشركة.

ووفقاً لسجل الشركات البلغارية أسس فوسه شركة «نورتا جلوبال» ومقرها صوفيا في 2022. وتحقق بلغاريا في دور الشركة في توريد أجهزة البيجر المفخخة، لكنها لم تعثر على أي دليل على تصنيعها في البلاد أو تصديرها منها.

وفي وقت سابق اليوم، قال الادعاء في تايوان إنه استجوب حتى الآن 4 شهود في تحقيقاته بشأن شركة تايوانية على صلة بأجهزة البيجر التي انفجرت الأسبوع الماضي في لبنان.

وقالت مصادر أمنية إن إسرائيل مسؤولة عن انفجارات أجهزة اللاسلكي التي زادت من حدة الصراع المتنامي مع جماعة «حزب الله» اللبنانية، ولم تؤكد إسرائيل أو تنفي تورطها.

وما زالت كيفية زرع المتفجرات في أجهزة البيجر، ومتى حدث ذلك، وتفجيرها عن بُعد، لغزاً لم يتم حله. واستدعت عمليات البحث عن أجوبة تحقيقات في تايوان وبلغاريا والنرويج ورومانيا.

ونفت شركة «جولد أبوللو»، ومقرها تايوان، الأسبوع الماضي تصنيع الأجهزة المستخدمة في الهجوم، وقالت إن شركة «بي إيه سي» في المجر لديها ترخيص لاستخدام علامتها التجارية. كما قالت حكومة تايوان إن أجهزة البيجر لم تُصنع في تايوان.

وقال متحدث باسم مكتب الادعاء العام لمنطقة شيلين في تايبه، الذي يقود التحقيق في قضية «جولد أبوللو»، إنه جرى استجواب موظف حالي وموظف سابق، بصفتهما شاهدين، إضافة إلى شخصين الأسبوع الماضي.

وأضاف المتحدث: «نحقق في هذه القضية على وجه السرعة، ونسعى إلى حلها في أقرب وقت ممكن». وأحجم عن ذكر اسمي الشخصين اللذين جرى استجوابهما، أو القول ما إذا كان المدعون يخططون لاستجواب مزيد.

وفي الأسبوع الماضي، استجوب ممثلو الادعاء رئيس شركة «جولد أبوللو» ومؤسسها هسو تشينج كوانج، وتيريزا وو الموظفة الوحيدة في شركة تدعى «أبوللو سيستمز».

ولم تعلق «جولد أبوللو» على هذا التحقيق، ولم ترد على طلب آخر للتعليق، الخميس.