لا يزال محمد سلام، وهو اسم مستعار لصحافي يمني، يعاني من نوبات اكتئاب حادة تدفعه إلى التفكير بالانتحار، رغم حرصه على اتباع تعليمات الأطباء وتناول الأدوية في أوقاتها، ومراقبة عائلته لحالته باستمرار، وإبلاغ الطبيب الأقرب لها بأي تطورات.
وعانى سلام من اضطرابات نفسية عديدة، وصلت به إلى حد الهلاوس السمعية والشكوك بمن حوله، وذلك بعد تعرضه للاختطاف والتعذيب لدى الجماعة الحوثية أثناء محاولته تغطية الحرب لصحيفة دولية في محافظة البيضاء منذ أعوام عدة، وكان قد اختار هذه المحافظة لاعتقاده أنه سيكون فيها بعيداً عن أنظار الجماعة.
وبعد الإفراج عنه، عاد سلام إلى قريته الواقعة على خطوط المواجهات في محافظة لحج، حيث أدى تعرض منزله للقصف إلى مفاقمة حالته النفسية، ما أجبر عائلته على بيع بعض ممتلكاتها لنقله إلى الخارج للعلاج، لكنه عاد ليواجه البطالة ويحمل نفسه المسؤولية عن سوء الأوضاع المعيشية لعائلته التي زادت فقراً بسبب علاجه، بحسب شهادة شقيقه لـ«الشرق الأوسط».
وسلام هو أحد اليمنيين الذين قالت منظمة دولية إن ربعهم يعانون من اضطرابات نفسية ناتجة عن الضغوط والصدمات المتتابعة بفعل الصراع المستمر في البلاد منذ ما يقارب العقد.
وذكرت منظمة العمل ضد الجوع (AAH)، في تقرير حديث لها، أن ما أكثر من 8 ملايين يمني، يواجهون اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة والفصام.
وبحسب الدراسات الاستقصائية التي أجرتها المنظمة والبيانات التي جمعتها، فإن استمرار الصراع والنزوح القسري وتدهور الوضع الاقتصادي والفقر ونقص الغذاء يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات النفسية، التي تؤثر على جميع المجتمعات والفئات الاجتماعية في البلاد.
أزمة رعاية صحية
أشارت المنظمة إلى أن ضعف الرعاية الصحية في البلاد يعد أحد عوامل مضاعفة هذه الاضطرابات، خصوصاً في جانب الرعاية النفسية، فإلى جانب حجم أزمة الصحة العامة؛ لا يوجد برنامج وطني للصحة النفسية في اليمن، و10 في المائة من مرافق الرعاية الصحية الأولية في البلاد فقط تمتلك كوادر مؤهلة لتحديد الاضطرابات النفسية أو علاجها.
وطبقاً للتقرير، فإن خوف العائلات على سمعتها من وصم أفرادها المصابين باضطرابات نفسية بالجنون، يتسبب في إعاقة وتأخير علاجهم في الوقت المناسب قبل تفاقم حالاتهم، إضافة إلى عدم الاهتمام بالصحة النفسية أو الثقة بالمهن ذات الصلة بقضايا الصحة العقلية، وهو ما يقلل من رغبة الطلاب في دراسة الطب النفسي والعقلي.
ودعت المنظمة إلى العمل من أجل أن يتمتع اليمنيون بحق الصحة النفسية بوصفها حقاً إنسانياً عالمياً، خصوصاً مع زيادة عدد الأشخاص المحتاجين ومحدودية الخدمات المقدمة في هذا الجانب.
يقول موظف محلي في إحدى هيئات الأمم المتحدة العاملة في اليمن لـ«الشرق الأوسط»، إن الاضطرابات النفسية التي تصاعدت في اليمن خلال الأعوام الأخيرة لم تنجُ أي محافظة منها، حتى تلك البعيدة عن المعارك والاضطرابات، إلا أن مناطق المواجهات كانت الأكثر من حيث أعداد المصابين بالاضطرابات ونوعيتها.
فهناك - طبقاً للموظف الذي اشترط إخفاء بياناته نظراً لعدم امتلاكه صلاحية الحديث لوسائل الإعلام - من يعانون فقط من القلق والاكتئاب والنزوع إلى العزلة وبعض الاضطرابات السلوكية، غير أن مناطق المواجهات العسكرية أو الواقعة تحت سلطات تمارس الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان تشهد تصاعداً في حالات الاكتئاب الحاد والاضطراب ثنائي القطب وحالات انتحار متزايدة.
الضغوط المعيشية
قدر صندوق الأمم المتحدة للسكان، خلال العام الماضي، أن 120 ألفاً فقط من بين 7 ملايين يمني، من إجمالي المصابين بالأمراض النفسية بحسب الإحصائيات الأممية، يستطيعون الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية النفسية.
وتوضح الطبيبة النفسية آمال الريامي أن الأوضاع المعيشية الصعبة والقلق على الحياة الشخصية وحياة ومصير من يهتم المرء لهم، تجعله في حالة استنزاف سريعة لقدراته الذهنية وطاقته النفسية، ما يؤدي إلى دخوله في مرحلة الاضطراب النفسي، التي تتفاقم بسبب عدم معالجتها منذ بدايتها، أو غياب الرعاية والاهتمام والتقدير من المحيط الاجتماعي.
وتتابع الريامي، في حديثها لـ«الشرق الأوسط»، أن المخاوف المتعلقة بالأمن الاجتماعي والاقتصادي وحتى السلامة الجسدية، وهي المخاوف التي يواجهها غالبية اليمنيين؛ تدفع أي فرد يحمل مسؤوليات، سواء تجاه نفسه فقط، أو تجاه آخرين إلى الإضرار بنفسه من خلال الهواجس والوساوس القهرية، التي تتطور إلى الخوف من الآخرين والقلق من كل ما يحيط به، وقد تصل إلى الهلاوس السمعية وحتى البصرية.
وكانت وزارة الصحة في الحكومة اليمنية أعلنت قبل أربعة أعوام أن عدد الأطباء النفسيين العاملين في القطاع الرسمي بلغ 59 طبيباً، أي بمعدل طبيب واحد لكل نصف مليون فرد، في حين لا يزيد عدد العاملين الصحيين المتخصّصين على 300 عامل، وتشير الإحصائيات الرسمية إلى وجود سرير نفسي واحد لكل 200 ألف فرد.
وخصص صندوق الأمم المتحدة للسكان جزءاً من التمويل الذي حصل عليه من الوكالة الأميركية للتنمية لصالح أنشطته في اليمن، والمقدر بـ23 مليون دولار، لتوفير خدمات الدعم النفسي الاجتماعي في 14 مستشفى و4 عيادات متنقلة، إضافة إلى دعم 20 مساحة آمنة للنساء والفتيات لتقديم الرعاية النفسية.