بينما كانت العلاقات الجزائرية - الفرنسية تسير في منحى تصعيدي، بسبب النشاط اللافت لانفصاليي منطقة القبائل، قررت باريس في اللحظة الأخيرة، إلغاء حفل كان الانفصاليون يعتزمون تنظيمه، الأحد، لإعلان «دولة القبائل المستقلة»، وهو ما يعني إنقاذ العلاقات الثنائية من انهيار كامل وشيك.
وأفادت «حركة الحكم الذاتي في القبائل» النشطة بفرنسا، ليل السبت - الأحد، في بيان، أن «لجنة تنظيم إعلان استقلال القبائل أخذت علماً، وبأسف، بالقرار الصادر عن محافظة إيفلين (غرب باريس)، القاضي بمنع إقامة المراسم التي كان من المقرر تنظيمها يوم الأحد 14 ديسمبر (كانون الأول) 2025 في قصر المؤتمرات بفرساي».

وحسب البيان، «يستند القرار إلى دوافع أمنية... وبرغم اطلاع اللجنة على هذا التعليل، فإنها تُبدي تحفظات جدّية بشأن الطبيعة الحقيقية لهذه المبررات، التي قد تكون ناتجة عن ضغوط مارستها السلطات الجزائرية»، مشيراً إلى أنه «تقرر رفع دعوى استعجالية، تحت إجراء حماية الحريات، من أجل الحصول على تعليق عاجل لهذا القرار طبقاً للأحكام القانونية المعمول بها».
وأضاف بيان الانفصاليين: «في حال إلغاء القرار من طرف القضاء الإداري، ستُقام المراسم كما كان مخططاً لها في الأصل. أما في حال عدم إلغاء القرار، فسيتم إعلان استقلال القبائل هذا الأحد، في صيغة أكثر محدودية وفي مكان غير مُعلن. وسيُبث الإعلان علناً عبر وسائلنا الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي ابتداءً من الساعة السادسة مساءً».
ولفت البيان نفسه إلى أن «ضيوفاً أجانب مرموقين كانوا سيحضرون الحفل، إلى جانب مناضلين ومتعاطفين قطعوا مسافات طويلة للمشاركة في هذه المراسم التاريخية».
ويشار إلى أن التنظيم الانفصالي، المعروف اختصاراً بـ«ماك»، وضعته الجزائر على لائحة «الإرهاب» عام 2021، وأطلق قضاؤها مذكرة اعتقال دولية ضد زعيمه المطرب الأمازيغي اللاجئ بفرنسا فرحات مهني، بعد إدانته بالسجن 20 سنة بتهمة «الإرهاب».
براغماتية سياسية
ويفهم قرار منع تظاهرة «إعلان دولة القبائل المستقلة» على أنه «مبادرة ودية» من جانب فرنسا تجاه الجزائر، في تقدير مراقبين، خصوصاً أنها أظهرت حرصاً كبيراً على ترميم العلاقات مع مستعمرتها السابقة، التي شهدت تدهوراً غير مسبوق منذ أكثر من عام على خلفية غضب الجزائر من انحياز «الإليزيه» للمغرب في نزاع الصحراء.

وجاء هذا المنع في سياق ترتيبات جارية منذ أسبوعين، لزيارة وزير الداخلية الفرنسي لوران نونييز إلى الجزائر للبحث في ملفات متعلقة بالأمن والهجرة غير النظامية... ولم يكن ممكناً، في تقدير المراقبين، أن تسمح فرنسا بمبادرة كانت ستتسبب في انهيار التقارب الذي شهدته العلاقات الثنائية في المدة الأخيرة.
وحول هذا الموضوع، كتب الناشط السياسي الجزائري المقيم بفرنسا، خالد فرحات، بحسابه بالإعلام الاجتماعي: «إن قرار محافظة إيفلين بمنع حركة الحكم الذاتي في القبائل، من تنظيم حفل موقع عمومي، لا يندرج في إطار الحفاظ على النظام العام، بل يعكس خياراً سياسياً واضحاً ومتعمداً. فقد أدركت فرنسا تماماً أن السماح للتنظيم الانفصالي بإعلان استقلال القبائل علناً على أراضيها، سيُعدّ عملاً سياسياً بالغ الخطورة، قد تترتب عليه تداعيات جسيمة على أي مسعى مستقبلي لتطبيع العلاقات أو تعزيز التعاون الدبلوماسي مع الجزائر».
وصرح الناشط بأن السلطات الفرنسية «حرصت، من خلال هذا المنع، على تجنب استفزاز الدولة الجزائرية، وهي تدرك أن مثل هذا الحدث كان سيُفسَّر على أنه اعتراف ضمني بحركة انفصالية. ويُجسّد هذا القرار مرة أخرى واقع البراغماتية السياسية الفرنسية، حيث تتقدّم المصالح الاستراتيجية والدبلوماسية على المبادئ المعلنة لحرية التعبير والتعددية السياسية».

