طوى تحطم طائرة في تركيا، الثلاثاء، الفصل الأخير من مسيرة رئيس أركان القوات التابعة لحكومة الوحدة الوطنية في غرب ليبيا، منهياً على نحو مفاجئ وصادم لعموم الليبيين حياة قائد خرج من صفوف الجيش النظامي، قبل أن تبدّل تحولات ما بعد فبراير (شباط) 2011 مساره ليجد نفسه في صدارة مشهد عسكري تهيمن عليه الميليشيات، في بلد منقسم بين شرق وغرب، ومثقل بفوضى السلاح وتشابكات السياسة.
ويسلّط وزير الدفاع الليبي السابق، اللواء محمد البرغثي، الضوء على دعوة الحداد الدائمة إلى توحيد الجيش الليبي في أكثر من ظهور وتحرك، معيداً في تصريح لـ«الشرق الأوسط» التذكير بتصريحات سابقة للقيادي العسكري الراحل خلال اجتماع حضره رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، حيث أبدى رفضه للحرب، ورهن مستقبل البلاد لانقسامات السياسيين.

لم يكن محمد علي أحمد الحداد اسماً لامعاً في المؤسسة العسكرية الليبية قبل ثورة فبراير عام 2011، بل كان مجرد واحد من ضباط الجيش النظامي، الذين تدرجوا في الرتب داخل منظومة القوات المسلحة في عهد العقيد الراحل معمر القذافي، وفق المسار التقليدي لضباط تلك المرحلة.
وُلد الحداد عام 1966 في مدينة مصراتة غرب ليبيا، والتحق بالكلية العسكرية في طرابلس عام 1985، وتخرج منها ليبدأ مسيرته كضابط في الجيش الليبي، في فترة كانت فيها المؤسسة العسكرية خاضعة بالكامل لسلطة النظام المركزي.
وعلى مدى سنوات خدمته الأولى لم يُعرف عن الحداد تولّيه مناصب قيادية عليا، أو أدواراً سياسية بارزة، وبقي ضمن الإطار الوظيفي العسكري، شأنه شأن آلاف الضباط، الذين عملوا داخل جيش تحكمه اعتبارات الولاء أكثر من الكفاءة، ولا يتيح صعوداً مهنياً حقيقياً خارج الدائرة الضيقة للنظام.
ومع اندلاع أحداث فبراير 2011، انشق الحداد عن قوات الجيش الليبي في عصر القذافي، وانضم إلى صفوف القوى المناهضة له في مدينة مصراتة، في لحظة شكّلت نقطة التحول الكبرى في مسيرته. ومنذ تلك المرحلة، بدأ اسمه يظهر تدريجياً داخل التشكيلات المسلحة، التي تشكّلت في غرب البلاد بعد سقوط النظام.
وسرعان ما برز كقائد ميداني، حيث انخرط في إطار ميليشيات مدينة مصراتة، وارتبط اسمه بما يعرف بـ«لواء الحلبوص»، أحد أبرز التشكيلات المسلحة هناك، ضمن التشكيلات التي لعبت دوراً عسكرياً في الصراعات، التي شهدتها ليبيا خلال السنوات التالية، دون أن تكون جزءاً من جيش موحد.
بعد اتفاق مدينة الصخيرات المغربية 2015، كانت العودة للمسار العسكري النظامي، حين عُيّن الحداد قائداً للمنطقة العسكرية الوسطى بقرار من حكومة الوفاق السابقة، برئاسة فائز السراج، وهو أول منصب رسمي رفيع يتولاه في مرحلة ما بعد القذافي. لكنه تعرض لمحاولة اختطاف عقب خروجه من اجتماع عسكري، بصفته الجديدة، في مدينة مصراتة، مسقط رأسه، مطلع سبتمبر (أيلول) 2018، إثر مشادة كلامية مع بعض المجموعات.

ولاحقاً، برز اسم الحداد خلال الدفاع عن طرابلس أمام حرب العاصمة طرابلس، التي اندلعت بين قوات «الجيش الوطني»، بقيادة المشير خليفة حفتر، وبين قوات حكومة الوفاق (عامي 2019 و2020)، حيث قاد عمليات دفاعية ناجحة، وساهم في احتواء صراعات داخلية.
وفي أغسطس (آب) 2020، عيّنه السراج رئيساً للأركان العامة، مع ترقيته إلى فريق أول ركن، واستمر في المنصب بعد تشكيل حكومة الوحدة عام 2021، حيث بلغ الحداد ذروة مسيرته في هذا المنصب، الذي ظل موضع جدل واسع، نظراً لغياب جيش موحد فعلياً في غرب ليبيا، واستمرار الانقسام العسكري بين الشرق والغرب، وتغوّل الميليشيات وقادتها ونفوذهم، وغياب السيطرة المركزية على السلاح والقوات.
وجاء هذا التعيين في سياق محاولات السلطة في طرابلس فرض هياكل عسكرية شكلية، في ظل واقع تهيمن عليه التشكيلات المسلحة والانقسام الجغرافي والسياسي.
وشارك الحداد بنشاط في أعمال اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، برعاية الأمم المتحدة، لتثبيت وقف إطلاق النار وبناء جيش موحد، حيث نسج علاقات دولية واسعة، خاصة مع تركيا وإيطاليا، لتعزيز التعاون الأمني.
ورغم ظهوره في مناسبات رسمية داخلية وخارجية، ظل منصبه محاطاً بتساؤلات حول الصلاحيات، في ظل واقع ميداني لا يعترف بهيكل قيادة واحدة.

رحل الحداد عن 59 عاماً، بعد أن لقي مصرعه مع عدد من كبار الضباط ومرافقيه، إثر تحطم الطائرة التي أقلّتهم بعد إقلاعها من العاصمة التركية أنقرة أثناء عودتهم من مهمة رسمية، في حادث أعاد فتح الأسئلة القديمة حول طبيعة المؤسسة العسكرية الليبية، وحدود المناصب التي نشأت في ظل الانقسام.
غير أن وزير الدفاع الليبي السابق، محمد البرغثي، يعتقد «صعوبة تعويض الفراغ الذي سيخلفه الحداد، بالنظر إلى كونه ضابطاً محترفاً خرج من رحم المؤسسة العسكرية، مقارنة بغيره من القادة الميليشياويين في غرب ليبيا»، مشيراً أيضاً إلى «انحيازه للعقيدة الوطنية التاريخية للجيش، وإيمانه بضرورة توحيده والنأي به عن تجاذبات السياسة».

وبرحيل الحداد، تُطوى صفحة ضابط مثّلت مسيرته تحولات ليبيا نفسها؛ من جيش مركزي جامد، إلى فوضى السلاح، ثم إلى محاولات بناء هياكل عسكرية لم تكتمل. مسيرة لم تبدأ كنجم، ولم تنتهِ بإجماع، حيث ظل الحداد عنواناً لتناقض لم تُحسم فصوله بعد بين الرتبة والواقع، لكنها تعكس بدقة تعقيدات الدولة الليبية في مرحلة ما بعد 2011.





