مثل اليوم الخميس الصحافي الجزائري المعروف، سعيد بوعقبة، أمام قاضي التحقيق بمحكمة العاصمة، للاستماع إليه بشأن شكوى رفعتها ضده عائلة الرئيس السابق أحمد بن بلة، وذلك على خلفية سلسلة حوارات بثتها منصة إخبارية على «يوتيوب»، ذكر فيها أن قائدين بارزين في ثورة التحرير (1954-1962)، أحدهما بن بلة، قد «استوليا على أموال جبهة التحرير الوطني»، أو ما يعرف بـ«كنز الثورة».

اعتقلت الشرطة بوعقبة (79 سنة)، مساء الأربعاء، من بيته بأعالي العاصمة، واقتادته إلى مركز الأمن، حيث جرى استجوابه بشأن تصريحات مثيرة أدلى بها لمنصة «رؤية»، التي تبث برامجها على الإنترنت. وتم إبلاغه بأنه محل شكوى من إحدى ابنتي الرئيس الراحل أحمد بن بلة (1916-2012)، الذي حكم البلاد مباشرة بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1962. وأُطلق سراح بوعقبة ليلاً، وسلمته الشرطة استدعاءً من القضاء للحضور أمام محكمة بئر مراد رايس بالعاصمة في اليوم التالي.
وتناول بوعقبة، لدى خوضه في فترة حكم بن بلة (1962-1965)، «ملف أموال جبهة التحرير الوطني في سويسرا»، حيث استند إلى كتاب عنوانه: «المتطرّف: فرنسوا جونو... من هتلر إلى كارلوس»، من تأليف الكاتب الصحافي الفرنسي بيار بيّان (توفي في 2019)، يتضمن اتهامات صريحة للرئيس بن بلة، وقيادي الثورة الكبير محمد خيدر، الذي اغتيل في مدريد عام 1967.
وأوضح بوعقبة أن فرنسوا جونو كان ضابطاً سابقاً في المخابرات الألمانية خلال حكم هتلر، وأنه انخرط في مساعدة ثورات التحرير في عدد من بلدان العالم، ومنها الجزائر. مؤكداً، وفق الكتاب، أنه سافر إلى القاهرة في منتصف الخمسينات، حيث التقى قادة حرب التحرير الجزائرية، الذين احتضنتهم مصر في فترة حكم جمال عبد الناصر. وفيها تعرف على فتحي الذيب، رجل المخابرات المصرية، الذي كلفه الرئيس الراحل عبد الناصر بحشد الدعم للثورة الجزائرية.
دور غامض لضابط مخابرات ومصرفي ألماني
يعرض الكتاب مسار جونو منذ تبنّيه للأفكار القومية الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انضمامه للنازية، وتولّيه بعد الحرب دوراً غريباً وفريداً بوصف أنه منفّذ لوصايا هتلر. كما يستعرض انتقاله إلى دعم القضايا العربية في الخمسينات والستينات، وارتباطه ببعض التنظيمات أو الشخصيات التي أثارت الكثير من التساؤلات في السبعينات، حيث صُور أحياناً على أنه أحد العقول التي تتحرك في خلفية بعض الشبكات الدولية.

وبحكم شغله مصرفياً زيادة على صفته العسكرية، استعانت الجزائر المستقلة بفرنسوا جونو في تنظيم جهازها الأمني، وفي طبع عملتها، وإطلاق شبكة بنكية. وقال بوعقبة إن «قرب جونو من بن بلة رشحه ليكون مديراً لبنك تم تأسيسه في سويسرا لإدارة أموال الثورة، التي تم جمعها من أموال الجزائريين». وضمن هذا المشروع، اختار بن بلة خيدر أميناً على هذه الأموال.
كما تناول بوعقبة «قضية تصرف خيدر في أموال جبهة التحرير»، الأمر الذي أثار حفيظة بن بلة، وذكر أن هذا الأخير تصرف في تلك الأموال لفائدته، وهو ما أزعج ابنة الرئيس ودفعها لرفع شكوى ضد بوعقبة.
يشار إلى أن بن بلة أزيح من الحكم في انقلاب دبره ونفذه وزير دفاعه هواري بومدين في 19 يونيو (حزيران) 1965.

يسرد الكتاب، الصادر أول مرة عام 1996، تفاصيل «مصير خزينة جبهة التحرير الوطني» بدقة، حسب بوعقبة، مشيراً إلى أن عائلتي بن بلة وخيضر لم تنفيا رواية «سرقة الأموال» الواردة فيه. ويلاحظ أن تهمة تحويل الأموال وُجهت من قبل بوعقبة بشكل مركز إلى خيضر، بينما تشير بعض الشهادات التاريخية إلى أن اغتياله في المنفى كان مرتبطاً بهذه القضية.
رواية لم تنفها عائلتا بن بلة وخيضر
مما قاله الكتاب بهذا الخصوص: «إن الدليل على صحة شهادة جونو هو ما أعلنته عائلة خيضر نفسها بعد وفاته، حيث ذكر ابن خيضر في كتاب أنهم اتصلوا بالرئيسين هواري بومدين ثم الشاذلي بن جديد، لاحقاً، لإعادة الأموال. وهنا يطرح السؤال الجوهري: كيف انتقلت أموال جبهة التحرير الوطني إلى ملكية عائلة خيضر الخاصة؟ وهل تم ذلك بالوراثة؟ هذه العملية تدل على أنه تم نقل ملكية الأموال من ملكية الجبهة إلى ملكيته الخاصة، وبأي حق تم هذا الإجراء؟».

ويُقصد بـ«خزينة جبهة التحرير الوطني» الأموال التي جمعتها جبهة التحرير الوطني خلال حرب الاستقلال من اشتراكات العمال الجزائريين في الخارج، ومن دعم بعض الدول، ومن شبكات تمويل سرية. وكانت هذه الأموال تدار غالباً خارج الجزائر، وخاصة في سويسرا عبر حسابات خاصة، وأشخاص وُصفوا بأنهم مقرّبون من الجبهة، من بينهم المصرفي السويسري فرنسوا جونو، الذي ارتبط اسمه بإدارة جزء من هذه الموارد.
وبعد الاستقلال ظل مصير هذه الأموال غامـضاً، واندلعت خلافات داخلية حادة حول من يملك الحق في التصرف فيها، وتبادل قادة الجبهة الاتهامات بشأن تحويلها، أو احتجازها. ومع غياب الوثائق ووفاة عدد من المعنيين، بقي الموضوع محاطاً بالسرية، والجدل، وأقرب إلى رواية غير مكتملة منه إلى حقيقة موثقة.
ويعد بوعقبة من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الجزائر. ففي مطلع 2018 تعرض للاعتقال إثر شكوى تقدّم بها أعيان ولاية الجلفة (300كلم جنوب العاصمة)، عقب نشره مقالاً ساخراً عن سكانها في عموده اليومي «نقطة نظام».

وفي أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام 2023 دانت المحكمة الصحافي بتهمتي «التحريض على الكراهية»، و«نشر منشورات تسيء للمصلحة الوطنية»، وقضت بسجنه لمدة عام، منها ستة أشهر نافذة، بالإضافة إلى غرامة مالية قدرها 200 ألف دينار (نحو 1500 دولار)، غير أنه لم ينفَذ الحكم ضد بوعقبة، لكنه لم يستعد إلى اليوم جواز السفر الذي سحب منه على خلفية هذه القضية.