وأضاف: «بهذا، اختارت فرنسا منطق الوقاية من الأضرار الدبلوماسية، معترفة ضمنياً بأن القضية القبائلية ملف شديد الحساسية، وقادر على زعزعة العلاقات الثنائية. كما يُظهر هذا الرفض أنه عندما ترتفع الرهانات الجيوسياسية، تصبح الحقوق السياسية مشروطة وانتقائية». وتابع الناشط قراءته للحدث: «بالنسبة إلى القبائل، يؤكد هذا الحدث أن مطلبها في تقرير المصير لا يصطدم فقط بالقمع الداخلي، بل كذلك بالقيود التي تفرضها التوازنات الدولية، حيث يتغلب الاستقرار الدبلوماسي على عالمية الحقوق».
داخلياً كانت السلطات قد شنّت في الأيام الأخيرة، حملة عنيفة ضد فرنسا عن طريق وسائل الإعلام، واتهمتها بـ«التساهل مع حركة تبحث عن تقسيم الجزائر»، وبأن «ما عجزت فرنسا عن تحقيقه خلال فترة الاستعمار (1954-1962) تسعى اليوم لاستدراكه بواسطة خونة ومرتزقة يعيشون بكل حرية فوق أرضها».
استنكار حزبي
كما اتخذت أصوات كثيرة مواقف رافضة للمغامرة الانفصالية لحركة «ماك»؛ إذ أثار مشروعها الانفصالي موجة استنكار غير مسبوقة، حيث جدّد كلٌّ من «جبهة القوى الاشتراكية» و«التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية» و«حزب العمال»، وهي ثلاثة أحزاب راسخة الحضور في منطقة القبائل، تمسّكها بوحدة الجزائر.
وقالت «حركة مجتمع السلم» الإسلامية في بيان السبت، إنها «تابعت ببالغ الاستنكار والرفض، الانزلاقات الخطيرة والمناورات اليائسة الصادرة عن كيان (ماك) المصنف إرهابياً، وما يروج له من دعوى انفصالية، تندرج ضمن مخططات تقسيم وتفكيك الوحدة الوطنية وضرب استقرار الجزائر، خدمة لأجندات خارجية معادية مرتبطة بالخلفيات الاستعمارية والمشاريع الوظيفية».

من جهته، كتب المؤرخ والمثقف محمد أرزقي فراد، المعروف بكتاباته عن تراث وتاريخ منطقة القبائل، في مقال نشره موقع «الخبر» الأحد: «لا شكّ أنّ النزعة الانفصالية بذرة غريبة عن مجتمعنا، خرجت من رحم المخابر الكولونيالية في القرن الـ19 في إطار سياسة فرّق تسد وقد تصدى لها أجدادنا بنجاح طيلة فترة الاحتلال الفرنسي، لكنها لم تلبث أن عادت إلى الواجهة بعد استرجاع السيادة الوطنية، لأسباب كثيرة، منها إقصاء العنصر الأمازيغي من الشخصية الوطنية، وهو خطأ ارتكب في مطلع الاستقلال حسب شهادة الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي»، وزير الثقافة والتعليم بين 1965 و1970 الذي توفي في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025.




